أ.د.صالح معيض الغامدي
ذكر ابن طولون في سيرته الذاتية «الفلك المشحون في أحوال ابن طولون» أن « الترجمة تارة يفردها صاحبها بمؤلف [سيرة ذاتية]كما فعل شيخنا أبو الفتح المزي وتبعته هنا، وتارة يفردها غيره له [ سيرة غيرية] وهو أحسن…». من الواضح أن ابن طولون هنا يفضل السيرة الغيرية على الذاتية، فهل كان مقتنعا في ما ذهب إليه، أم أن هذا كان من باب التواضع، أو الهروب مما قد يتهم بهم من العجب بنفسه لكونه كتب سيرته الذاتية؛ وإلا لماذا كتب سيرته أصلا ؟!
وهذا يقودنا إلى أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن أن تغني كتابة السيرة الذاتية عن كتابة السيرة الغيرية؟
لعل من المناسب ونحن بصدد محاولة الإجابة عن هذا السؤال أن نشير إلى ما أورده عباس محمود العقاد في بداية سيرته الذاتية ( أنا) عندما اقتبس مقولة للكاتب الأمريكي وندل هولمز مفادها أن الإنسان أيا كان هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة؛ الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى هو نفسه. وإذا ما استبعدنا النوع الأول لكونها علما فوق علم البشر، وأخذنا بالنوعين الآخرين، وطبقناهما على السيرة، فإن الخيار الثاني ينتج سيرة غيرية، أما الخيار الثالث فينتج سيرة ذاتية. وقد ذكر العقاد أنه لا يعرف من الأنواع الثلاثة إلا شخص العقاد كما يعرفه هو، ولذا كتب سيرته الذاتية. وبغض النظر عن السبب الذي أورد من أجله العقاد هذا الاقتباس في بداية سيرته الذاتية، فإنه جاء ردا استباقيا لكل من سيتساءل عن شمولية سيرته التي كتبها وعن إهمال آراء الآخرين في سيرته. ولكن مع ذلك، نرى أن العقاد قد كان محقا فيما ذهب إليه، فكتابة سيرته الذاتية لا تغني عن كتابة الآخرين عنه، والرأي الذي يقول بأن صاحب السيرة أعرف بحياته من غيره رأي يشوبه قدر غير قليل من عدم الدقة. فصورة كاتب السيرة الذاتية عند الآخرين هي ليست سيرته كما يراها هو، بل قد تختلف اختلافا جذريا، وهذه طبيعة السير الغيرية، فقلما نجد السير الغيرية التي تُكتب حول شخصية معينة -مهما بلغ عددها - متطابقة، فتعدد الرؤى حول شخصية معينة يفضي بالضرورة إلى إنتاج سير غيرية مختلفة. ولعل نظرة سريعة في كتب السير والتراجم تبين لنا كيف أن ترجمة بعض الشخصيات الإسلامية المرموقة مثل الغزالي وابن خلدون وابن عربي مثلا تختلف من كتاب تراجم إلى آخر اختلافا قد يكون كبيرا.
ولذلك فالسير الذاتية لا يمكن أن تغني عن السير الغيرية مهما بلغت شموليتها، فهي في آخر المطاف لا تعكس إلا وجهة نظر كاتبها من حياته، وهذا هو السبب في وجودها والقيمة الحقيقية المرتبطة بها، أما صورته عند الناس فستظل مختلفة ومتنوعة وتبرز جوانب كثيرة من شخصيته التي ربما قد يجهلهما هو ونجهلها نحن تماما.
على أن السير الغيرية التي تكتب عن شخص معين سبق له أن كتب سيرته الذاتية تختلف هي أيضا في أهميتها ودقتها ومصداقيتها وفقا لعدة أسباب منها: مدى قرب كتّابها أو بعدهم عن الشخص الذي يكتبون سيرته، وطبيعة مواقفهم منه، وجدية البحث في تفاصيل سيرته، ووفرة المصادر والمراجع الشفوية والمكتوبة …. وغيرها.
ولعل أوضح مثال من الأدب السعودي يؤكد أهمية كتابة السيرة الغيرية لمن سبق أن كتب سيرته الذاتية هو كتاب (عبدالرحمن الصالح الشبيلي: سيرة أخرى) الذي كتبه الأستاذ أحمد العساف عن عبدالرحمن الشبيلي- يرحمه الله-. فهذه السيرة الغيرية جاءت (كما سبق أن ذكرت في تغريدة كتبتها) «متممة للسيرة الذاتية التي كتبها الشبيلي «مشيناها» وموسعة وشارحة ومحللة لها، وقد استعان المؤلف في تأليفه بمجموعة كبيرة من الأشخاص الذين ربطتهم بالشبيلي روابط متنوعة، بمن فيهم أسرة الشبيلي، وبلغ عددهم 103، إضافة إلى بعض المراجع والمصادر المكتوبة الأخرى».