طارق مصطفى القزق
يسعى الإنسان للبحث عن التقدير في الحياة، والتقدير من القيم الاجتماعية التي لها أثر إيجابي على الحالة النفسية للشخص المقدر، ويعد التقدير والاحترام أحد القواعد الرئيسة لهرم «ماسلو»، للاحتياجات الإنسانية، ولكن يبقى السؤال الأكثر عمقا هو: إذا اعتبرنا أن كلمة التقدير هي رمزية لكل شيء له مكانة أو قيمة عالية أو غال أو نفيس، فهل معنى هذا أن كل شيء له قيمة عالية يمكن أن يكون له عائد مادي على صاحبه؟!
وتبقى هنا الإشكالية الكبيرة في عصرنا الحالي الذي يطلق عليه عصر المادة، حيث التقدير المصاحب بالمكافآت المادية هو الهدف الأساسي من التقدير ويعد أسمى من التقدير المصاحب بالمديح أو لا مقابل له.
ولا أخفي عليكم أن التقدير المادي مثير ومغر لكل البشر فلا يعقل أن يعيش إنسان دون المال، فالكتب على الرغم ما فيها من كنوز وسحر إلا أنها لن تطعمنا الخبز عندما نجوع..!، لربما هذه الكلمات لترضي الكثير منا ولكنها لن تعجب القليل!، وهؤلاء القليل هم الندرة، فلا يوجد شخص ناجح وثري إلا ويقرأ الكتب ويتعلم منها.
التقدير المادي على رغم من أهميته إلا أنه زائل لا يعطي الحرية الكاملة لصاحبه، فقيمة الحرية هي أعلى من مرتبة من التقدير فإذا امتلكنا الحرية كانت لدينا القدرة على فعل وتحقيق كل ما نصبو إليه؛ وإحدى هذه المشكلات الناتجة عن ارتباط المال بالعلم هو ظهور العلم الزائف وأيديولوجيا العلم- انظر أيديولوجيا العلم في عصر الذكاء الاصطناعي: دراسة نقدية - فالعلماء أصبحوا يلونون ويحرفون الحقائق العلمية من أجل خدمة رجال الأعمال أو لأيديولوجيا سياسية ما، مما يؤدي إلى تحول العلماء والباحثين من الفاعلية الاجتماعية الهاشمية وهذا يعني موت العالم، وموت العالم يعني أن العالم لم تعد لأبحاثه قيمة تجعلها تستمر بعد موته الفيزيائي.
يرتبط مصطلح الهاشمية دائما في علم النفس الاجتماعي بالشخص الذي لم يستطع الاندماج في ثقافتين بشكل تام، ولكن الهاشمية التي أقصدها هي الهاشمية للشخص الذي لم يستطع التكيف مع شروط المجتمع الموضوعة من أجل تحقيق أهدافه الخاصة التي يرضى عنها المجتمع، وعكسها (الانحراف)، ليس الانحراف الشائع استخدامه انتهاك قانون اجتماعي، لا ليس هذا ما قصدته ولكنه شيوع الثقافة الهاشمية بين الناس وهي بالتعبير الدارج «وأنا مالي»، وبمعنى آخر اللامبالاة الاجتماعية وتعني عدم المشاركة الفعالة في بناء المجتمع.
شيوع القيم المادية في المجتمعات وتحولها إلى معتقد اجتماعي أو عادات اجتماعية يؤدي هذا إلى تحول القيم الأخلاقية والروحية إلى ثقافة هامشية من ناحية الممارسة، وربما بشكل أكثر أكاديمية تتحول إلي طوباوية حتى لو كانت بسيطة، أتذكر أحد الأشخاص الذين «أعرفهم عندما ذكرت له ماذا لو خيرت بين الصداقة وبين المال؟! قال لي المال فإنني جائع».
هذا الجوع ليس جوعا لتناول الطعام ولكنه الطمع من أجل الحصول المال حتى لو كان ذلك من خلال الانحراف، ولربما عزيزي القارئ قد تقول معه حق الصداقة في هذا الزمن ليس لها قيمة، هذا ما أرغب سماعه منك، عندما تجبرنا الأزمات الاقتصادية على تغيير الثوابت من قيمنا هنا تكمن الخطورة؛ لأن العلاقات بين الناس في هذه الحالة تكون علاقات متصارعة ملتهبة، تزدهر قيم الميكافيلية والأنانية بوتيرة أسرع مما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة انتشار مذهب الفردية.
إني أؤمن تماما بأن المادة شيء مهم في حياتنا لكي نعيش، وليست قيمة إلزامية تسير كل شيء في حياتنا، ولكن لا بد من التوازن بين القيم المادية والروحية؛ وأعلى مرتبة في القيم الروحية هي قيمة الإيثار ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، مساعدة الناس والمشاركة في قضاء حاجاتهم هو نوع آخر من أنواع آليات الضبط الاجتماعي واستقراره؛ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، وتأكيداً على هذه الحقيقة الإلهية، عندما كنت في أوائل العشرينات من عمري هاجر الأحباء السوريون إلى مصر، طلب أحد الأحباء مني منزلا، وبحثت عن أحد الأصدقاء لديه منزل حينئذ إيجاره 500 جنيه، فطلبت منه أن يخفض السعر حتى أعطاه إياه بالمجان؛ وفي رحلاتي إلى مدينة إسطنبول اجتاح وباء كورونا العالم جعلني مضطرا إلى البقاء في المدينة فترة طويلة ونفد المال مني وكان إيجار غرفتي 500 ليرة تركية!، علم أحد الأصدقاء الأتراك بالواقعة فطلب مني الجلوس في الغرفة وهو سيدفع الخمسمئة ليرة بدلا عني! إلى أن أكرمني الله بالعمل، عجبا تحولت 500 جنيه إلى 500 ليرة!، على الرغم من قساوة الحال حينها إلا أن هذه تجربة جعلتني استمر بمساعدة الناس قبل السفر إلى أي بلد ذاهب إليها ولا سيما المغتربين، لربما إذا احتجت إلى المساعدة وجدت مثلها وأنا بالخارج، إنه يا سادة نوع آخر من الادخار والاستثمار الذي لا خسارة فيه بل تتضاعف أرباحه.
إن أي عمل نقوم به له طاقته وقوته المؤثرة. والمال إحدى الوسائط المادية لإيصال هذه الطاقة لكن تظل هذه الطاقة محفوظة في هذا الوسيط وتنتهي بإنفاقه، لكن العمل الذي لا تبادل متوازن فيه فإن طاقته تظل منتشرة ومحفوظة بلا وسائط إلى أن تعود إلى المصدر الذي خرجت منه؛ وبما أن الطاقة يمكنها أن تتشكل في أي شيء بالإضافة إلى هذا فزيائيا فإن «قانون رد الفعل»، ينص على أن كل فعل يقابله رد فعل مساو له في القدرة والقوة، فإذا الطاقة تعود إلينا في أي شكل كانت على هيئة مال، صديق يساندك، فكرة تفتح لك بابا للعمل، أو غريب يرسله الله لك ليساعدك، حدثني أحد الأصدقاء أنه دعا ربه في نفسه ليحصل على حقيبة لكي يضع فيها أغراضه لكن لا يملك ثمنها، ثم جاء إليه غريب يطلب منه ثمن التذكرة ليركب الحافلة لأنه لا يملك المال فأعطاه بطاقة مواصلات احتياطية يمتلكها وتعرفا على بعضهم البعض، ثم نزل في المحطة نفسها، هذا الرجل يعمل في أحد المحال التجارية المشهورة فأعطاه حقيبة أصلية غالية الثمن نظير هذا المعروف.
هذه القوة والطاقة المنبثقة من فعل الخير، لديها القدرة على شفاء الإنسان فهي لا تقضي حاجة الآخرين ولكنها تشفي فاعل الخير من سقمه، لأن ثقافة التخلي تعيد طاقة الإنسان إلى طبيعتها، المال هو رمز للقيمة لكن بما أن هذه القيمة ترتفع وتنخفض طبقا لحركة السوق مثل التضخم والركود، إذا إنها قيمة زائفة غير حقيقية، على العكس تماما من القيمة العائدة عن فعل الخير فهو حقيقة، لا تتغير قيمته ولكن تختلف أشكاله.
وخلاصة القول: إن العلاقات بين الناس قائمة على التبادل، وهذا ينتج عنه حركة وهي التي تؤدي إلى استمرار المجتمع وهذه الحركة تنبع أساسا من الطاقة التي ينتجها الإنسان. والقيم هي ببساطة نظم ثقافية تنتج عن التفاعل الاجتماعي بين الناس وهذا التفاعل ينتج عنه رموز وأحكام، وجزاءات ومكافآت؛ هذه هي فيزياء القيم الروحية إما أن بها أو إنك حتما سترها.