مبتدأ:
قال تعالى:(وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقص مِّنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُّصِيبَة قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ راجِعُونَ * أُولَـئِكَ عَلَيهِم صَلَوات مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَة وَأُولَـئكَ هُمُ المُهتَدُونَ)
قال أحد المتدبرين رضي الله عنه وعن تدبره:
(لن ستشعر عند البلاء لطف الله بنا وإحسانه إلينا؛ إن خفنا مرة فطالما أمَّن روعنا، وإن جُعنا يوما فكم مرَّة أشبعنا وإنْ عدِمنا قليلًا فلقد أغنانا كثيرًا، ثم إننا لنثاب على البلاء القليل إنْ صبرنا ثوابًا عظيمًا. وإنما أخبر الله عباده بالبلاء قبل وقوعه، ليوطِّنوا أنفسهم عليه، ويجاهدوها في سبيل الحق، ويزداد يقينهم بما أخبر الله به، وليعلموا أنَّ عاقبة الصبر عليه حميدة).
أبوك كأبي! نعزيكم ونتلقى العزاء فيه أبا عمر أيضًا، رأيت مسحة حزن وقلبا مكلوما على رحيل والدي، وكانت عبَراته تسابق عباراته.
ذلكم الابن البار -وجميع أبنائه بررة- الأخ العزيز مسير العيّاد التي مازالت كلماته في وجداني!
هذه اللقطة كانت 7 شعبان 1441 بعد دفن والدي -غفر الله له - الذي انتقل إلى مثواه قبل الأخير لكن تفاصيل المشهد حفر مجراه مرة أخرى بعد نبأ وفاة والده العزيز -غفر الله له-.
هَجَروا الكَلامَ إِلى الدُموعِ لِأَنَّهُمُ
وَجَدوا البَلاغَةَ كُلَّها في الأَدمُعِ
كَيفَ اِلتَفَتُّ وَسِرتُ لا أَلقى سِوى
مُتَوَجِّعٍ يَشكو إِلى مُتَوَجِّعِ
الأربعاء 12 رمضان 1446 رحل مهجة النَّفْس وبهجة الحياة عن أبصار أهل بيته وأقاربه وأصدقائه وأحبابه غير أنه ساكن في قلوب الجميع و أفواه الكثيرين تلهج بالدعاء وعند الفضلاء صارت مشاريع وقفٍ تجري عليه حسناتها في قبره -بإذن الله تعالى- وترك رسائل كبرى ورسم معالم سامية للصغار والكبار وملامح لكل من استشرف المستقبل وإن كنت أرجو أن يتنبه الحي لهذه المشاريع ويقدم لنفسه كما يقدم للميت.
الوالد العزيز أبو سعود لم يكن أبا لأسرته فحسب؛ إنما مثل النخلة يستظل تحتها كل محتاج لا يتوقف أبدًا عن العطاءات ما استطاع إلى ذلك سبيلًا بعد توفيق الله.
الرجل قصة أثر نافع تستحق القراءة، وحكاية نجاح تنتظر التدوين وأمثاله كثر بفضل الله ودروس حياته مليئة بالكفاح والصبر يعضده إيمان راسخ ويقين ثابت بأقدار الله التي لا تنفك عن عبده المؤمن، سواء في سرائها وضرائها.
على المستوى الفردي كانت عيني تراقب أفعال الكبار الذين رأيناهم مباشرة أو نقرأ لهم، سواء عرفهم الناس أم لا والوالد العزيز أبو سعود من هؤلاء، لاشك حتى وإن لم تعرض الشاشات أخبارهم وتنقل وسائل التواصل منجزاتهم فإنّ الناجح ليس من شرطه أن يكون مشتهرًا عند الناس-فهذه وسيلة- وإنما الأهم عند رب الناس-وهذه الغاية-! كم مرة قدمنا الوسائل على الغايات ونحن لانشعر!
مع تقدمه بالعمر كان -غفر الله له - يملك لياقة روح وعذب حديث وأناقة ملبس وحين يتكلم في المجالس فكلامه له حدود ومحدود.
الغالي أبو سعود لايؤذي أحدًا ولايتتبع الزلات كريمًا شهمًا نبيلًا. وهناك مقال نشرته 24 شعبان 1444بعنوان: (خَفَتَ صوتك) فيه مواقف نبيلة يمكن الرجوع إليه.
يحاول الدفاع عن الشباب الصاعد مع معارك الحياة التي لا تنتهي وأعمالها اليومية التي لا تنقضي، كان فريق من رفاق عمره إذا جاءت اللقاءات العائلية والمناسبات الاجتماعية يقول عاتبًا: لا نراكم إلا قليلا! فيأتي جوابه الذي كرره مرة بعد مرة هؤلاء وقتهم وظروف أعمالهم ليست كما كنا عليه، أولادنا خير وبركة والذي عنده منهم نقص نوصي بأن يكمله ثم يشدد على شأن الصلاة مهما كلف الأمر.
كان يقدر الأمور ويوازن وفي ذات الوقت حاسم عند مسائل الواجبات الشرعية ولا يقبل التهاون فيها.
أحد الأقارب يروي قصته مر عليها 28 عاما لما حان موعد زواجي نقص بعض المال عليّ، ومثلكم يعرف أشواق الشباب المتحفز لهذه اللحظة، يريدها تكون على الصورة الأفضل ويرجو من الله ألّا تعبث هذه التحديات في مشاعره وترتيباته، فاستعان بالله أولًا ثم انطلق يبحث، وحين كررت المحاولات انطلقتُ نحو طَيِّبُ الجَنَان وعذب اللسان أبو سعود -غفر الله له- فما كان إلا أن قضى لي حاجتي وفك كربتي على أن يرجع المبلغ حتى تستقر أموري، ثم يواصل كلامه لكن الفصل الجميل المؤثر في نفسي بعد أيام أرسل هدية عبارة عن أحد الأجهزة الخدمية للبيت فلم أتمالك مشاعري التي جاشت وفارت فقد حركها هذا القلب النقي السخي الوفي.
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ
فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ
غير أنّ هذا الرجل الشهم قدم طيب المقال والفعال.
لقد قرأ حاجاتٍ تعتلج صدري وأمنيات تختلج نفسي فكأنني أحد أولاده ولهذا ما زلت أعتبره أبي!
مشهد مؤثر آخر:
مآثره وأفعاله الطيبة -طيَّب اللهُ روحَه- وصلت خارج السعودية لم تقيده الحدود الجغرافية فالمعيار الحدود الإسلامية والروابط الدينية مهما تباعدت الأقطار.
توفي عامل من دولة باكستان الشقيقة من جيرانه وأهله لم يستطيعوا ترحيل جثمانه لبلده فإذا الغالي أبو سعود طَيِّب الجَنَان وعذب اللسان تكفل بكل شيء حتى وصل الجثمان عند أهله في بلاده.
الكلمات تعجز.. تالله تعجز أيها الرجل النبيل.
الله نسأل أن تجد عند ربك الكريم جزاء فعل الطيب الكريم.
أما منهج تعامله مع الأطفال فهذه حكاية طويلة يلاعبهم ويمازحهم وله ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والأسوة العليا الذي بينته السنة الشريفة على نحو ما نعرف ولا تكفي المعرفة إذا لم يعقبها العمل، كان أبو سعود لا يجد حرجًا أن يجلس في الجزء الخلفي المكشوف المكان المحبب للأطفال (حوض الددسن) لأجل خاطر طفل أحب يشاركه هذه المتعة ويدخل السرور عليه وتراه -أي الطفل- كما صعد وهو يبكي نزل وهو يضحك.
مراعاة النفوس لا تحتاج إلى دروس تقال وإنما لفعال.!
ولايقدر على ذلك بعد توفيق الله إلا كبار .. كبار..
الرجل الرزين الأريب المحبوب يحاول النزول لحاجات الأطفال لكنه تالله ارتقى في عيون المربين الكبار.
وللإمام الشافعي رضي الله عنه كلمة ذهبية: ليس من الوقار إظهار الأدب في البستان! فلكل مقام مقال.
كان أبو سعود يرسل رسالة لأصحاب القلوب الضيقة والنفوس المأزومة والرؤى العليلة بأن الحياة أوسع وطريقها يمر عبر طفل تلاعبه أو تمازحه أو تطارحهأو تؤانسه.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدلع لسانه -أي يخرجه- للحسن بن علي، فإذا رأي الصبي حمرة اللسان يهش إليه، أي يسر، وتنبسط أساريره.
يا الله لهذا النبل النبوي الشريف! ومن يقدر على فعل هذا إلا نبي ونبيل يفعل مثل فعل النبي؟!
قال عمر رضي الله عنه: (لَيُعجبُني الرجلُ أن يكون في أهل بيتِه كالصبي، فإذا ابتُغِيَ منه وُجِد رجلًا).
قال أحد العارفين في السلوك البشري: (من الأخطاء التي يرتكبها بعض الناس أنهم يريدون من الطفل أن يكون رجلا فيترك اللعب واللهو، ومن المرأة أن تتعامل بخشونة وكأنها رجل، وكل ذلك لا يصح؛ لأنه مخالف للطبيعة والفطرة البشرية) صدق المتنبي:
فَإِنَّ الجُرحَ يَنفِرُ بَعدَ حينٍ
إِذا كانَ البِناءُ عَلى فَسادِ
يشارك عائلته الصغيرة و الكبيرة رحلاتهم البرية بفعالية على خلاف من يتضجر أو يرفض ونحن ندرك متطلبات كبار السن التي قد لا تحضر في هذه الأحوال المتغيرة لكنه -غفر الله له- تراه يفرح لفرح أولاده ويستجيب لمتطلبات أحفاده وربما تسبب في أوجاع داخل نفسه لكن الكبار لا يريدون أن ينقصوافرحة أحد ويكمل هذا الاجتماع العائلي والرحلة الأسرية حتى النهاية.!
ومن يشاهد شرائط التوثيق وأوراق التدوين للأستاذ الموهوب الفاضل ضويحي الشمري أبو عبدالعزيز زوج ابنته عميد التوثيق لعائلة الضويحي منذ 30 عاما ولم يزل -بارك الله-.
سوف يدرك من شاهد هذه الشرائط ما كان يفعله أبو سعود ونحن نريد أن لا نبالغ لكن الأمر كالشمس في رائعة النهار!
المواقف الجميلة والحكايات المؤثرة طويلة وممتدة أمام مدرسة تربوية لاتتوقف معالمها ولا تنتهي ملامحها.
أيها المربون الفضلاء والآباء النبلاء دونَكم هذه المواقف حدثوا الأجيال ضمنِّوها أحاديثكم واضربوا بها الأمثال.
العزاء وصادق الدعوات وأحر العبارات وأصدق المواساة لأبنائه الكرام الشجرة المثمرة المباركة عائلة العيّاد (سعود| سعد| سيار| مساعد| مسير|خالد| متعب) وأهل بيته وأقاربه وأصدقائه وأحبابه، والسلام عليك، والدي الغالي طِبْتَ حيًّا وميتًا وجمعنا الله بكرمه وفضله معك وذرياتنا في دار كرامته.
وداعًا..
أيتها النسمة الباردة على الأرواح، والبسمة الرائعة على الشفاه، أيها العذب الزلال في الشدائد، والْمُزْن الثِّقَال على الأوابِد.
هذا بعضُ بوحٍ ، ونداء رَوْحٍ ، إلى هذا الدَوْحْ!
هكذا كانت قصتي مع رحيل الكبار، غير أنّ الكبار أمثال أبو سعود لا يرحلون!