الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في زمن كثرت فيه المصائب والمشكلات، على مستوى الأفراد والجماعات، وأدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة من قلق واكتئاب ووساوس وأوهام.
نغفل عن قول الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، تلك القاعدة القرآنية العظيمة من أعظم ما يملأ القلب راحة وطمأنينة، وهو ما يؤكد على أن الخير كله في الثقة بالله العلي العظيم، والتسليم لأمره والرضا بتدبيره.
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين في العلوم الشرعية والقانونية للتحدث حول هذا الموضوع المهم، وفي كيفية ترسيخ الحقيقة القرآنية التي قررها ربنا في نفوس الناس؛ فماذا قالوا؟
تفويض الأمر لله
يقول الدكتور ماهر بن عبدالغني الحربي أستاذ الفقه والقضاء بكلية الحقوق بجامعة طيبة: من تأمل وتدبر في قول الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، حصل له اليقين بوجوب تفويض أموره كلها إلى من يعلم عواقب الأمور وهو الله جلَّ في علاه، وحصل له الرضا بما يختاره ويقضيه له؛ لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
والإنسان المسلم إذا فوَّض أمره إلى الله تعالى ورضي بما يختاره له بعد تعاطيه كامل الأسباب وبذل الجهد والوسع في الأعمال، فإن الله سبحانه وتعالى سيمده فيما يختاره له بالقوة والعزيمة والصبر عليه، وستجد المسلم يقابل أقدار الله بقلب حامد ولسان شاكر؛ لأنه على يقين بأن المكروه قد يأتي بالمحبوب، وأن المحبوب قد يأتي بالمكروه، وأنه لا يأمن أن تأتيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب، والله سبحانه هو وحده الذي يعلم مما قدر ما لا يعلمه الإنسان، وذلك يبعث في نفسه الامتثال إلى أوامر الله تعالى وإن شقت عليه في الابتداء، وكرهتها نفسه؛ لأن عواقب أوامر الله كلها إلى خير ومسرة ولذة وفرح، وكذلك يوقن المسلم بأنه لا أضر عليه من ارتكاب النواهي التي نهى الله عنها وإن هوتها نفسه، ومالت إليها، لأن عواقب نواهي الله تعالى كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، فالعاقل الفطن يرى الأوامر كدواء كريه المذاق إلا أنه يفضي إلى السلامة والشفاء والعافية بإذن الله تعالى، ويرى المناهي كطعام لذيذ قد خُلِط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم، وكلما قوي يقين الإنسان المسلم علمه بربه ورحمته وإحسانه وأن الخير كله في امتثال ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، فتهون عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم، واللذة الدائمة، ويرتاح فكره وعقله من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، ولا يقترح على الله تعالى الأقدار، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، لأن مضرته وهلاكه قد يكون فيه وهو لا يعلم، ويشغل نفسه بسؤال الله تعالى أن يختار له ما فيه الخير والصلاح في دينه ودنياه، وأن يرضيه بما يختاره له.
اسمع إلى الإنصاف؟!
ويشدد الدكتور المحامي مسعد بن عائض الدوسري المدير العام لشركة المعاون الدولي للمحاماة والاستشارات القانونية: إلى أنه ليس كل مصيبة، أو شر يصيب المسلم والمسلمة شر بل هو خير لو كان يقين العبد عظيم بالله، وعلى قدر الثقة بالله والصبر على القدر يكون درجة العبد فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو اللطيف الخبير يحزن في النفس كلام الآخرين الذي يحمل في طياته الشماتة، والكذب، والافتراء، وليتهم أخذوا من كلام الصحابي أسيد بن حُضير في قصة ضياع عقد مع عائشة رضي الله عنها، واشتكى الناس إلى أبي بكر عندما أوقف الحبيب صلى الله عليه وسلم السير للبحث عن العقد، وجاء الصديق وعنّف على عائشة في ذلك حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وحضرت الصلاة والتمس الماء ولم يجد فنزلت آية التيمم هنا مربط القول من أسيد رضي الله وهو ربي قاعدة الإنصاف:(ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر... (ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه خيراً، وبركة) عسى الله يجعلنا ممن إذا ابتُلي صبر وحمد الله في السراء، والضراء، وجعلنا من الموفقين.
الرضا والتسليم
ويستهل الدكتور عمر بن عبدالله المشاري السعدون كاتب العدل.. حديثه بقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة.
قال ابن كثير: «وهذا عام فِي الأمور كلها قد يحب الْمرء شيئاً وليس لَه فيه خِيرة ولا مصلحة».
فالخير كل الخير في الثقة بالله تعالى والتسليم لأمره والرضا بتدبيره، ومن سعادة المؤمن أن يقول كل صباح ومساء ثلاثًا كما جاء في الحديث: «رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ونبيُّه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه وكليمُه.
وإن مما يعين على الثقة والرضا والتسليم؛ اليقين بأن تدبير الله للعبد أجدى وأنفع من تدبير العبد لنفسه، وأن العاقبة غيب لا يعلمه إلا مولاه، فخيرٌ له أن يرضى بتدبير من هو أرحم به من نفسه.
قال ابن القيم رحمه الله في (الفوائد): «فإذا سلَّم العبد تحكيمًا لحكمته وحكمه، وأيقن أن الكل ملكه؛ طاب قلبه، قُضيت حاجته أو لم تقضَ، فإذا رأى يوم القيامة أن ما أُجيب فيه قد ذهب، وما لم يُجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط، فافهم هذه الأشياء، وسلِّم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال».
والإنسان معرّض للمصائب والكوارث والأمراض الجسدية والنفسية، فإذا علّق قلبه بالله وربى نفسه على ذلك، وعلم أن يجب أن يحقق عبادة الشكر زمن النعم والعافية، وأنه يجب تحقيق عبادة الصبر زمن المصائب والأمراض والبلاء، ولذلك اختلف كلام أهل العلم من هو الأفضل في مسألة: (الفقير الصابر والغني الشاكر)، وقس على هذه المسألة المريض الصابر أم المعافى الشاكر، وغيرها من النعم أو المصائب، فرجح قوم أن الصابر أفضل وقال آخرون أن الشاكر أفضل، ولكن الراجح ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله أن الأفضل هو من وافق والتزم الكتاب والسنة في كل حالة هو عليها سواء كانت الصبر أو الشكر، لأنها كلها ابتلاءات والأفضل من حقق أمر الله بما يوافق الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (35) سورة الأنبياء.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قوله: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وقوله {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: وإلينا يردون فيجاروا بأعمالهم، حسنها وسيئها
قال الإمام ابن جرير الطبري: ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة والعافية فنفتنكم به.
فعلى المسلم أن يلتزم أمر الله في في كل أحواله متقلباً بين الشكر والصبر وتسليم أمره لله محتسباً أجره على الله، وإذا تمسك بهذا استقر إيمانه وطابت نفسه واستقامت دنياه وآخره.
تذكير وتنبيه
ويبيّن الدكتور صالح بن عبدالعزيز الغليقة أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: أن الله جلَّ وعلا يخبر عباده المؤمنين به وبكتابه، المتبعين لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ما يقدره عليهم من مقادير مكروهة لهم في نظرهم الأولي، قد يكون الخير مطوياً فيها، وسينكشف لهم ذلك الخير في يوم من الأيام، وعندها يعرفون لطف الله بهم، ومن جهة أخرى فإن ما يحبونه من أشياء ويتمنون حصولها لهم، فيمنعها الله عنهم، يكون الخير في منعها، ولو أعطاهم الله إياها لحصل لهم بذلك شر عظيم.
هذه القاعدة الإيمانية العظيمة جدير بكل مربٍ أن يرسخها في نفوس الناشئة، بالتذكير والتنبيه لهم عند كل فرصة سانحة، ومناسبة حاضرة، وهو يتلو عليهم هذه الآية الكريمة: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: «في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد...».
وما أجمل أن يردد المربي -مع الناشئ الذي يتولى تربيته- هذين البيتين:
يجري القضاء وفيه الخير نافلة
لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرج أو نابه ترح
في الحالتين يقول الحمد لله