د. تنيضب الفايدي
لا توجد أمّة على وجه الأرض إلا ولها أعياد؛ لأنّ احتفال الأعياد وإقامتها ترتبط بغريزة وجبلّة خلق الناس عليها، فكلّ الناس يحبّون أن تكون لهم مناسبات وأعياد يحتفلون فيها، ويبدون الفرح والسرور، ويتبادلون الهدايا والتبريكات فيما بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا». وقد حدّد الإسلام للمسلمين عيدين، عيد الفطر بعد إكمال صيامهم في شهر رمضان، وهو أوَّلُ يوم من شوَّال، وعيد الأضحى وهو اليومُ العاشر من ذي الحجَّة، وليس للمُسلمين عيدٌ غيرهما إلا يوم الجُمُعة، فعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: «قدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ولهم يومانِ يَلعَبونَ فيهما، فقال: قدْ أبْدَلكم اللهُ تعالى بهما خيرًا منهما؛ يومَ الفِطرِ ويوم الأضحى». (رواه أبو داود برقم 1134)، وقد أعطى الإسلام للعيد بُعداً، فها هم (الحبش) يرقصون برماحهم وحرابهم فرحين آنسين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم... وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتفرج وتفرح، العيد فرحة، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «روّحوا القلوب ساعة وساعة» وورد في صحيح مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم «يا حنظلة ساعة وساعة». وقال عليّ رضي الله عنه «أجمّوا هذه القلوب فإنها تملّ كما تملّ الأبدان. إن الحديث عن المدينة يزيد الأشواق و يملأ الجوانح بحبّها، وهو حبٌّ أودعه الله قلوب المسلمين والمسلمات تحقيقاً لدعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد...) إنـها طيبة وطابة و إنها حبيبة ومحببة، يحلو الحديث عنها، بل يطلب المحبّ الزيادة..
وحَدَّثْتَني يا سعدُ عنها فزدتني
جنوناً فزدني من حديثك يا سعدُ
هواها هوىً لم يعرفِ القلبُ غيره
فليس له قبلُ وليس له بعدُ
لذا يعتبر عيد الفطر المبارك من أهم الأعياد الإسلامية والتي يحتفل بها المسلمون في جميع أنحاء العالم، فهي تعكس جوهر الدين الإسلامي وتعزز وحدة المسلمين حول العالم، وكذا الترابط الأخوي والتلاحم الروحي والتضامن الإنساني في المجتمع الإسلامي، وذلك بتبادل التهاني والهدايا وتخفيف العبء عن الفقراء والمساكين من خلال توزيع الصدقات والهدايا والعيديات.
ويُعتبر هذا العيد فرصة للصلة الوثيقة بين الأقارب والأصدقاء، ولاجتماع القلوب والأخوة بين المسلمين، وتجديد العلاقات الاجتماعية، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم كلّهم بالخروج في العيد، حتى أمر النساء الحيض بالحضور قائلاً: (يشهدن الخير ودعوة المسلمين).
لكن العيد في المدينة الحبيبة يتميز بطابعها الخاص ونكهتها المميزة، حيث تختلط الروحانية بالبهجة والفرحة، وتُخلّد الذكريات الجميلة في الذاكرة، ومن أهم ذكريات الماضي مدفع العيد، فلا يقتصر استخدامه على دخول شهر رمضان و إعلان موعدي الإفطار والسحور، بل يمتد إلى الإعلام عن حلول العيد، فمدفع العيد إعلان وإخبار بأن اليوم يوم عيد، وسماع صوته كان فرحة للصغار وذكرى للكبار، فالمدفع له ارتباط وثيق بالعيد؛ لأن له قيمة كبيرة بين الناس قبل اتساع المدينة في زمن لم تتوافر فيه وسائل الإعلام الحالي، وعادة ما يوضع (مدفع العيد) في موقع مرتفع، وفي المدينة المنورة يطلق المدفع من موقعين، الموقع الأول: قمة جبل سلع وقد يغطي صوت المدفع المدينة أي: الحرم والحارات والأحوشة التي تحيط به، أما الموقع الآخر فهو بالقرب من قلعة قباء حيث يغطي صوته قباء وما حولها؛ لأنها - أي: حارة قباء وما حولها - كانت تفصلها مسافة عن المدينة المنورة، وكان هذان الموقعان كافيين لأهل المدينة قبل اتساعها، وللمدفع ذكريات لأهالي المدينة لا تنسى ولاسيّما الأطفال حيث تشكل فرق منهم في الأحوشة (والحوش عبارة عن حارة صغيرة تتكون من عدة منازل لا تقل عن ثلاثة وقد تصل إلى عشرين منزلاً) وكذا الحارات وتنشد هذه الفرق أناشيد حبيبة إلى النفس ترحّب بقدوم العيد، وكان صوت المدفع مظهراً من المظاهر الخاصة برمضان يشترك في سماعه جميع أهل المدينة، وهذا الصوت أي: صوت المدفع له وقع خاص، وهذا الوقع الخاص أصبح ذكرى لكلّ فرد من أهالي المدينة؛ لأنه يرتبط بذكريات النسيج الاجتماعي الموحّد والعلاقات المترابطة بين الجيران وأبنائهم وبين أحياء المدينة (جمع حي)، حيث يشكّل سكان المدينة رابطة واحدة ولعلّ صوت المدفع يوثق هذه الرابطة بالتآلف والمحبّة وتفقد الجيران ومَن هم في حاجة إلى المساعدة، وكان إعلان العيد بصوت المدفع إيذاناً لبدء أيام الفرح لتوثيق العلاقة بين الجيران والأحوشة والأزقة، وتزداد المحبة والوداد بينهم ولاسيّما بين أبنائهم وبناتهم، كما يزداد التعامل بينهم وثوقاً من حيث التكاتف والتكافل والإخاء، وتصبح كل حارّة كأنها أسرة واحدة.
كما أن لأهل المدينة المنورة عادات وتقاليد متوارثة جيلاً عن جيل يحرصون عليها منذ أكثر من قرن، وهي زيارة كبار السن وعمداء العائلات بعد أداء صلاة العيد في المسجد النبوي الشريف حيث يتوجهون إليهم فتتم زيارة الآباء والأمهات والأعمام والأخوال.
من عادات العيد في المدينة أن أحياء المدينة تتحول بعد صلاة العيد إلى عائلة واحدة ويبدأ أهالي الأحياء صغيرهم وكبيرهم في جوّ أخوي تسوده المحبّة بالتجمع في الشوارع وبجانب المساجد لتبادل التهاني و إظهار الفرح والابتهاج بعيد الفطر السعيد ويجتمعون معاً في صورة تؤكد عمق الترابط والتآخي والتلاحم والحبّ والوفاء في أحياء والمرافق العامة.
وفي طيبة يخرج الجميع خاصة الأطفال مرددين الأناشيد وكلمات الترحيب بالعيد السعيد، وتحرص العوائل في ليلة العيد إلى الإعداد ليوم العيد ولاسيما الملابس، وأنواع الحلوى والعطور، وما يقدم للزوار ولاسيما أن بيوت المدينة المنورة تكون مفتوحة لكل زائر، بل قد لا يوجد من يستقبلهم؛ لأن (الصالون) مفتوح للجميع.
وتجمعات العيد لها نظام، حيث مهرجان العيد وكان قبل عدة عقود يقام بباب الكومة، حيث توجد المراجيح باختلاف أنواعها وتصلح لمختلف الأعمار بدءاً بالمراجيح الكبيرة وانتهاء «بهزي مركب». إضافة إلى: العربات المزركشة التي تجرها الأحصنة والبغال والحمير، وهذه العربات يركبها الأطفال إلى مسافات ليست بعيدة وهي عربات جميلة مزركشة بمختلف الألوان، ويزيد الموقف جمالاً الأناشيد التي يرددها الأطفال.
أما الحمير في العيد فلها قصص مختلفة، وهذا الاختلاف يأتي في السعر «أي ما يدفع في المشوار الواحد» وذلك حسب المسافة، وحسب (زركشة) الحمار، وحسب أصل الحمار»، ونادراً ما تكون حمارة في مهرجان العيد، وذلك لأنها تشغل صاحبها في الدفاع عنها، من (معاكسات الحمير طبعاً) وكم أسقط الحمار راكبه في مهرجان العيد بسبب حركات تلك المعاكسات.
وعلى هامش مهرجان العيد هناك ألعاب شعبية يمارس بعضها وإن لم تكن له علاقة بالعيد ومنها: المزمار : وهي لعبة رجولية خطرة لها قوانين وقواعد وتتم ممارستها في العيد وبعض المناسبات الأخرى كالزواج، وتستخدم العصا والرقص على قرع الطبول حول النار وقد يتسبب الخطأ في هذه اللعبة إلى مشاجرات وإسالة الدماء ولاسيما بين « المشاكلة أو الفتوة».
هناك مجموعة من الألعاب: وتكون إما على شكل مجموعات أو شخصين أو (طفلين) أو أكثر عند ممارستها، ومنها: (وبعضها لا علاقة له بالعيد وإنما ذكرت للتاريخ فقط).
الكُبوش، الحجاج، طبطب، الدَّحل (البرجوة) المزويقة (المرصاع) الكبت، طيري (الغميمة) عُصفر، اصطففت، الطاقية، (طاق.. طاق.. طاقية) البِربِر، أم الخمسة، التزقير، شيخ الأرض (وله اسم آخر) الطاب، الضاع، عظم وضاح (عظيم ضاح)... إلخ.
يأتي العيد السعيد ليرسم السعادة والفرح على وجوه الناس، حيث يستعد الجميع لاستقباله بالبهجة والبشر والسرور، راجين الله أن يتقبل منهم الصيام والقيام والدعاء في شهر رمضان المبارك.
إن الحديث عن طيبة وما يتعلق بها يزداد ألقاً، لأنها جزء من تاريخ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
من عجب أني أحنّ إليهم
وأسأل عنهم من لقيتُ وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير