يحكى أن قبيل بزوغ خيوط الفجر يقف (المجدمي) على ذلك الخليج الذي اكتسى جمالاً وكأنه لؤلؤة وسط محارة، ليرفع العلم على صارية (السنبوك) - نوع من أنواع السفن التي تستخدم بالغوص - كإشارة متفق عليها لاستدعاء البحارة إلى يوم (الدشة) -يوم دخول البحر- لبدء رحلة غوص (الردة) - لاستخراج اللؤلؤ ومدته ثلاثة أسابيع من 20 سبتمبر إلى منتصف شهر أكتوبر-.
كان (راعي السريدان) - ويعرف أيضاً بـ (الرضيف) وهو من توكل إليه مهمة طبخ الذبائح، ويكون نصيبه من اللؤلؤ 10%- أول الواصلين، تلى ذلك وصول (النوخذة) - ربان السفينة ومن يقوم بحفظ محصول اللؤلؤ ويكون نصيبه عند جمع اللؤلؤ 20% -.
في هذه اللحظات يصل (الغواص) - وهو الذي تقع عليه المهمة الشاقة بالغوص والبحث عن اللؤلؤ ويكون نصيبه 40%- ورفيق دربه (التباب) - من يتدرب على أعمال الغوص- حاملان معهما (الفطام) - شبيه بالملقط يوضع على الأنف ليمنع دخول الماء إليه- وشمع العسل - لتمنع دخول الماء إلى الأذنين- وفي اليد الأخرى يمسكان بـ (الزيبل) - حجر أو رصاص يتراوح ثقلها من 10-14 رطلاً، تعلق في رجل الغواص بواسطة حبل لكي ينزل بسرعة إلى قاع البحر- يعلقان على ظهريهما (ديين) - زنبيل يعلقه الغواص بعنقه لجمع المحار، وهو مصنوع من حبل القنب-، ويربطان في وسطهما (الأيد) - عبارة عن حبل لتأمين الحماية للغواص، فعندما ينتهي من جمع المحار ووضعه في الديين يهز الحبل ليعلم (السيب) - وهو من يقوم بالإشراف على خدمة الغواص أثناء نزوله إلى قاع البحر وسحبه من القاع، وأي خلل في عمله يعرض حياة الغواص إلى الخطر نصيبه 30% من اللؤلؤ- بانتهاء المهمة فيسحبه فوراً من القاع، كذلك يرتديان في يديهما الغواص والتباب (خبط) - القفازات- ثمة لحظات وتتعالى أصواتهما بالضحكات وسط تحدي قدرة تحمل (التبه) - الغطسة والتي تتراوح من 40ث إلى 1د، ويتراوح ما يجمعه الغواص من محار في الغطسة الواحدة بين 3 و20 محارة-. ترانيم العم حسن (النهام) - من يقوم بغناء المواويل والأناشيد لتسلية الغواصين - تصدح على ضفاف الشاطئ بصوته المجرد بأهزوجة (بريخة) - شلنا واتكلنا على الله، ربي عليك اتكالي، عزيت يامن له الملك، كريم تعلم بحالي، علمك يسود الليالي، يشكي لك عما جرى لي، مسكين أنا مسكين -. وعلى الطرف الآخر من الساحل يردد معه «البحارة» على الله على الله. حان وقت الصعود إلى السنبوك وجميع البحارة مرتدين (الوزار) - قطعة من القماش على شكل فوطة كبيرة، تشد في وسط الجسم برباط يسمى (النسعة)- و(الزنجفره) - الفانيلة القطنية-.
في هذه اللحظات يصل (الطواش) - من صغار تجار اللؤلؤ- حاملاً معه (البشختة) - صندوق لجمع اللؤلؤ بعد شرائه من الغواصين- ممني النفس بعودتهم سالمين محملين بالخيرات، ترتفع دعوات الأهل إلى السماء (أمنت الله الغواويص، أمنت الله الغواويص). على الجانب الآخر وبصوت محشرج يتمتم العم علي - وهو غواص أصابه (العاف) - مرض يلحق بالغواص بسبب تغير درجة حرارة الماء ويسبب تعباً وإرهاقاً شديدين-:
في أبو ظلام والعياي
وأنا مسرسح مع الماي
والعاف يلوي امعاي
وأرجف مثل سعف النخيلة
ليلتقي به العم عبد العزيز الذي يسير بخطى متثاقلة بسبب إصابته بـ (أم زليقة) - مرض جلدي يصيب الغواصين، نتيجة لمكوثهم الطويل في عرض البحر وتعرضهم للرطوبة وملوحة الماء مع قلة النظافة- فقد اتفقا بسبب مرضيهما الذي أدى إلى تخلفهما عن الدشة وبحثاً عن لقمة العيش على ممارسة (المجنا) - جمع المحار سيراً على الأقدام في المناطق الضحلة ويعتمد على المد والجزر-.
مع إشراقة شمس الصباح وكالمعتاد فاطمة تسابق الوقت وتجري بين «أزِقَّة» المدينة لأخذ أخبار الجيران فتارة تقف على باب أم صالح تلك المرأة المكلوم قلبها على ابنها الذي أصابته (روعة) فتصف لها (العذرة) - وهي أرز مطبوخ بالسكر أو الدبس يتم تفريقه في المنعطفات استرضاءً للجن- ثم تنادي بأعلى صوتها على أم عبداللطيف وأم سارة توصيهما باستخدام (العذرة) قبل ذهاب العروسين للاستحمام في إحدى العيون استعداداً للزواج، في تلك اللحظات مجموعة نسوة يسرن بموكب حاملات معهن صوان مغطاة بقماش ملون بهذه الصحون (حلوى، القبيط، الرهش والقناطي) ويترنمن:
- لولا دلالك ما عنينا لك، وصبي غاوي وانتقيناه لك، لولا دلالك ما تعنينا، ولا خطبناك ولا جينا- فهذا موكب (تسليمة) سارة - ويعني تسليم المهر-.
ثمة صبية على جانب الطرقات يتناقلون مغامرات سعد مع (أبو مغوي) - يعتقد الناس أنه عفريت من الجن يقف في وسط بلدة تاروت، ويقول للسائر في الطريق خذ يميناً أو شمالاً فإذا أطاعه السائر انحرف عن الطريق ووقع في الطين الذي لا يمكن التخلص منه- وكيف استطاع سعد خداع أبو مغوي وتكبيله بالحبال! ليتداخل بحماس وبكل غرور سامي ويروي حادثة والدة مع (أبو دربارة) - كائن يتمثل بصورة غريق فإذا حاول أحد الاقتراب منه وإنقاذه قتله، وإذا تركه اختفى في عمق الماء- وكيف أن والده قتله وخلص الناس من شره!. على بعد أمتار فتيات يلعبن (العوة) - أي الثعلب حيث تتقمص واحدة منهن دور الثعلب والأخرى الأم، ثم تأتي بقية الفتيات متماسكات الأيدي وهن يرددن: -
إحنا الطويرقات حلوات صغيرات
جيناش يا أمنا جيناش بالخيرات
جايبين لش توف وموز
جايبين لش أرويد ولوز
جمعناها لأمنا جيناها بالخيرات
أمنا صغيرة كبيرة
أمنا الحلوة المنورة
وش فيش ما تردين يمه؟!
(فترد العوة):
أسوي لكم عصي يا بنياتي
أسوي لكم سوية فريد يا بنياتي
(البنات):
هذا مو صوت أمنا
هذا مو صوت أمنا
فتخرج العوة لتلحق بالبنات ويهربن منها صائحات (يا أمنا الحقينا***العوة بتأكلنا)
تظهر الأم وعندما تشاهدها العوة تهرب، وإذا استطاعت الأم وبناتها الإمساك بها يتم ضربها وإذا هربت إلى مكانها يتم اختيار إحدى البنات لتحل محلها ويلعبن من جديد.
تغرب شمس هذا اليوم وتضج الحارة بالزغاريد وتتغنى النساء: - ليلة الحناء على العذراء سعود، نورها مثل البدر والعين سود-. - زفة العذراء يا محلاها، ويلوق بالكفين حناها- ارتدت سارة (الثوب الأخضر) -لأبد أن يكون لونه أخضر- مخفية وجهها بغطاء وتقوم (الحناية) (بتخضيب) يديها ورجليها وسط أهلها وصديقاتها اللاتي يرددن - حلو الحنا منقش بيدها مشكلة، وشحلاته يا خلق ما يوصف مثله، حناش عالنجم مثل القمر وأحلا ،ذهبها لابسته وحنا بيديها- لينام أهالي الحارة على (ليلة حناء) سارة.
يوم جديد يشهد مراسم (الدزة) - عبارة عن هدايا تشتمل على مستلزمات الزواج من ملابس وحلي وعطور وأوان ومنافض، أطعمة ومؤنة تكفي لعدة أشهر- وسط تواجد الأقارب والجيران حيث تقوم النساء بمساعدة أهل العروس وإعداد وليمة العشاء كما تقوم بعضهن بتزيين غرفة نوم العريسين (الخلة) وتطيبيها.
ومساء هذا اليوم - الذي يسبق ليلة الزفاف- يشهد دق الدفوف بالطرقات وترديد زواج عبد اللطيف من سارة صحيح وحلال ويخبر الحاضر الغائب) فإذا لم يكن هناك اعتراض بحجة «الرضاعة» يتم الزواج وتعرف هذه الليلة (بليلة التّورب).
ها هو «القاري» والذي تجره الحمير يُجهز من قبل أقارب وأصدقاء عبد اللطيف لنقلة إلى إحدى العيون وذلك للاستحمام ويسمى ذلك (يوم الغسول) ويصاحب ذلك الغناء، وبعد العصر عادوا ليركب عبد اللطيف على فرس ويتجمهر من حوله الناس وهم يؤدون رقصة العرضة متجهين إلى بيت العريس ويستقبلون بالورد ويُنثر عليهم الحب والمكسرات والنقود. وفي المساء تكون (ليلة الطيب) حيث توجهوا إلى بيت العروس.
أثناء ذلك تجهزت أيضاً سارة بيوم الغسول وتزينت بفرق شعر رأسها ووضع (مشخط) في مفرق الرأس ثم « جدلت» شعرها في ضفائر انسدلت على ظهرها ووضعت عليه (القبقب) - عقد يلبس على قمة الرأس للعروس- وزينت عنقها بـ (المرتعش) و(الكردان)، وفي يديها ارتدت (الحناجر) و(الزنود) وزينت رجليها بـ (الحجول) - الخلخال-.
ثم «كحلت» عينيها وتطيبت بماء الورد ودهن العود. زفت سارة إلى عبد اللطيف بحملها (بمرحلة) من قبل أهلها وصديقاتها (وهو عبارة عن زنبيل كبير مصنوع من السعف) وسط قرع الدفوف وترديد: - وأنا أسألك يا عظيم الشأن، يا خالق الإنس والجان، وأعيذهم بالأسماء والرحمن، عن عين شيطان والجان- بعد ذلك يصعدون بها إلى (الخلة) وهي غرفة العروس ببيت اهلها حيث ينتظرها زوجها- عادة يجلس العروسان في بيت أهل العروس سبع ليالٍ قبل انتقالهما إلى بيت الزوجية.
في صباح اليوم التالي (الصباحية) قدم عبد اللطيف إلى سارة (المرية) - عقد من ذهب- و(المسرح) - قطعة تصنع من حرير ناعم أسود شفاف يلبس فوق الدراعة ويكون كله مطرزاً- و( ثوب المنثور) - ثوب ينثر عليه الزري من الأمام والخلف- . كما قدم إلى أم سارة (الشميلات) - سوار من ذهب مرصع بالأحجار الكريمة- وذلك من أجل (أحبابة الرأس) - الفتاشة أي مقابل كشف وجه أم الزوجة عن زوج ابنتها-
وبعد مضي سبعة أيام من زواج «سارة وعبد اللطيف» ذهبت العروس إلى بيت الزوجية ويعرف ذلك في (التحوال) - كما يعرف بوقت الهدية ويعني تحول العروس من بيت أهلها إلى بيت زوجها - مصطحبة معها «الرقيدة» لتستأنس بها وتخفف عنها رهبة العيش بعيداً عن أهلها, تم استقبال سارة في بيت أهل زوجها بفرش الأرض التي تمشي عليها بالمشموم والريحان كما تم إعداد وليمة العشاء على شرف العروسين وإرسال جزء منه إلى بيت أهل العروس. تستمر فرحة الأهل والأطفال بالعروسين و»تعتم» الدنيا وكلاً يذهب إلى منزله ثمة أطفال لازالوا يمارسون الرقص والقفز رافضين الخلود إلى النوم وسط امتعاض وغضب الأمهات اللاتي حاولن أن يخوفن أطفالهن بـ (أم العوافي، أم المحامل) ولكن دون جدوى لتأتي الجدة فتوح وبصوت عالٍ يا الله يا حافظ يا الله يا حفيظ من جماعة (ساباط الظلمة) تأمنا يجتمع الأطفال حول الجدة فتوح ويتساءلون بذهول عن ساباط الظلمة فتجيب الجدة : - كان يا مكان في قديم الزمان فيه مكان اسمه ساباط الظلمة في قلعة القطيف وهو مسكن للجن الذين يظهرون للناس والأطفال الذين يخبطون الأرض بقوة ويقفزون بالليل بصورة زنوج سود عيونهم موازية لأنوفهم وشعرهم منفوش ولهم خراطيم يأكلون بها ولهم أرجل كأرجل الحيوانات، أحياناً يظهرون بصورة كلاب وقطط سوداء يحومون حول العيون والترع والبساتين ينتظرون الأطفال والناس المزعجين ليدخلوا في رؤوسهم- وقبل أن تكمل الجدة القصة - أسطورة- بسرعة البرق ذهب الأطفال إلى النوم لتنتهي الليلة بصخبها وضجيجها ويعم الهدوء والسكون في الحارة.
** **
- أ. ضياء بنت إبراهيم الميمان - ماجستير آثار ومتاحف/ باحثة بالتراث الوطني
(*) مبادرة بسرد قصصي لحفظ التراث الشفهي