خالد بن عبدالرحمن الذييب
نصل إلى مدينة ما، نتجول فيها ونذهب إلى مزاراتها، ومطاعمها، ومقاهيها، نعود منها وقد أعجبتنا، وحكينا عنها الحكاوي لأصحابنا وأهلنا وأقاربنا، نذهب إلى مدينة أخرى، نقوم بنفس ما قمنا به سابقاً، وعلى الرغم من أن مزاراتها أكثر عمقاً وأهمية إلا أنها تترك فينا انطباعا سيئاً ونقدم لها دعاية سيئة عند أصحابنا، وأهلنا ومعارفنا! لماذا يحدث كل هذا؟ لماذا بعض المدن تسحرنا، وبعضها لا تعجبنا؟ لماذا بعضها نعيش معها حالة من السحر الحلال، وبعضها لا ينفع معها حتى السحر الحرام.
هذا التساؤل لا إجابة واضحة له، فالمسألة ذوقية، ولكن أقرب التحليلات هي الحالة التخطيطية للمدينة، هي «التصميم العمراني، والساحات والممرات، هي طريقة توزيع المقاهي والمطاعم وإطلالاتها، هي أماكن النوافير ومواضع المجسمات الجمالية، هي الاستدامة واختيار وسائل النقل العام المتعددة، هي طريقة الوصول إلى المزارات والأماكن السياحية، هي الواجهات وأشكال المباني، مدن كثيرة فيها مزارات تاريخية وأيقونات عمرانية تتحدى التاريخ بصمودها والجغرافيا ببقائها وحتى المناخ بثباتها، ومع ذلك فإن زيارتها قطعة من العذاب أو ربما يكون هو العذاب نفسه.
إن المدينة كل متكامل لا يمكن أن ينجح عنصر دون تكامله مع العناصر الأخرى لإنجاحه. وهنا يلزم التأكيد على عبارة «إنجاحه»، فالمزار مهما كانت قيمته التاريخية والجمالية، قد يفشل في جذب الزوار بسبب البيئة المحيطة من بداية الرحلة إلى نهايتها، وحتى إن نجح المزار في جذب الزوار فهذا لا يعني أن المدينة ناجحة، فبعض المدن تزورها من أجل مزاراتها وتكره تكرار زيارتها بسبب الحالة التخطيطية السيئة، وبعضها يكون المزار مفتاحاً لدخول حالة من العشق مع المدينة فتكون زيارتك الثانية لها ومن أجلها وليس من أجل مزاراتها، ففي هذه الحالة تكون الأيقونة «طُعماً» إن جاز التعبير لتكرار زيارتك لهذه المدينة. فمن زار روما يعرف أن المدينة كلها في خدمة الفاتيكان والمسرح الروماني، باعتبارهما أيقونتين تشكلان «طُعماً» لجذب الإنسان لزيارة روما مرة أخرى دون الحاجة لتكرار زيارة المزار ذاته. فهاتان الأيقونتان هما روما أما بقية روما فليست إلا عناصر مكملة لإبراز هاتين الأيقونتين، فالسلالم الإسبانية والمقابر الرومانية القديمة، بل وحتى ما يُسمى بروما القديمة، كلها مزارات وأماكن تهدف لتكون وسيلة للوصول إلى الأيقونتين الأبرز فيها.
أثينا مثال آخر فأنت في كل مكان ومع تعدد مساراتها وأماكنها إلا أن الأكروبوليس يبقى شامخاً مرتفعاً، فكل ما تراه في أثينا ليس إلا طريقاً أو خطوة للوصول إلى الأكروبوليس.
أخيراً...
من أسرار المدن، تكامل التخطيط العمراني مع الأنشطة بمختلف أنواعها.