خالد محمد الدوس
سوء الظن بالناس من الظواهر الاجتماعية (المرضية) القديمة الموجودة في المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، ومن أخطر الفيروسات التي تصيب جسد العلاقات الاجتماعية وتفتك بالحياة الأسرية وتضعف بالتالي مناعة المجتمع، إذا انتشر هذا السرطان الخبيث داخل النسيج المجتمعي. ومن المضاعفات الخطيرة لهذا الداء النفسي الاجتماعي ظهور كثير من الأمراض الاجتماعية والمثالب النفسية التي قد تتمخَّض عنها.. كالطلاق والتفكك الأسري والعنف المنزلي، وخلخلة الروابط الإنسانية بين الأصدقاء والأقارب، والمخاوف المرضية والاضطرابات الشخصية... إلخ، ولخطورة هذه الآفة المرضية التي تتنافى مع قواعد الضبط الديني والأخلاقي والقيمي.. وتأثيرها على الفرد والأسرة والمجتمع بوجه عام، نهى الله -عز وجل- عن ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (12) سورة الحجرات، كما حذر الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام - من سوء الظن الذي يفتك بالعلاقات الإنسانية ويُدمّر الحياة الأسرية ويمزّق روابط الألفة بين الناس.. في قوله (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)، ومعروف أن الشك غير السوي الذي يُسمى في علم النفس (بالشك المرضي) سواء كان سمة شخصية أو عرضاً لاضطراب عقلي يؤدي إلى كثير من المشاكل والمثالب خصوصاً في الحياة الأسرية، وهذه الآفة المرضية التي تنخر في مفاصل الحياة الزوجية وتدمر بنيانها، إذا دخلت النسيج الأسري هربت السعادة بألوانها الجميلة من النوافذ، وحضرت التعاسة الزوجية بمظاهرها الإحباطية ومشاعرها العدائية، وبالتالي قد تهدد الاستقرار المنزلي وتحوِّله إلى واقع مؤلم يعيش صراعاً عاطفياً ونفسياً وأسرياً قد ينتهي بانفجار بالون الطلاق، فالشك ومثالبه بطبيعته يقتل روح المودة والمحبة، ويخنق العواطف والمشاعر، ويُدمّر معاني الرحمة والإحسان، ويهدد الاستقرار والأمان في الحياة الزوجية.. خصوصاً «الشك المرضي» المبني على أوهام ووسواس وظنون وارتياب واتهامات وتزييف الواقع الذي يدفع بصاحبه لتتبع العورات والبحث عن الزلات والتنقيب عن السقطات، وبالتالي قد يؤدي إلى نتائج خطيرة غير محمودة العواقب، وهذه الحلات المرضية هي نتاج خلل وظيفي في التنشئة النفسية والعقلية والفكرية والأسرية والعقائدية للشخصية الشكّاكة في طفولتها، وكذلك الشعور بالحرمان والقسوة والخوف يُولِّد لدى الطفل إحساساً بالخوف من المحيط الاجتماعي، مما يبعث في النفس زيادة الحذر والحيطة من الناس خصوصاً عند بلوغ سن المراهقة، وبالتالي تصبح هذه الشخصية - كيميائياً - تميل إلى العناد والتحدي والعنف والحذر الزائد والشك والارتياب داخل المحيط الاجتماعي أو الأسري.. كما تدخل العوامل العاطفية والاقتصادية والدينية والثقافية في تشكيل هذا المرض النفسي الاجتماعي، وانتشار أسقامه في نسيج العلاقات الاجتماعية، ولذلك ينبغي إشاعة ثقافة حسن الظن ومنطلقاته الأخلاقية والقيمية في الحياة الاجتماعية، هذه القيم الواعية التي تؤدي إلى سلامة الصدور وتآلف القلوب، وتسامي النفوس، وتصافح المشاعر، وتُعمّق روح المحبة وتدعم روابطها الوجدانية بين أبناء المجتمع، تقع مسؤولية نشرها على كاهل المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية والتعليمية والإعلامية التي تلعب دوراً محورياً، وحراكاً بنيوياً.. في النهوض بقالب التوعية المجتمعية وتنمية اتجاهاتها الحضارية الأخلاقية والسلوكية.. ورحمَ الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي كان في منهج حياته الاجتماعية والأسرية يحمل الكلام على أحسن المحامل.. مغلقاً (نوافذ) الشر والشك والريبة وسوء الظن، عبر مقولته الشهيرة «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرّاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً».. وأخيراً ومن أجل المحافظة على علاقاتنا الإنسانية والاجتماعية والأسرية، ليكن منطلق سلوكنا الحضاري ومنهجنا الأخلاقي وتفاعلنا الاجتماعي من مضمار «التمس الأعذار للآخرين».