نص ( الحزام ) بوصفه ( قصيدة-رواية )
|
د. عبد الله الفَيْفي
تطرّقتُ في المساق الماضي إلى تلك الظاهرة من النصوص الحديثة التي تمعن سرديتها في شعريتها، حتى تشكّل جنسًا ثالثًا، سميته: (القصيدة - الرواية). وقد شرعتُ في قراءة (الحزام)، لأبي دهمان، من هذا المنظور. وسيلحظ القارئ في نَصّ (الحزام)، إلى جانب الشعرية اللغوية، أن الشخصيات قد توحّدت أصواتها في صوتٍ شعري واحد هو صوت المؤلّف الراوي. كلها تنطق قصيدة واحدة. كيف لا، والكاتب قد خَيَّل كل شيء شاعرًا، حتى عناصر الطبيعة: (روت لي أُمّي يوماً أن قريتنا كانت في البدء أغنية فريدة،
تماماً كالشمس والقمر،
وأن الكلمات التي يمنحها الناس طاقة شعرية،
تطير كالفراشات، بعضها، الأكثر غنى لونيًّا والأكثر جمالاً تطير بخفة لا مثيل لها،
ولأن قريتنا هي بالتأكيد الأقرب إلى السماء،
فإن هذه الكلمات الشعرية تجد فيها أفضل مكان للتباهي بمكنوناتها،
ولكي تضيء العالم.
كُلّنا شعراء،
كانت أُمّي تقولها دائماً:
الأشجار، النبات، الزهور، الصخور، الماء....
إذ يكفي أن تصغي للأشياء لكي تسمعها تغني.
هكذا قامت الحياة هنا، منذ أن استنبت أجدادنا أوّل الحقول).
(ص 51)
وبهذا انتفى تعدّد الأصوات في نصّ (الحزام) على نحو أشد من انتفائه في (سقف الكفاية). وعليه يبدو نصّ (الحزام) أكثر تدنّيًا روائيًّا - من هذه الزاوية تحديداً - من (سقف الكفاية). ولا بد من هذا التحديد؛ لأن (الحزام) من زاوية أخرى يبدو نصًّا أكثر حيويّة في تعدّد الأحداث والتحوّلات من (سقف الكفاية). بيد أن النصّين معًا يظلان - بالرغم من هذه التفاوتات الفنية هنا أو هناك - يراوحان في المنطقة الشعرية الغائمة بكثافتها اللغوية والبنائية الشعرية، التي تجعل منهما: (قصيدتي - رواية) لا روايتين. فإذا أضيف إلى هذا الاتكاء المطلق لراوي (الحزام) على ضمير المتكلم، وفي كامل النص، تكاملت حلقات الغنائية الشعرية على المستوى اللغوي والفنّي والنفسي. غير أن الجديد في (الحزام)، إذا ما قورن ب(سقف الكفاية)، أنه نصٌّ يتجاوز في شعريته أبعاد اللغة إلى البناء الرؤيويّ للنص، من حيث هو يتشكّل في نسقٍ تركيبي شعريّ، بدءاً من تراتب عناوين النص إلى تناولات كل عنوان. فعناوين محتويات (الحزام) تتالى على النحو التالي:
- مدخل
- تراحيب
- زوجة زوجته
- الوليّ
- العالم الآخر
- أُخَواتي/ ذاكرتي
- أسبوع المدينة
- قوس قزح
- ذاكرة الماء
- مدينة السحاب
- زمن الجنّ
- الخروف والكاتب
- التضحية
- خاتمة
لتحيل هذه العناوين، في دلالاتها المكتظة بالإيحاء، إلى رحلة الراوي بين: الأسرة، فالقرية، فخصب المدينة، فالتحوّل، فالهجرة. لكن هذا الهيكل - مع بساطته ومنطقيته الواقعية هذه، البالغة حدّ السذاجة الفنية من وجهة نظر روائية - يكاد يحمل من الناحية الشعرية قالباً بنائيًّا لقصيدة عربية قديمة. وما على القارئ سوى أن يتأمّل هذه المفردات الشعرية، التي جعلها أبو دهمان عناوين لأجزاء (الحزام)، في تتابعها من المحتويات، ليلحظ أنّها في ذاتها تحمل من الترابط ما يشكّل علائق إيحائية شعرية تطابق العلائق الموضوعية لأي قصيدة عربية تقليدية. حتى إنّه لمن الطريف هنا أن يُجري القارئ مقارنة بين تسلسل هذه المحتويات بعناوينها وتسلسل محتويات القصيدة العربية القديمة، انطلاقاً من مطلعها، (مدخلها أو تراحيبها)، إلى عناصر الخصب، فمعادلات التضحية فيها. ومن هنا فإن بناء نص (الحزام) الموضوعيّ لا يكاد يختلف عن بناء معلقة امرئ القيس، أو عبيد بن الأبرص، أو لبيد بن ربيعة. حيث الانتقال بين عناصر الأرض والذكرى، فالتحول، والرحلة، فالتضحية، وصولاً إلى حكمة النص النهائية، وذلك حسب التراتب المعروف للمضامين في القصيدة الجاهلية، النموذج الأمّ للقصيدة العربية. وقد يبدو من المؤكّد أن أبا دهمان لم يع هذا قط، فضلاً عن أن يسعى إليه، غير أنه يحمل في لا وعيه تلك النسقية الشعرية ذاتها، وإن ألبسها هاهنا رداءً سمّاه: (رواية).
لكن هل حقًّا سمى أبو دهمان عمله: (رواية)؟ أم أن هذا من صنيع القراء النقاد؟ الحق لقد بدا أبو دهمان أكثر حصافةً أجناسيّةً من أن يتورّط في تصنيف عمله، إذ لم يَدْعُ عمله هذا:
(رواية). فهذه الكلمة لا توجد لا على غلاف النص، ولم يشر إليها المؤلف في تضاعيفه، وإنما كان يقول مثلاً: (كتبتُ الحزام)، (ص11)، أو (بعد أن فرغتُ من كتابة هذا النص باللغة الفرنسية، عدتُ إلى قريتي، تلك القصيدة التي كتبوها عبر آلاف السنين). (ص158). وعليه فإن كاتب (الحزام) نفسه يدرك أنه بهذا العمل يخترق الجنس الشعري والروائي معاً ليبدع جنساً ثالثاً، لم يسمّه هو، لكن هذه الأطروحة ستقترح تسميته: (قصيدة - رواية). إلا أن أمر العلاقة بين نص (الحزام) والقصيدة الجاهلية لا يقتصر على البناء الهيكليّ للموضوعات، بل يتجاوزه إلى توظيف الأساطير العربية. وهو ما لا يُستغرب من دارس للغة العربية، خريج أحد أقسامها. (هو خريج قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الملك سعود، الرياض). ومن تلك الأساطير العربية ما يتعلّق بأسطورة (زواج القمر بالشمس)، ذلك الثنائي المقدس في جاهلية العرب الوثنية، الذي كان يكتمل في عقيدتهم بوليدهما (عثتر أو الزهرة)، حسبما عبّرتْ عنه إشارات القصيدة الجاهلية1. كيف حدث ذلك؟ يتخذ أبو دهمان من عنصر الماء رمزاً للتحوّلات الاجتماعية التي مرت بها الثقافة العربية، منذ ركودها الذي ظهر عليه الإسلام إلى ركودها الذي أخذ المؤلف يحاكمه وينتقده. يتحدث عن التحوّل الأول حينما يذكر أنه: (في زمن لا يذكره أحد، بدأت المياه في الصعود فجأة. حاصرهم المطر طويلاً في بيوتهم. في تلك الفترة حَمَل الكثير من نساء القرية، وهو حدث لم نجد له تفسيراً بعد. وما أدهش القرية هو أنّ هذا الحَمْل وحّد هؤلاء النسوة جميعهن، فحين أنجبن لم تذهب أيّ منهنّ إلى الحقول، ممّا أغضب الرجال بالتأكيد، لكن إجابتهن كانت حاسمة: (لكل نباتُه). ولأول مرة، اكتشف الرِّجال حالة الضعف هذه لدى النساء، فأخذوا يحملون لهنّ الماء، ولكن بكثير من المنّة والاحتقار والشعور بالفوقيّة). (ص73-74). وكأنما هذه الصورة ترمز في الرواية إلى المرحلة الجاهلية بقيمها الشعرية الضاربة، التي عبّرت عنها الآيات الكريمة: ?هل أنبّئكم على من تنزّلُ الشياطين؟ تنزّلُ على كلّ أفّاكٍ أثيم. يُلقون السَّمعَ وأكثرهم كاذبون. والشعراء يتَّبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون؟ وأنّهم يقولون ما لا يفعلون؟ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وذكروا الله كثيرًا، وانتصروا من بعد ما ظُلِمُوا؛ وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقَلَبٍ ينقلبون?. (سورة الشعراء، الآيات 221-227). والشعر لدى أبي دهمان يأخذ وظيفة الماء، كما جاء في صفحة 76 من (الحزام). فالشعر إذن تلك المياه التي صعدت فجأة، وذلك المطر الذي تنزّل فحاصر البيوت. ونواصل هذه القراءة في المساق المقبل، إن شاء الله.
1) يُنظر: موسكاتي، سبتينو، (1986)، الحضارات السامية القديمة، ترجمه وزاد عليه: السيد يعقوب بكر، راجعه: محمد القصاص (بيروت: دار الرّقي)، 194؛ سفر، فؤاد، ومحمد علي مصطفى، (1974)، الحَضر (مدينة الشمس)، (العراق: مديرية الآثار العامة - وزارة الإعلام)، 41 .
aalfaify@hotmail.com
|
|
|
|