د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هذه الوصايا التي أسداها أحد الوزراء المصريين لابنه قبل أقل بقليل من خمسة آلاف عام، وصلتنا بعد أن اعتراها عبر الزمن الكثير من التحريف والتصحيف، ولهذا نجد تباينا في النسخ الثلاث التي يفصل بينها مئات السنين، وكتبت أحدها على ورق البردي، وهي جديرة بالتنويه لأنها تعطي فكرة عما يستحسنه المجتمع المصري القديم في ذلك الوقت، وما لا يستحسنه، ولا نجد في النصائح أو الوصايا المذكورة ما يمكن اعتباره شاذا عن ما يسلكه مجتمعنا الحديث، رغم المسافة الزمنية الطويلة، التي اعترى الإنسان فيها بعض التغيرات، وهذا ما نلمسه في الفرق بين النسخ الثلاث، حيث أدخل في بعضها شيء من التعابير السائدة في عصرها.
لقد نصح الوزير المصري المسمى بتاح حتب بعدم التكبر بسبب ما لديه من علم، وإن عليه مشاورة العالم والجاهل، لأن العلم لا نهاية له، ولا يقتصر على شخص بعينه، وليس هناك رجل مسيطر على فنه، وأن الكلام الحسن يكون أحيانا مختفيا أكثر من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فيمكن وجوده لدى الإماء اللاتي يعملن في الطواحين.
أقول إن هذا التعبير والتمثيل جميل جدا، فالفائدة قد تجدها عند العالم والعامل، فلا تحتقر أحدا، واستمع إلى الجميع لعلك تعثر على جوهرة علمية تساعدك في دربك العلمي.
يسدي الوزير لابنه نصيحة أخرى، فيذكر أن من واجب الابن الإصغاء لوالده والاستماع إليه بجميع مداركه، فهي في ذاتها خصلة حميدة كما أنها تعطي للناس انطباعا بحسن الخلق، كما يهذب الأخلاق، وهو من الخصال الحميدة التي يحبها الملك، وسائر الناس، ومن أصغى حسنت سمعته، فهو إذا لم يصغ فإنه لن يعرف الصحيح من السقيم ولهذا قد يعيش ميتا بين الأحياء، بسبب عدم معرفته، وعدم سلوكه المستقيم الذي يكتسبه من والده صاحب الخبرة والمعرفة.
نصيحة جميلة أخرى تتعلق بآداب الجلوس على المائدة، وتناول الطعام، فهو ينصح ابنه عند حضوره مأدبة طعام الملك أو أحد أصحاب المقامات الكبيرة، ألا ينظر إلى ما يفعله الملك، وألا يرفع نظره إليه أثناء الأكل، ويجعل نظره إلى الأسفل، وينصحه قائلا: وتكلم فقط عندما يحييك، وأضحك عندما يضحك، وهذا كلام جميل فالمجاملة في مجالس ذوي المقام يتطلب مثل ذلك، وهذا بلا شك محبب إلى النفس، والرجل العظيم يتوقف عزمه على أوامر نفسه عند جلوسه على المائدة، ولهذا يجب مراعاة ذلك، وينصح ابنه بأن يقدم لجاره شيئا من الطعام إكراما واحتراما، وهذا السلوك ما زال قائما حتى عصرنا الحاضر.
نصيحة رائعة أخرى عظيمة فهو يذكر لابنه بأن رئيسك إذا كان فيما مضى من أصل وضيع، فاحترمه على قدر مقامه، ولا تحضر وضاعته السابقة في ذهنك، وإذا تكلم أحد بكلام غير لائق في المجلس فاصمت، وصياغة الكلام أصعب من أي حرفة أخرى، والحقيقة أن صياغة الكلام ربما أنها من أهم العوامل التي أدنت البعض في المجالس المهمة، فاختيار التعابير وانتقاء المفردات اللائقة من أساسيات المعاشرة، وكم من فرد خسر مقامه بسبب لسانه، وآخر دنا مقامه بحسن مقاله، وهذه مواهب من الله، والتوفيق بيد الله، فكم من ذروب اللسان لم ينل ما ناله منه أقل منه ذرابة، ولا ننسى أن المتلقي بشر تلعب أهواؤه وثقافته وخلقه الموروث والمكتسب عاملا مهما في تعامله البشري.