العقيد م. محمد بن فراج الشهري
أعجبني كثيراً ما أعدته كاتبة تدعى «منى حوّا» عبر السوشيل ميديا تكشف فيه باحترافية فائقة الأهداف الخطيرة التي أبداها الرئيس ترامب ونتنياهو حول غزة ومستقبلها والألاعيب السياسية المتداخلة فيها خلال الفترة الماضية حيث تقول بالنص: لأهمية ما ورد فيه من نقاط مهمة وأضيف عليه تقول: هل يستطيع ترامب ضم غرينلاند وكندا وقناة بنما؟ هل يقدر على تهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة؟
الإجابة الواضحة: لا. لكن هل هذا يعني أن مجرد الحديث عن هذه الأفكار بلا تأثير؟ أيضًا لا.
ما يفعله ترامب ونتنياهو ليس مجرد هراء سياسي، بل هو تلاعب استراتيجي محسوب يعتمد على خلق واقع وهمي بحيث تصبح الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش، والمشاريع غير القابلة للتنفيذ تبدو وكأنها سيناريوهات مطروحة.
هذه ليست سياسة مرتجلة، بل أسلوب مدروس مستوحى من نظريات سياسية وإعلامية تستهدف إعادة تشكيل الوعي العام ودفع الخصوم إلى مواقع دفاعية بدلًا من إبقائهم في موقع الهجوم.
تعالوا نفهم كيف هو خطابهم:
أولًا نظرية الدخان والمرايا Smoke and Mirrors: هدفها تحويل الوهم إلى حقيقة إعلامية هذه الإستراتيجية تقوم على خلق ضجة إعلامية ضخمة حول شيء غير حقيقي، بهدف تشتيت الانتباه أو تحقيق أهداف غير معلنة.
كيف تُستخدم هنا؟
تكرار الحديث عن تهجير الفلسطينيين رغم استحالة تنفيذه، ليس لأن أحدًا يعتقد بإمكانية حدوثه، بل لجعل الناس يتعاملون معه كأمر مطروح للنقاش بدلًا من رفضه فورًا.
تحويل قضية فشل إسرائيل عسكريًا في غزة إلى نقاش حول (أين سيذهب الفلسطينيون؟) وكأن رحيلهم أمر محتوم والخلاف فقط على الوجهة!
جعل الدول المستهدفة (مصر، الأردن) تبدو وكأنها في موقف المفاوض على صفقة ما بدلًا من كونها ترفض الفكرة من أساسها.
ما هي النتيجة؟
الجمهور يبدأ في التعامل مع التهجير كفكرة (مطروحة) بينما هي جريمة حرب مستحيلة التنفيذ.
* الأطراف العربية والدولية تُجبر على إصدار تصريحات نفي وتوضيح، مما يجعلها في موقف دفاعي، ويمنح القصة مصداقية زائفة.
* النقاش يتحول من (هل يجب وقف العدوان الإسرائيلي؟) إلى (ما البدائل المطروحة أمام الفلسطينيين؟) وهو بالضبط الهدف الحقيقي من هذا التضليل..
ثانيا: نظرية إغراق الساحة Flood the Zone: هدفها السيطرة عبر الفوضى الإستراتيجية تعتمد على إغراق الإعلام والرأي العام بوابل من التصريحات والقرارات، بغض النظر عن واقعيتها، بهدف السيطرة على السردية السياسية.
كيف يستخدمها ترامب ونتنياهو؟
* ترامب يصدر تصريحات متكررة عن (خطط كبرى) كالتهجير، بناء الجدران، فرض عقوبات، حظر دول، رغم أنه يعلم أنها غير قابلة للتطبيق.
* الهدف: إرباك الإعلام والمعارضين، بحيث يصبح من المستحيل الرد على كل تصريحاته أو كشف تناقضاته.
* نتنياهو، المحاصر سياسيًا لأنه لم يحقق كل أهداف الحرب، يعتمد على إطلاق تهديدات ضخمة ومتكررة، ليس لأنه قادر على تنفيذها، بل لإبقاء الجميع في حالة (رد فعل) بدلًا من التركيز على جرائمه.
النتيجة؟
* الإعلام والجمهور يجدان نفسيهما مضطرين لملاحقة التصريحات الجديدة، بدلًا من التركيز على الحقائق الأساسية: إسرائيل فشلت في تحقيق كل أهداف الحرب، وترامب يناور إعلاميًا.
* كلما زاد الضجيج، أصبح من الأسهل تمرير القرارات الخطيرة وسط الفوضى.
ثالثا: نظرية السردية بالقوة Manufacturing Consent: هدفها؟ التكرار يصنع القبول
هذه الإستراتيجية تقوم على إعادة طرح الأفكار بشكل متكرر حتى تصبح مألوفة، وبالتالي أقل صدمة، وأكثر قبولًا بشكل غير مباشر.
كيف يحدث هذا؟
* قبل أشهر كان الحديث عن تهجير الفلسطينيين بهذا الزخم لكن الآن، بسبب تكرار التصريحات، أصبحت الأمر يناقش في وسائل الإعلام كأنه خيار ضمن عدة خيارات.
* الأمر لا يتعلق فقط بالتكرار، بل بإغراق الساحة بنفس الفكرة من زوايا متعددة: تصريحات أمريكية، تهديدات إسرائيلية، تسريبات إعلامية، تحليلات إستراتيجية، حتى يبدو وكأنه واقع لا مفر منه.
* هذه الطريقة استُخدمت سابقًا في الحرب على العراق.. حيث تحول أسلحة الدمار الشامل من كذبة إلى ذريعة للحرب، بسبب التكرار المكثف.
النتيجة؟
* يصبح (التهجير) فكرة مطروحة على الطاولة، حتى لو كان الرفض العربي والدولي لها قويًا.
* يتحول النقاش من هل هذا ممكن؟ إلى ما هي الطريقة الأفضل لتنفيذه؟.. وهو بالضبط ما يسعى إليه ترامب ونتنياهو.
الخلاصة: ما يحدث خطير جدًا، لكنه ليس سببًا للذعر، بل سبب لموقف صارم وحازم يرفض حتى التعامل مع هذه الأفكار كنقاش مشروع.
الخطر الأكبر ليس في قدرة ترامب ونتنياهو على تنفيذ مخططاتهم، بل في قدرتهم على جعل الناس يتعاملون معها كأمر ممكن.
المطلوب ليس فقط رفض الفكرة، بل رفض حتى الحديث عنها كخيار سياسي.
عدم الوقوع في فخاخ التصريحات المتضاربة والمناورات الإعلامية، والتركيز على الحقيقة الأساسية: كل هذا مجرد خدعة لصرف الأنظار عن فشل الاحتلال وخلق ضغوط سياسية زائفة.
تذكروا
* التهديدات ليست خططًا، بل أوراق ضغط. ما يريده ترامب ونتنياهو هو تحويل المستحيل إلى احتمالات وهذا ما يجب محاربته بكشف التلاعب الإعلامي... وعليه أضيف وأقول
إن ما ورد في القمة العربية الطارئة حول غزة يجب أن يكون قيد التنفيذ سواء عارض ترامب ونتيناهو أو لم يعارضوا.. لابد أن يكون للدول العربية والإسلامية قول واحد ورد واحد وعزيمة واحدة.. وعدم إتاحة الفرصة لأي مخططات تدار لتهجير الفلسطينيين وعدم إعادة الإعمار وما يتبعه وإلا فما جدوى المؤتمرات والقرارات، لابد من وقفة رادعة وحازمة إن أردنا وإلا لن نكون..