تستطيع التكنولوجيا الحديثة أن تساعد الإنسان في كافة المجالات، فتختصر له الجهد، والوقت، والتكلفة، وقد تطور من أدائه، وجودة منتجه، وتمد يد العون له في كافة أعماله، ولكنها بقدر ما تعطي قد تأخذ، وبقدر ما لها من مميزات قد يكون لها القدر نفسه من العيوب.
والذكاء الاصطناعي«Artificial Intelligence»، المعروف اختصاراً بـ«AI»، الذي لا يوجد تعريف محدد له، هو وجه من أوجه تطبيقات التكنولوجيا الحديثة في مجالات الحياة المختلفة، له ما له وعليه ما عليه. وهو واحد من العلوم التقنية الحديثة، وفرع من فروع علم الحاسوب، يعتمد على تصميم وبناء أنظمة مُبرمجة تسمح لجهاز الحاسوب أن يفكر، ويتصرف، ويستجيب، بحيث يكون قادراً على محاكاة القدرات الذهنية والعقلية لدى البشر، عن طريق إمداده بكميات هائلة من المعلومات والبيانات فيستطيع بذلك الاستنتاج، والتفكير، والتعلُّم، والقدرة على إنتاج تنبؤات، وحل مشكلات، وحتى التعلم من أخطائه وإعطاء ردود أفعال على أمور لم يكن مُبرمجاً عليها مسبقاً.
وقد ظهر الذكاء الاصطناعي في النصف الثاني من القرن العشرين حاملاً معه إنجازات كبيرة، وتوقعات أنه بمرور الزمن سوف يمكن للآلات أن تكون قادرة على القيام بكل عمل يقوم به الإنسان به وفي شتى المجالات، حيث وضع الباحثون الأوائل في عِلم الذكاء الاصطناعي الخوارزميات، التي تحاكي التفكير المنطقي المتسلسل الذي يقوم به البشر عند حل الألغاز والاستنتاجات المنطقية.
وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أدت أبحاث الذكاء الاصطناعي إلى التوصل لوسائل ناجحة للغاية للتعامل مع المعلومات غير المؤكدة، أو غير الكاملة. ومع مرور الزمن نمت هذه التكنولوجيا بشكل كبير على أرض الواقع حتى أصبحت أداة رئيسة تدس أنفها في جميع المجالات والقطاعات، فصار يُستخدم في العمليات اللوجستية، وفي استخراج البيانات والبحث عنها، وفي طائفة واسعة من الصناعات والإداريات، ويؤثر على كل جانب من جوانب الحياة حتى وصل الأمر إلى مجالات الطب وتشخيص الأمراض، والمجالات الفنية كالتصوير والمسرح غيرها. وتزداد المهام التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي، كلما ازداد التطوّر التكنولوجي ولعل هذه أهم الأسباب التي تجعل منه تخصصاً جديراً أن يدَّرس ويتخرج منه متخصصون في كل مجتمع.
وعلى الرغم من أنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وعلى الرغم من فوائده الكثيرة ابتداءً من مساعدتنا في التنقل في المدن وتجنب زحمة المرور، وصولاً إلى استخدام مساعدين افتراضيين لمساعدتنا في أداء المهام المختلفة، إلَّا أن هذا الاستخدام الأفعواني والأخطبوطي المتسارع للذكاء الاصطناعي في العديد من جوانب حياتنا الحديثة هو الذي يخوِّف البعض من الذكاء الاصطناعي؛ لما يمكن أن يترتب عليه من سوء استغلال، ومعلومات خاطئة، من شأنها أن تزعزع استقرار المجتمع، وقد يصل الأمر في أسوأ السيناريوهات، كما يقول الخبراء: أن تصبح الآلات ذكية للغاية، بحيث تتولى زمام الأمور فتشكِّل خطراً على استمرارية بعض الوظائف، وإمكانية استخدام هذه التقنية لأغراض ضارة، كما حدث مؤخراً من محاولة أحد الأشخاص تقليد صوت رئيس إحدى الدول للنصب على رجال أعمال ومسؤولين كبار.
وبعدما اقتحم الذكاء الاصطناعي المجالات الصناعية والتكنولوجية المختلفة، وأخذ مجلسه وفرض وجوده، هو الآن يطرق أبواب مجالات جديدة كنا نظن على عهد قريب أنه لا يمكن أن يطرق بابها، أو يتطرق إليها، أو أن تفسح هي له مجلساً في رحابها، من هذه المجالات مجال الفن التشكيلي على اختلاف أفرعه، باعتبار أن الفن عملية إبداعية إنسانية خاصة وخالصة، تعتمد على إحساس الفنان المبدع، وفكره، وخبراته النفسية، وقدراته التخيلية، وتراكماته الثقافية والتاريخية وغيرها من مقومات الإبداع الفني، إضافة إلى قدرته على فهم طبيعة الأدوات والخامات المساعدة المطلوبة لإنتاج عمله الفني والتعامل معها.
ومع كل هذا، لم ينج مجال الفن من تدخل الذكاء الاصطناعي، ومحاولة إثبات وجوده فيه، وقدرته على تطويره، والأخذ بيده، فظهرت أعمال فنية كان للذكاء الاصطناعي يد في خروجها إلى الوجود. ولعل البدايات كانت محاولات على استحياء، منها المحاولة، التي طالت أعمال الرسام الهولندي «رامبرانت»، حيث قام فريق من الخبراء بإدخال كثير من لوحات هذا الرسام الهولندي إلى الحاسوب، وأنتجوا لوحة جديدة بأسلوب الفنان الهولندي؛ وكأن رامبرانت نفسه هو الذي رسمها بعد وفاته بحوالي 350 سنة. هذا المنتج الجديد كان وليد عملية حاسوبية قام بها الحاسوب، بعد أن تمَّ إدخال بيانات ومعلومات عن أسلوب الفنان، والآليات التي كان يرسم بها بعض التفاصيل والملامح والجزئيات الفنية المحدَّدة، مثل: ملامح الوجه، والعينين، وطريقته في رسم المناطق المُضاءة، وتلك التي في الظل، وغير ذلك من التفاصيل، ثم تمَّ إنشاء خوارزميات تُعلّم الحاسوب كيفية إنتاج صورة جديدة بأسلوب «رامبرانت».
ومن الأمثلة أياضاً، اللوحة التي ابتكرها برنامج صممه الفنان والمبرمج الألماني «ماريو كلينجمان» بعنوان «ابن الجزار»، التي تم إنشاؤها بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، وفازت بجائزة لومين الذهبية لعام 2018م. وعن هذا يقول هذا المبرمج الفنان: إن أحد أهدافه كمُبرمج أن أستخدم الذكاء الاصطناعي لمُعالجة الصور وإنتاج صور جديدة، إلى أن يصل إلى مرحلة يكون فيها الكمبيوتر قادر على تطوير شخصيته الفنية باستمرار.
وهذا الأمر يطرح تساؤلات حول علاقة الآلة بالفن، وإلى أي مدى تسهم الآلة في إنتاج العمل الفني؟ وهل من الممكن مستقبلاً أن تحل الآلة الممثلة في جهاز الحاسوب محل الإنسان الفنان في انتاج أعمال فنية؟ قد لا يكون الأمر بصورة كلية، فالذي وراء الآلة ذاتها هو الإنسان، وهو الذي يغذي الآلة، ويمدها بالمعلومات والبيانات، ولهذا يمكن القول إن هذا اللون من الأعمال الفنية لا يحتاج إلى مبرمج فقط، ولا إلى فنان فقط، بل يحتاج إلى مبرمج وفنان، أو مبرمج فنان. فالمبرمج يجيد التعامل مع الحاسوب والفنان يمتلك أدواته الفنية وإحساسه الفني، ولا يأخذ المبرمج دور الفنان وقد يأخذ الفنان دور المبرمج لو أتقن هذا الأمر.
واستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الفن لا يمكن أن يقوم بدور الفنان كاملاً فيلغيه، ويحل محله، أو يُقلل من مكانته ويمحو بصمته، فلا يمكن ولا يُتوقع أن يؤدي هذا إلى وفاة الفنان وموته، بل على العكس قد يطور من أدواته وأدائه، ويجوِّد من انتاجه، ويساعده على التجديد والتغيير وفتح آفاق جديدة في التعبير والإنتاج الفني، على ألا ننظر إلى كل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي على أنه الأجمل والأفضل وأنه لا مثيل له، فالتاريخ يقول لنا إنه على الرغم من المنتجات الفنية الصناعية في العديد من مجالات الحرف اليدوية والتراث الشعبي إلا أنه ما زالت الأعمال الفنية اليدوية، أو المشغولة باليد، لها طالبوها، وعاشقوها، ولها قيمتها الفريدة وطابعها المميز.
ولا شك أن الإشكالية القائمة اليوم بين الفن والذكاء الاصطناعي، سوف تستمر، كغيرها من اشكاليات التقليد والتحديث، أو التقليد والتطوير والتجديد، والتاريخ يقول لنا أيضاً أنه لا بد وأن ينتصر التجديد، وأن يسود التطوير. بينما تظل المشكلة في مفهوم البعض التقليدي ونظرتهم القديمة، التي لا تقبل كل جديد بسهولة. وعلى الإنسان الفنان أن يستثمر خبراته، وإمكاناته، وقدراته الفنية، واستغلال الأدوات، والآلات، التي تمنحها التكنولوجيا الحديثة له، في إنتاج أعمال فنية جديدة تضيف إليه وإلى ابداعه وإنتاجه الفني لا يجب أن يقف جامداً عن عصر معين، وأسلوب محدد، فيكون أسيراً له، وغير قادر على الخلاص منه والتحرر من قيوده. ولنا في النحت الرقمي ومن قبله التصوير الرقمي خير مثالين على التطور التكنولوجي وما يمكن أن يساهم به في خلق آفاق جديدة وثرية في مجال الفن التشكيلي.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم