Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
فضاءات
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
السرقة بوصفها احتجاجاً
وائل القاسم

 

إن السلوكيّات المشينة - ومنها السرقة- ليست إلا نوعاً من الفقدان والحرمان. إنها ليست إلا اعتراضاً على ذلك.. ليست إلا احتجاجاً على الاحتياج. إنها اعتراض بطريقة منحرفة.

أتفقُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ مع المنادين والمطالبين بضرورة تغليظ العقوبات على المجرمين عامّة، وأضمُّ صوتي لصوت مَن يطالبُ بسنِّ قوانين أكثر صرامة لمواجهة «السرقة» تحديداً، نظراً لخطرها الكبير على المجتمع، وأشيدُ بالجهود الأمنيّة والقضائية الكبيرة التي تُبذل للتصدي للعابثين؛ ولكني أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع من زاوية أخرى، آملاً أن يُحسن الجميعُ استيعابَ مقصدي ومُرادي بشكل سليم.

تطالعنا وسائلُ إعلامنا بكثيرٍ من الأخبار المتتالية عن قيامِ فئامٍ من المواطنين بارتكاب العديد من الجرائم. ومنها: السرقة، والسلب، والنهب، والاختلاس، ونشل حقائب النساء ومَحافِظ الرجال، واقتلاع الصرافات الآلية، والسطو -المسلَّح أحياناً- على المتاجر والبنوك والمنازل والاستراحات والمخيمات.. وسيارات نقل الأموال وسيارات الشركات والمؤسسات والأفراد، وغير ذلك من صور التعدِّي على الممتلكات الخاصّة والعامة، في مختلف مناطق المملكة. والقاسم المشترك الأعظم لكثير من تلك الجرائم هو أن مرتكبيها -في الغالب- من الشباب المحتاج العاطل عن العمل.

إن فئة مِن هؤلاء الشباب الذين وقعوا في براثن الجريمة عامة والسرقة بشكل أخصّ، يحتاجون إلى التوعية واستنهاض الوازع المتواري في ضمائرهم، ومنح الفرص الوظيفية لهم، وزرع الأمل والطموح في أنفسهم، أكثر من حاجتهم إلى سياط القسوة وسيوف العقاب ورماح الوعيد والتهديد والتنكيل.

إن بعضهم أبناءُ أسرٍ كريمة أرضعتهم ما تعتبره «مكارم أخلاق» مع حليب أمهاتهم منذ الطفولة، وعلى رأسها النزاهة، والأمانة، والاستقامة، والعفّة، والوفاء، وعزة النفس، وكفّ الأذى عن الناس...

إنهم إذا ارتكبوا شيئاً من هذه الجرائم فليس لأنهم يحبون الجريمة أو يبيحونها لأنفسهم، أو يرضون بها كمهنة دائمة في الحياة. وليس لأنهم يكرهون الآخرين، أو يريدون الشرَّ لهم والإضرار بهم. وليس لأنهم يرغبون في إشاعة الفساد في مجتمعهم؛ وإنما يفعلون ذلك -أحياناً- لأنه لا خيار لهم في ألا يفعلوا.. أو بعبارة أخرى: لأنهم عجزوا في الحصول على ما يكفي لتلبية احتياجاتهم اليومية الضرورية بالطرق المشروعة!!

كلنا نعلم أن الخليفة عمر بن الخطاب أوقف حدَّ السرقة في عام الرمادة؛ بسبب الفقر المدقع والحاجة الماسَّة والجوع الذي انتشر فيه انتشار النار في الهشيم حتى عُرف بعام المجاعة.

أنا لا أبرّرُ لهؤلاء العاطلين جرائمهم، ولا ألتمس لهم الأعذار التي تحثّهم أو تشجعهم على المضي قدماً في دروب العبث والتجاوز والخطأ، ولا أقصدُ من إيراد قصة ابن الخطاب طلبَ العفو عنهم أو تخفيف العقوبة عليهم، أو فتْحَ الباب أمامهم للقيام بمزيد من تلك السرقات؛ ولكني أريد إيصال رسالةٍ مفادها: وجوبُ التفريق بين المجرم الذي ارتكب جريمته مقتنعاً بها أو مصرّاً عليها، أو ممتهناً مكرراً لها دون حاجة حقيقية ظاهرة، والمجرم الذي ارتكبها لمرة أو مرتين، كارهاً لها في لحظة ضعف تحت ضغط ظروفٍ قاسيةٍ لا ترحم.

لقد بلغ الزبى سيل الجريمة، ولا بدّ من وضع الخطط الجادة لتخليص المجتمع من دوافعها وأسبابها أولاً، ثم النظر -بعد ذلك- في موضوع زيادة العقوبات وتغليظها والتشديد فيها.

ماذا ننتظر من شابٍ فتكت به مخالبُ العَوَزِ وأنيابُ الفاقة، وهو يعيش في دولة من أغنى دول العالم؟

ماذا ننتظر من شاب آخر يثابر ويجتهد في الدراسة والتحصيل إلى أن يحصل على الشهادة أو الخبرة أو عليهما معاً، ثم يجد غيره من المقيمين أو من أبناء المتنفذين من المواطنين في وظائف مرموقة لم يستطع هو الوصول إليها ولا إلى غيرها، رغم جدارته واستحقاقه وامتلاكه من الشهادات والخبرات ومقوّمات النجاح أكثر مما يمتلكون؟! مع ضرورة التنبيه هنا على أن الوافدين (إخوةٌ لنا) لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن حقِّ الواحد منهم العمل في أيِّ مكان تَرْجحُ فيه كفّة مؤهلاته أو خبراته على مؤهلات أو خبرات من تقدَّم لذلك العمل من المواطنين. أمّا إذا استوت الكفَّتان أو رجحت كفةُ المواطن -بالخبرة أو بالشهادة أو بغيرهما- فلا شك أن جحا أولى بلحم ثوره!.

ماذا ننتظر من رجلٍ بلغ أحفادُه سنَّ الزواج وهو لا يملك مسكناً؟

ماذا ننتظر من فتاةٍ تُمزِّقها سهامُ الحسرةِ والحيرة بعد أن أعيتها الحِيَلُ وأثقلت كاهلَها مصاريفُ التنقّلِ بشهادة تخرّجها -الذي مضت عليه سنوات طويلة- بين أماكن العمل دون جدوى، وهي تعلم أن الكثير من الفرص الوظيفيّة التي تناسبها وتستحقها بكل جدارةٍ مشغولةٌ بوافداتٍ أو بمواطنات غير جديرات ولا مستحقات، حصلن عليها عن طريق «الواسطة» أو غيرها من الأمور التي يخجل الإنسان من ذكرها؟!

ماذا ننتظر من امرأة لا تجد قوتَ يومها، وهي تقف عاجزةً مذهول ةً أمامَ حربٍ ضروسٍ تشنّها ضدّها جهاتٌ ترتدي لباس الدين؛ لمجرَّد أنها ترغب في دخول السوق للعمل أو البيع والشراء، طلباً للرزق الحلال بالكسب المباح، وتعففاً عن المسألة، أو هروباً من الرذيلة والجريمة؟

ماذا ننتظر من أفراد مجتمعٍ يشاهدون على أرض واقعه كبارَ لصوصه أحراراً طلقاء في الوقت الذي تمتلئ فيه السجونُ بصغارِ اللصوصِ الذين قد يقضي الواحدُ منهم سنوات طويلة في السجن؛ لأنه سرق خروفاً أو ما ماثله في قلَّة قيمته؟!، بل قد تُقْطع يده في بعض القضايا، رغم أنه لم يسرق إلا مبلغاً زهيداً أو شيئاً تافهاً، لا يقارن أبداً بما استحوذ عليه كبارُ السُرَّاق من الفاسدين الكُثُرِ في بلادنا للأسف الشديد، ورغم أنه -وهذا هو الأهم- لم يسرق إلا القليل، وبدافع الحاجة الماسّة في بعض الأحيان؟

ماذا ننتظرُ؟ وماذا ننتظر..؟؟ بل ماذا لا ننتظر من العاطلين وأشباههم من أصحاب المُعانَيات التي لا تنتهي؟!.

إنه لمن المعيب حقاً والمخجلِ جداً أن يطالبَ البعضُ في بلادٍ تفيض بالخيرات النفطيّة وغيرها، بسنِّ أصرمِ القوانين وتطبيق أقسى وأبشع العقوبات، على أبناء وطنه الذين رمَت بهم البطالةُ والحاجة الشديدتان في أحضان الخطأ والزلل والانحراف، دون أن يلتفت أو يشير إلى وجوب النهوض بهم وبمستوياتهم المعيشيّة المتدنّية نهوضاً يوقظ ضمائرهم، ويزيد مداخيلهم، وينتشلهم من أوحال الجريمة ويدفع عنهم دوافعَها.

عاقبوا كلَّ مجرمٍ بما ترونه من الروادع، وكونوا صارمين في ذلك، ونحن جميعاً معكم؛ ولكن لا تتجاهلوا ضرورة الاهتمام بنشر الوعي بين المتجاوزين، وبفتح أبواب العمل الشريف أمامهم، وبإتاحة سبل العيش الكريم لهم، بصورة واضحة شاملة كاملة كافية عادلة.

waelalqasm@yahoo.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة