د. محمد بن أحمد غروي
في قلب أرخبيل جنوب شرق آسيا، لا تزال ملامح الحضارة الإسلامية شاهدة على موجات متلاحقة من التفاعل الحضاري، قادها تجار ودعاة من حضرموت واليمن والحجاز، لتتشكل على إثرها واحدة من أكبر التجمعات الإسلامية في العالم، فبحسب الإحصاءات الحديثة، يقدر عدد المسلمين في إندونيسيا بنحو 230 مليون نسمة، وفي ماليزيا 19 مليونًا، بينما يقدر عددهم في الفلبين بـ10 ملايين، وفي تايلاند بأكثر من 5 ملايين، ما يجعل المسلمين يشكلون قرابة 40 % من إجمالي سكان المنطقة، والرقم مرشح للارتفاع في ظل التوسع الديمغرافي الطبيعي للمسلمين.
بحكم اطلاعي الميداني على المجتمعات الإسلامية في الأرخبيل، تأكد لي في كل زيارة أن أثر الحضارم ليس فصلا في كتاب تاريخ، بل هو نبضٌ حيّ في الأسواق، واللغة، والمعمار، والعادات الاجتماعية. فالهجرات الحضرمية -التي امتدت منذ القرون الأولى للهجرة- لم تحمل فقط البضائع والبهارات، بل جاءت محملة بمنظومة قيم أخلاقية وتجارية استهوت شعوب الأرخبيل، ليغدو التجار الحضارم «سفراء دعوة» بلا رايات ولا حملات عسكرية، وهو ما يفسر دخول الإسلام في هذه الجغرافيا بطريقة سلمية نادرة. وفي منطقة الهند الصينية، تتجلى قصة مؤثرة للمسلمين التشام، وهم من نسل مملكة «تشامبا» العريقة التي كانت تقع في وسط وجنوب فيتنام المعاصرة. لعبت تشامبا دورًا حيويًا على طول طريق الحرير البحري، وكانت ملتقى لتجار العرب القادمين من الخليج وعدن وحضرموت في طريقهم إلى الصين.
وبينما يرجح بعض المؤرخين دخول الإسلام إلى تشام في القرن السابع الميلادي عبر التجار العرب، تشير مصادر أخرى إلى أن العلاقات التجارية الإسلامية لم تتبلور إلا في القرن التاسع، أي بعد استقرار بعض التجار المسلمين في الموانئ الجنوبية لفيتنام.
ويتركز مسلمو التشام اليوم في كمبوديا، ولا سيما في المناطق المتاخمة لفيتنام، ويتحدثون لغة قريبة من الملايو، ويتبعون في عباداتهم وعاداتهم نمطًا قريبًا من الإسلام في ماليزيا، مع تأثير صوفي واضح تعود جذوره إلى الطرق التي نشرتها الحركات الصوفية القادمة من اليمن والحجاز. تشير الأدلة التاريخية إلى أن جزيرة سومطرة الإندونيسية كانت من أوائل نقاط التماس بين العرب وسكان الأرخبيل، وتكشف الحفريات والمصادر العربية والجاوية عن وجود تجار عرب على السواحل الغربية لسومطرة منذ القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، ما يُعزز نظرية أن الإسلام وصل باكرًا إلى المنطقة، خصوصًا في ظل قيام مملكة إسلامية مبكرة تُعرف بـ»برلاق» في منطقة آتشيه عام 225هـ (840م)، والتي تعد من أولى الممالك الإسلامية في جنوب شرق آسيا.
والمثير في روايات أهالي آتشيه أن انتقال الإسلام لم يكن من خلال الحملات العسكرية أو الجبر، بل عبر الاحترام المتبادل والعلاقات الاجتماعية، وخاصة من خلال المصاهرة، حيث يُذكر أن نخب الأرخبيل أعجبت بأخلاق العرب وأسلوبهم، فتزوجوا منهم، فكان ذلك مدخلًا إلى الإسلام.
رغم تعدد الروايات حول تاريخ دخول الإسلام إلى المنطقة، يتفق معظم المؤرخين على أن التجارة كانت الأداة الأهم في نقل هذا الدين العظيم إلى شعوب جنوب شرق آسيا، فقد كان التجار المسلمون ينقلون البضائع كما ينقلون القيم، ويبنون المساجد كما يبنون الثقة، فترسخ الإسلام كمكون ثقافي عميق قبل أن يكون هوية دينية.
وقد أدت هذه الديناميكية إلى نشوء مصطلح «إسلام الأرخبيل»، وهو تعبير يستخدمه بعض الباحثين لوصف تطبيق الإسلام التي تماهت مع الموروث الثقافي للجزر، دون أن تفقد جوهرها التوحيدي. فالزائر اليوم سيرى المساجد قرب المعابد، ويلاحظ انسجامًا اجتماعيًا فريدًا، يجعل من الأرخبيل نموذجًا للتسامح الديني.
ورغم التحديات السياسية والاقتصادية في بعض دول المنطقة، لا يزال للإسلام حضور مركزي في الحياة العامة والثقافة والسياسة، ففي إندونيسيا مثلًا، يمثل الإسلام القوة الشعبية الأكبر، وله أثر واضح في السياسات التعليمية والقانونية، بينما تتجه ماليزيا لتقديم نموذج تنموي يُراعي خصوصيتها الإسلامية ويستوعب تنوعها العرقي والديني.
إن استدعاء التاريخ الإسلامي في جنوب شرق آسيا لا يجب أن يكون عملًا أكاديميًا محضًا، بل هو فرصة لفهم أعمق لدور الحجاز وحضرموت وسواحل الخليج العربي في بناء علاقات ثقافية واقتصادية طويلة الأمد مع الشرق الأقصى، ومن شأن هذا الإرث الحضاري أن يُلهم السياسات السعودية اليوم لتعزيز علاقاتها الثقافية والتنموية مع هذه الدول، خاصة في ظل توجه المملكة إلى آسيا كأولوية استراتيجية في رؤية 2030 .