د. سفران بن سفر المقاطي
تُعد ظاهرة التثاقف من أبرز المفاهيم الثقافية والاجتماعية التي استقطبت اهتمام الباحثين والمفكرين في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع انتشار العولمة وتزايد التواصل بين الشعوب والمجتمعات، حيث بات العالم يعيش حالة من الاندماج الثقافي المستمر، نتيجة تطور تقنيات الاتصال وتنامي حركة الهجرة والتنقل البشري، ما دفع نحو ضرورة ترسيخ مفهوم التثاقف بوصفه عملية تفاعلية بين ثقافتين أو أكثر، لتكوين فهم مشترك يُفضي إلى تقليل فجوات الاختلاف وتعزيز فرص التعايش والسلام. إن تحليل السياق التاريخي والاجتماعي لظاهرة التثاقف يُبرز بوضوح الدور المحوري الذي تلعبه هذه الظاهرة في تقريب وجهات النظر بين الحضارات والمجتمعات المختلفة، فالتثاقف -كما عرّفه علماء الاجتماع- لا يقتصر على مجرد نقل أو تبادل للعناصر الثقافية، بل يتعدى ذلك ليصبح تفاعلاً ثقافيًا تبادليًا ديناميكيًا، يسمح لكل ثقافة بمراجعة ذاتها وإعادة تشكيل مفاهيمها وقيمها في ضوء تفاعلها مع الآخر المختلف، ما يؤدي إلى تطور إيجابي في البنية الاجتماعية والثقافية لكل طرف من الأطراف المشاركة في هذا التفاعل (هول، 2002؛ إدوارد سعيد، 2004).
وفي هذا السياق، لابد من التفريق بين مفهوم «التثاقف» ومفاهيم قريبة منه مثل «التلاقح الثقافي» و»التأثير الثقافي»، بالرغم من اشتراك هذه المصطلحات في مفهوم التفاعل الثقافي، إلا أن التثاقف يتسم بميزة خاصة وهي التفاعل المتبادل الذي يفضي إلى تغير ثقافي متوازن، عكس التلاقح الثقافي الذي غالبًا ما يشير إلى انتقال الأفكار والعناصر الثقافية بين الشعوب دون اشتراط التفاعل المباشر أو المتبادل، أما التأثير الثقافي فهو يشير إلى علاقة غير متكافئة بين ثقافة قوية وأخرى أقل قوة، وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى الهيمنة أو التبعية الثقافية (عبدالله الغذامي، 2006).
ومن هنا تتضح أهمية التثاقف بوصفه أداة فعّالة لتقريب الاختلافات، وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية والثقافية التي قد تنشأ عن سوء الفهم أو الخوف من الآخر، إذ يوفر التثاقف مساحة واسعة للحوار وتبادل الخبرات والتجارب، مما يفتح آفاقًا جديدة للتعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهي مسألة ضرورية في عصرنا الحالي الذي يشهد توترات متزايدة بين الثقافات والحضارات نتيجة للصراعات السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن عملية التثاقف لا تخلو من التحديات، فهناك مخاوف مشروعة لدى بعض الأفراد والمجتمعات من أن تؤدي هذه العملية إلى فقدان الهوية الثقافية الذاتية، أو على الأقل تراجع مكانتها أمام تأثير الثقافات الأخرى، وقد يؤدي هذا الشعور بالقلق إلى ظهور حركات مقاومة ثقافية أو اجتماعية ترفض الانفتاح على الآخر، وهو ما قد يخلق توترات اجتماعية داخلية (هانتنجتون، 1996). بالإضافة إلى ذلك، فإن التمييز والعنصرية قد يشكلان عائقًا أمام نجاح التثاقف، حيث يُنظر أحيانًا للثقافات الوافدة بعين الريبة أو الشك، مما يستدعي جهودًا توعوية مكثفة تسعى إلى ترسيخ قيم الاحترام المتبادل والتنوع الثقافي.
ولعل التعليم يمثل أحد أهم الأدوات التي يمكن من خلالها تعزيز ثقافة التثاقف، فالمناهج التعليمية الحديثة التي تركز على دراسة الثقافات المختلفة وتعزيز مهارات التفكير النقدي والانفتاح على الآخر، تسهم بصورة كبيرة في إعداد جيل قادر على التعايش مع الاختلافات الثقافية واحترامها، وقد أثبتت تجارب دولية عديدة، مثل سنغافورة وكندا والمملكة العربية السعودية، نجاح السياسات التعليمية في تعزيز روح التثاقف والتسامح بين مكونات هذه المجتمعات (اليونسكو، تقرير التعليم العالمي، 2021). وفي تجربة المملكة العربية السعودية تحديدًا، نجد أن برامج الابتعاث الخارجي، ومبادرات الحوار الحضاري التي أطلقتها المملكة، مثل «مبادرة حوار الحضارات» و»مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني»، حققت نجاحات كبيرة في تعزيز صورة المملكة عالميًا، وإبراز روح التسامح والانفتاح التي تميز بها المجتمع السعودي، كما أسهمت في بناء جسور ثقافية متينة بين الشعب السعودي وشعوب العالم، هذه المبادرات تحظى بقبول دولي واسع، وهي نموذج ناجح وملهم يمكن الاستفادة منه وتعزيزه في دول أخرى (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، تقرير سنوي، 2022).
وإلى جانب التعليم، تؤدي وسائل الإعلام والاتصال الحديثة دورًا حاسمًا في نقل ثقافة التثاقف وترسيخ قيمها لدى المجتمعات، فالإعلام قادر على كسر الصور النمطية وتقديم محتوى متوازن يعكس التنوع الثقافي، ويبرز التجارب الإنسانية المشتركة، وقد ساهمت منصات التواصل الاجتماعي، رغم تحدياتها، في فتح قنوات اتصال مباشر بين الأفراد من مختلف الثقافات والحضارات، مما وفر بيئة مثالية لتعزيز التفاهم وتبادل الأفكار والممارسات الثقافية (ماكلوهان، 1964؛ كاستيلز، 2009). أما الفنون والثقافة بمختلف أشكالها، فتعد من الأدوات الناجحة في تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، حيث يمكن للموسيقى والسينما والمسرح والأدب أن تعبر عن المشاعر الإنسانية المشتركة، وأن تفتح آفاقًا واسعة للتواصل الحضاري والثقافي بين الشعوب، من خلال المهرجانات والمعارض الفنية الدولية التي توفر منصات مهمة للحوار الثقافي والتفاعل الإنساني. وباستعراض التجارب التاريخية والاجتماعية في مجال التثاقف، يتضح أن هذه الظاهرة ليست حديثة العهد، بل لها جذور تاريخية عميقة، فالحضارة الإسلامية، على سبيل المثال، قدمت نموذجًا متميزًا في التثاقف مع الحضارات الأخرى كاليونانية والفارسية والهندية، ما أدى إلى ازدهار العلوم والفنون في عصرها الذهبي وانتقالها إلى أوروبا لاحقًا، كما ذكر عادل الجبير في محاضرته الشهيرة في برلين عام 2017م.
وفي النهاية، يتضح أن ثقافة التثاقف ضرورة ملحة لتحقيق التنمية المستدامة والسلام العالمي، فهي وسيلة فعّالة للتقريب بين الشعوب وتعزيز التفاهم والتعايش. إن التثاقف يمتد ليشمل مختلف جوانب الحياة، من التعليم إلى الإعلام والفنون، حيث يساهم في بناء مجتمعات أكثر شمولية وتنوعًا. ورغم التحديات التي تواجهها، تبقى مسؤولية تعزيزها مشتركة بين الدول والمؤسسات التعليمية والإعلامية والمجتمعات المحلية. فالمناهج التعليمية يجب أن تتضمن محتوى يعزز من فهم وتقدير الثقافات المختلفة، من خلال تدريس اللغات الأجنبية وتاريخ الحضارات الأخرى، بالإضافة إلى تشجيع الطلاب على المشاركة في برامج التبادل الثقافي والدراسات الخارجية. أما وسائل الإعلام، فتتحمل مسؤولية كبرى في كسر الصور النمطية وتقديم قصص واقعية تعكس التنوع الثقافي. يمكن للإعلام أن يلعب دورًا رئيسًا في نشر قيم التسامح والاحترام المتبادل من خلال البرامج الوثائقية والأفلام والبرامج الحوارية التي تتيح مساحة للتعبير عن وجهات النظر المختلفة. وفيما يتعلق بالفنون، فإن مشاركة الفنانين من مختلف الخلفيات الثقافية في المهرجانات والمعارض الدولية تسهم في فتح آفاق جديدة للتواصل والتفاعل الثقافي. فالموسيقى، على سبيل المثال، لغة عالمية يمكنها تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، وهي وسيلة فعّالة لتعزيز التفاهم بين الشعوب. وبهذا يمكن القول إن التثاقف يبدأ بخطوة بسيطة نحو الآخر، وبرغبة حقيقية وصادقة في بناء جسور التواصل والاحترام المتبادل. يجب أن نسعى جاهدين لتعزيز هذا المفهوم في حياتنا اليومية، سواء من خلال تعلم لغة جديدة، أو التواصل مع أشخاص من ثقافات مختلفة، أو حتى الانفتاح على تجارب جديدة في مجالات متنوعة. إن تحقيق التثاقف يتطلب جهداً مشتركاً وتعاوناً بين جميع فئات المجتمع، لتحقيق مستقبل أكثر انسجاماً وسلاماً للبشرية جميعًا.
المراجع:
1 - الغذامي، عبدالله (2006م)، «الثقافة والتثاقف»، المركز الثقافي العربي، بيروت.
2 - هانتنجتون، صامويل (1996م)، «صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي»، دار الساقي، بيروت.
3 - هول، إدوارد (2002م)، «ما وراء الثقافة»، ترجمة محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
4 - كاستيلز، مانويل (2009م)، «عصر المعلومات»، ترجمة علي محمد سعيد، المركز العربي للأبحاث، الدوحة.
5 - ماكلوهان، مارشال (1964م)، «وسائل الإعلام امتداد للإنسان»، ترجمة عبدالسلام بن عبد العالي، دار توبقال، المغرب.
6 - منظمة اليونسكو، تقرير التعليم العالمي، 2021م.
7 - مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، التقرير السنوي، 2022م.