د. طارق بن محمد بن حزام
أصبح واضحا أن الجيل الجديد يتلقى المعرفة والثقافة والقيم من وسائل الاتصال وتطبيقاتها الكثيرة، وما تقدمه مجانا من موضوعات متجددة فاتنة جذابة، متنوعة مناسبة لمراحل العمر، ومتناغمة مع مختلف مستويات الإدراك والفهم والاستيعاب.
هوية جيل الألفية الجديدة الرقمية ولدت في فضاء وسائل الاتصال والذكاء ولدت في فضاء الذكاء الاصطناعي المتدفق كشلال هادر.
الهوية الرقمية لا تشبه أية من الهويات الدينية والعقدية والأيديولوجية الموروثة، الهوية الرقمية سيالة في صورة سريعة التحول، لا تستقر على حال أبدا ولا تلبث في حالة واحدة لأعوام، أو حتى عام واحد وهذا يعني أن الجيل الجديد يتفاعل بنحو مختلف عن الهويات الرقمية وينتمي إليها بطريقته لا كما كان يجري في الانتماء لهويات العصر القديم.
وفي ظل هذا التطورات التقنية، أصبح واضحا أمية بعض الأساتذة الثقافية والرقمية وهي ليست خاصة ببعض الجامعات العربية، بل إنها تغطي أكثر الجامعات التي في المحيط الإقليمي خارج فضاء التعليم العالي العربي ويعود ذلك إلى فقدان الرؤية الاستراتيجية لبناء التربية والثقافة والإعلام في عصر الهوية الرقمية والذكاء الاصطناعي حتى وإن كانت موجودة في بعض البلدان فإنها غير صبورة وهشة مع عدم وجود الحماس للانخراط في العصر الرقمي لدى قيادات، التعليم والافتقار للخبراء المؤهلين تأهيلا جادا لإنجازها، وضعف البنية التحتية المادية والتكنولوجية والمعرفية اللازمة لولادتها وتنميتها.
في عصر الهوية الرقمية يتفاقم اغتراب الأستاذ عن التلميذ واغتراب التلميذ عن أستاذة محدثا تباعدا فكريا يتضخم يوما بعد يوم وينتهي إلى مزيد من الأمية المعرفية والثقافية والرقمية. والتي تنعكس على المحاور التالية:
1- إن زمان التلميذ يختلف عن زمان الأستاذ، وأعني الزمان بمعناه التربوي والتعليمي والرقمي، وليس الزمان بمعناه الفيزيائي.
أغلب الأساتذة يعيشون اغترابا عن حاضرهم، فينحازون بثقة مفرطة للماضي، وكأن كل شيء في ذلك الماضي صواب أبدي.
2- القليل من الأساتذة من جيل الآباء استطاع حضور واقع العالم، ومواكبة الذكاء الاصطناعي والعيش في الواقع، وجوده في عصر الهوية الرقمية المتغيرة، واستثمار ما تقدمه له منصات الاتصال وتطبيقاتها المتنوعة والذكاء الاصطناعي من جديد العلوم والمعارف والثقافات يوميا.
3- عصر الهوية الرقمية يفرض عقلانيته ورؤيته للعالم وقيمه وثقافته، لا يستطيع الإنسان التغلب عليه مهما عاند الانخراط في هذا العصر، أو الاحتماء من آثاره، والتحكم الكامل بحضوره الهائل. ذلك ما يدعو الإنسان في بلادنا لمواكبته، في سياق رؤية تتسع لاستيعاب مكاسبه، وبناء أخلاقيات تقي الإنسان من ارتداداته المربكة والعاصفة.
4- النظام التعليمي الذي يعبر عن المتطلبات التعليمية للتلميذ في عصر الهوية الرقمية، غير النظام التعليمي التقليدي الذي يعرفه الأستاذ ويتعلمه التلميذ كل منهما يفكر بمنطق عقلانية العالم الذي ينتمي إليه، ويتعاطى تقاليده الثقافية ويعتمد نظام قيمه، ويتحدث لغته الخاص، وذلك يعني أن الأستاذ يفتقر لمعرفة لغة التلميذ، والتلميذ يفتقر لمعرفة لغة الأستاذ، فيكون الحوار بينهما بمنزلة حوار الطرشان.
العملية التعليمية عملية ديناميكية وليست ميكانيكية، التلميذ فيها يعلم الأستاذ، مثلما يعلم الأستاذ التلميذ كل منهما ملهم للآخر، ومكون لعقله، ومولد ولوعيه ومحفز لذهنه بطرح الأسئلة وابتكار الأجوبة.
5- عندما تكون العملية التعليمية ميكانيكية تكف عن أن تكون تعليمية، وتفشل في أن تظل ملهمة للتلميذ والأستاذ، وتضمحل فاعلية الأثر والتأثير المتبادل فيها، وفي الأغلب ما يصاب ذهن كل من المعلم والتلميذ بالوهن، ويشعران بالملل والإحباط.
6- تكرار الأستاذ الممل لكلام لا يفقه أسرار اللغة التي ينجذب إليها التلميذ، ولا يدرك طبيعة انفعالاته ومشاعره لا يمكن أن يمنح التلميذ علما ومعرفة ووعيا بعصر الهوية الرقمية التي يعيش فيه، ولن يؤثر في تكوين أسئلته ومتخيله وأحلامه وهمومه المعرفية، ولا صلة له ببناء منظومة قيمة، وتقاليده الثقافية.
وينتهي ذلك إلى أن يتعاطى كل من التلميذ والأستاذ مع العملية التعلمية بوصفها فرضا، كل منهما ملزم بتأديته على شاكلته، الأستاذ تلزمه ضرورات معيشية، والتلميذ تلزمه ضرورات يفرضها الواقع، بغض النظر عن ثمراته ومآلاته.
مأزق أعضاء هيئة التدريس أنهم يعيشون في عصر الهوية الرقمية وهو لا يشبه عصرهم يمضي بسرعة فائقة إلى الأمام لذلك ينسى هذا العصر من لم يتكيف معه، بل سرعان ما يمسي حضوره عبئا عليه فيحذفه من واقعه.
وختاماً...
على المؤسسات التعليمية سرعة المبادرة في إعداد المعلمين والمعلمات ليصبحوا قادة في التعليم الرقمي من خلال تدريبهم على استخدام التقنيات الرقمية، والذكاء الاصطناعي والأدوات التعليمية الحديثة.