عبدالوهاب الفايز
سعدنا بالأصداء الإيجابية لحملة جود الإسكان الرمضانية لهذا العام، والتي استقبلت تبرعات تجاوزت (مليارًا وأربعمئة مليون ريال)، يستفيد منها أكثر من 8600 أسرة سعودية في مختلف مناطق المملكة. والأمر الحيوي في هذه الحملة هو توسيع وتعميق دور أمراء المناطق في التنمية، فقد نجحت الحملة في استثمار حرص أمراء المناطق على خدمة الناس، وأيضا معرفتهم الوثيقة بالمواطنين وتطلعاتهم، وبقدرات رجال الأعمال، وكذلك بالاحتياجات الملحة في الإسكان، مما ساهم في زيادة التبرعات في كل منطقة.
لقد حظيت هذه الحملة بدعم واسع من القيادة، ومن أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ، ومن أصحاب السمو أمراء المناطق، ومن الوزراء، وجعلت من ليالي رمضان (ليالي للجود). وهذا التفاعل الواسع طبيعي نظرًا لحجم التحدي في قطاع الإسكان.
إن نجاح الحملة وتعزز ثقة الناس بالقطاع الخيري يشجعان على مواصلة الحديث حول تطور (نموذج عمل) القطاع غير الربحي السعودي في عام 2024، وهو ما تناوله تقرير مؤسسة الملك خالد، وقد توقفنا عنده في مقال الأسبوع الماضي. اليوم، نواصل الحديث حول ضرورة تفعيل دور (الجمعيات التعاونية) لتوسيع برامج الإسكان في المملكة.
لم يتضمن التقرير تطورا في دور القطاع غير الربحي في برامج الإسكان، وهذا أمر متوقع، فالمساهمات لا تزال محدودة، وربما لا تختلف كثيرًا عن أثر الشركات المساهمة العامة الغائب بدوره في قطاع الإسكان. وللأسف، خلال الثلاثين عامًا الماضية، لم نتوسع في إنشاء الشركات المساهمة العامة في ثلاثة قطاعات تنموية حيوية، هي: التعليم، والإسكان، والصحة. لدينا عشرات الشركات التي جمعت الأموال واستمرت لسنوات طويلة تستثمر في مجالات لا ترقى إلى أهمية هذه المجالات الحيوية والسيادية للتنمية والاستقرار الاجتماعي. وفوق ذلك كله، ظلت تقدم نتائج مالية متواضعة!
السؤال الكبير: إذا كنا نقبل بهوامش مالية ربحية متواضعة من هذه الشركات، فالأجدر أن يكون لدينا كيانات تعمل وتستثمر في القطاعات الحيوية مثل الإسكان.
وضعف المساهمة في الإسكان نجده أيضًا في القطاع غير الربحي. فعلى الرغم من وجود جمعيات وتعاونيات عديدة في مختلف مناطق المملكة، فإن دورها المطلوب ما زال محدودًا. وربما هذا ما دفع إلى تأسيس (المنصة الوطنية للجمعيات السكنية) كمنصة رقمية تهدف إلى تسهيل تأسيس الجمعيات التعاونية السكنية وتنظيم أعمالها، حتى توفّر بيئة محفزة للقطاع التعاوني السكني، ليُسهم في توفير الحلول السكنية للمواطنين، ويسهّل عليهم إنشاء الجمعيات السكنية. كما تتيح هذه المنصة عرض الفرص الاستثمارية والأراضي المتاحة التي يمكن أن تستثمرها الجمعيات التعاونية لتنفيذ مشاريع سكنية تخدم أعضاءها وتُساهم في زيادة المعروض السكني بشكل منظم.
إن نجاح منصة جود الإسكان وتطور الإقبال عليها، واتجاهها لتقديم حلول مبتكرة للإسكان، ونجاحها في تفعيل الشراكة بين المانحين والداعمين، كل هذا النجاح للتجربة السعودية يعزز القناعة بضرورة التوسع في جلب مبادرات وبرامج القطاع التعاوني للمساهمة في الإسكان، وأيضًا لتكون آلية استثمارية تحدث التدخلات الاستراتيجية الضرورية لوضع أسعار الوحدات السكنية عند مستويات معقولة، وتتيح التوسع في تملك المساكن.
وهذا التدخل ضروري لاستقرار الطبقة الوسطى، ومهم لتوفير القدرة المالية التي تمكن الأسرة من العيش في ظل حياة كريمة، وتتيح مجالًا مريحًا للادخار والاستثمار. ومن هنا تأتي أهمية القطاع التعاوني، حيث يقدم خيارات استثمارية متميزة للأفراد، ويساعد الحكومة في رفع مساهمة القطاع غير الربحي في إجمالي الناتج المحلي إلى 5 %، وهي النسبة المستهدفة في عام 2030. والوصول إلى هذا الرقم ليس صعبًا إذا تعلمنا من تجارب الشعوب. فالمجتمع الدولي ينظر إلى القطاع التعاوني كشريك استراتيجي ضروري لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويقدّم التعاونيات كواحدة من أهم أدوات الاقتصاد الاجتماعي.
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه سوق الإسكان العالمي، مثل ارتفاع الأسعار ونقص المساكن الميسورة التكلفة، تبرز نماذج الإسكان التعاوني كحل مبتكر ومستدام. فالإسكان التعاوني هو شكل من أشكال الملكية العقارية، حيث يمتلك الأعضاء حصصًا في تعاونية سكنية ويشاركون في إدارتها واتخاذ القرارات المتعلقة بها. ويهدف هذا النموذج إلى توفير سكن ميسور التكلفة، وتعزيز الروابط المجتمعية، وتمكين السكان من التحكم في بيئتهم السكنية. وعادةً ما تركز التعاونيات الإيجارية غير الربحية على استقرار السكن طويل الأمد، مما يقلل من خطر التنقل بسبب ضغوط الأسعار.
في نوفمبر من العام الماضي، أطلقت الأمم المتحدة رسميًا (السنة الدولية للتعاونيات 2025) تحت شعار «التعاونيات تبني عالمًا أفضل»، خلال المؤتمر العالمي للتعاونيات في نيودلهي، الهند. والأمم المتحدة تسعى إلى التأكيد على الدور المحوري للتعاونيات من خلال ثلاثة أهداف رئيسة:
أولًا، زيادة الوعي بالتعاونيات وإبراز قدرتها في تعزيز التنمية المستدامة. ثانيًا، تعزيز السياسات والأطر القانونية التي تخلق بيئة مواتية للنمو التعاوني. وثالثًا، بناء الشراكات وتعزيز التعاون بين القطاعات والمناطق لتعظيم أثر التعاونيات.
هذا الاهتمام الدولي يعطينا الفرصة للاستفادة من التجارب الناجحة في مجال الجمعيات التعاونية الإسكانية. ففي التجارب الدولية المعروفة، يعد الإسكان التعاوني نظامًا يتيح للمواطنين المشاركة في المشاريع الإسكانية عبر جمعية تعاونية تمتلك العقار، وهذا يمنحهم حقوق السكن فيه. ويُعد هذا النموذج وسيلة فعالة لتوفير مساكن ميسورة التكلفة. وتقوم تجارب عدد من الدول على ممارسات مبتكرة، مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتقديم الحوافز والتمويل المدعوم، وتوفير الأراضي الحكومية بأسعار رمزية لصالح الجمعيات التعاونية.
هناك نماذج ناجحة للإسكان التعاوني حول العالم، لا سيما في الدول الإسكندنافية مثل السويد، التي تعد من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث تُدار نسبة كبيرة من المساكن بواسطة جمعيات تعاونية، مما يساهم في توفير مساكن ميسورة التكلفة وتعزيز الاستدامة الاجتماعية. كذلك في النرويج، يُعد الإسكان التعاوني جزءًا أساسيًا من سوق الإسكان، وفي الدنمارك أيضًا، تلعب الجمعيات التعاونية دورًا رئيسًا في إدارة المساكن وتوفير خيارات سكنية مناسبة للمواطنين.
كما أن كندا تبنّت نموذج الإسكان التعاوني بنجاح، حيث تُدار نسبة من المساكن عبر جمعيات تعاونية، ما يعزز المجتمعات المستدامة. أما في ألمانيا، فيعد الإسكان التعاوني جزءًا مهمًا من سوق الإسكان، مما يسهم في توفير مساكن ميسورة التكلفة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
وماذا عن تجربتنا السعودية؟
لا يوجد لدينا تجربة متميزة، وهذا الواقع ربما حفز الأستاذ عبدالله الوابلي، وهو من القيادات الوطنية المتخصصة في النشاط التعاوني للدعوة للاستفادة من التعاونيات. منذ عرفته قبل خمسة وعشرين عامًا، وهو يحمل همّ وحلم تنمية هذا القطاع. قبل ثلاثة أعوام، وفي مقال نشر في مجلة اليمامة بتاريخ 9 سبتمبر 2021 بعنوان (الضواحي التعاونية.. خيار الإسكان التنموي)، دعا إلى إدخال النموذج التعاوني في مشاريع الإسكان، وكان سعر المتر السكني حينها لا يتجاوز 4 آلاف ريال.
الاستاذ الوابلي يرى أن تطوير الضواحي الإسكانية «كان ولا يزال هو الأنسب اجتماعيًا، والأجدى اقتصاديًا، والأسلم ماليًا، والأوفر ادخاريًا، وهو الأقرب للتجارب الدولية الناجحة». كما يرى أهمية تأسيس جمعيات تعاونية لكل ضاحية، بحيث تتولى هذه الجمعيات ـ المملوكة لسكان الضاحية ـ الإشراف على إدارة الضواحي وتشغيلها بأعلى كفاءة وبأقل تكلفة، مع الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الرئيسة الأخرى للسكان مثل خدمات النقل، والتموين، والصحة، والتعليم، والحضانة، والتدريب، والثقافة، والرياضة، والترفيه، والزراعة، والطاقة، والادخار، والتأمين، وحاضنات الأعمال، وحتى الأمن، وصيانة المنازل، والنظافة، وتدوير النفايات، وتوفير الخدمات الاجتماعية والمنزلية الأخرى. كل ذلك وفقًا للمبادئ التعاونية الأساسية التي اعتمدها «الحلف التعاوني الدولي». وعلى هذا الأساس، لن تقتصر وظيفة الضاحية تجاه ساكنيها على توفير السكن فقط، بل ستكفل لهم حياة كريمة مستقرة وظروفًا معيشية مريحة».
ويختم أبو يوسف مقاله متمنيًا ومتطلعًا «أن تنال المملكة قصب السبق على مستوى العالم أجمع، في تطوير مفهوم «الضواحي التعاونية» الذكية».
بقي القول: إن ما نحتاجه من الجهات السيادية، مثل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، هو التوجيه بدراسة هذه التجارب العالمية وتكييفها بما يتوافق مع البيئة المحلية، حتى نطور نموذجًا سعوديًا ناجحًا ومستدامًا للإسكان التعاوني، يحقق الأثر المطلوب على مستوى المعروض السكني، ويدعم تحقيق مستهدفات رؤية 2030م.