عبدالعزيز صالح الصالح
عبدالعزيز صالح الصالح
في كل عام يطل على الأمتين العربية الإسلامية هذا الشهر الكريم شهر رمضان المبارك بروحه وريحانته، وفضائله، وبركاته وأمجاده الحاسمة ويجدد فيهم الهمم العالية، والمعاني السامية، والمشاعر النبيلة، ويحرك فيهم نوازع الفطرة، والأخلاق الفاضلة، ويحثهم على الصيام والقيام. فقد قال الشاعر الحكيم:
نور يضئ لنا القلوب
فيشرق الوجدان
بالحب شهر الصوم
والقرآن يلتقيان
ومع الفضائل في
رحاب الله يجتمعان
بشرى تقدمها السماء
لقارئ القرآن
وقال شاعر آخر:
شهر تضئ بنوره الأعوام!!
من بدء... بدء الخلق وهو حرام
شهر أغر... بفجره نزل الهدى
وتحطمت من نوره... أصنام
الصبح فيه من السنا... متألق
والليل فيه مع الصدى... أنغام!!
قمم تلوذ بهديه... وجمال ما
بوحي به... للكائنات صيام!!
ويلوذ سفح للورى... بهداية
منه... وتسمو للورى أفهام!!
وفي هذا الشهر الفضيل يتذكر المسلمون هذه الأمجاد؛ هذه الأحداث التي وقعت فيه هذا الشهر العظيم، ففي هذا الشهر الكريم نزل القرآن الكريم على سيد هذه الأمة محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه كما قال الحق تبارك تعالى في محكم كتابه الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (185) سورة البقرة.
والقرآن الكريم بحد ذاته هداية ونور، وتربية واصطفاء وتوجيه، وبناء، ومدرسة، ومعهد. وفي السنة الثامنة من الهجرة من اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك تم فتح مكة المكرمة الذي أعز به الإسلام، وارتفعت راية الحق خفاقة وكلمة الإيمان مدوية في أنحاء مكة المكرمة بين جبالها العالية وأوديتها المتعددة كما قال الحق تبارك وتعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} سورة النصر (1-3).
فقد كان فتح مكة هو الأمنية الكبرى لنبي الرحمة محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه لما يترتب عليه من أثر بالغ في حياة هذه الدعوة الإسلامية وإذا كان النصر في معركة (بدر الكبرى) تأسيسا لبناء هذه الدولة الإسلامية الفتية، فقد كان فتح مكة بناء الصرح العقيدة الإسلامية... وبهذا الفتح الأكبر الأغر حقق الله تبارك وتعالى لهذا النبي الكريم وعده العظيم - حين أنزل عليه (بالجحفة) وهو مهاجر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (85) سورة القصص.
وبعد هذه الجهود الجبارة والمتواصلة دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة منتصرا وفرحا ومسرورا وهو يردد قول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} سورة الإسراء آية (81).
وبعد أن طهر الكعبة المشرفة من كافة الأوثان والأصنام ومن دنس الشرك وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة قائلا: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) ثم تلا قول الله عزوجل على أمته {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} سورة الحجرات آية (13).
ثم أخذ يناشد أمته يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم... فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمته المأثورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وبعد هذه الكلمة المأثورة والمعبرة عن الصفح والعفو أصبحت بردا وسلاما على تلك القلوب القاسية التي تتحلى بأبجديات الحقد والحسد والكراهية والعداوة والبغضاء لهذا النبي الكريم - فقد ظل النبي عشرين عاما يناشد هؤلاء القوم، ويحاول بشتى الطرق بالنصح والإرشاد والتوجيه، ولكن هؤلاء القوم لا يملكون آذانا صاغية ولا قلوب واعية. إلا أنهم مصرون على عبادة تلك الأوثان والأصنام عبادة الآباء والأجداد وكانوا مع الأسف الشديد يبادلون المودة بالعداوة والإحسان بالإساءة والحقيقة بالكذب والسلام بالحرب فقد ظلوا أعوما طويلة وهم على عنادهم وبعد هذا وذاك كافأهم هذا النبي الكريم بالصفح الجميل والعفو الشامل، إنه نفس نبي هذه الأمة - كما قال: الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، سورة الأنبياء (107). وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} سورة التوبة آية (128).
ففي الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية والتسعين من الهجرة وقعت معركة وادي (لكه) بين المسلمين بقيادة طارق بن زياد وبين (القوط) بقيادة (لذريق) وكان النصر حليف المسلمين وتم بحمد الله تعالى فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة... وأصبحت الأندلس دار إسلام.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان الكريم سنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة - وقعت معركة بين المسلمين بقيادة يوسف بن تاشفين - وجيش الفرنجة بقيادة ألفونسو السادس... وأخذ المسلمون يطاردون أعداءهم وقد تمكن المسلمون من النصر على هؤلاء في هذه المعركة التي تعد من المعارك الحاسمة في التاريخ الإسلامي حيث ضمن للإسلام قوته وعزته في بلاد الأندلس أربعة قرون أخرى.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان الفضيل سنة ثمان وخمسين وستمائة من الهجرة - وقعت معركة عين جالوت بين المسلمين بقيادة السلطان (قطر) وبين التتار بقيادة (كتبغا) لقد أراد الله تعالى على يد الجيش المسلم الصائم أن تتحطم أحلام الصهيونية، كما تحطمت قبلها أحلام التتار، الذين انهزموا أيضا في شهر رمضان في (عين جالوت) فهذه بعض أمجاد الإسلام في شهر رمضان وهذه الأمجاد تشهد بأن الصوم حافز من حوافز الجهاد، ودافع من دوافع النصر والاستشهاد..
والله الموفق والمعين.