د.أمل بنت محمد التميمي
أرسل لي سعادة الدكتور محمد الفيصل مدير تحرير (الجزيرة الثقافية) «مساء الخير د. أمل، نعتزم إصدار ملف تكريمي عن أ.د.عبدالله الغذامي، ومشاركتك تهمنا، والملف سينشر قريبًا حفظكِ الله».
أرسلت للغذامي قائلة: سأكتب عن الرجل الذي أحببته (ابن الجهنية). هل تسمح لي؟
رد عليّ كاتباً: «وأسعد بقلمك وفكرك».
قبلة تقدير من أستاذ عظيم تصنع جيلاً يعتد بنفسه.
كنت إحدى طالبات الدكتور عبد الله الغذامي في العام الجامعي (1427- 1428هـ)، في مرحلة الدكتوراه، وكان أستاذاً استثنائياً لم يمر عليّ مثله قط، في البداية بدا لي مغروراً، ثم اكتشفت العكس تماماً هي الثّقة بنفسه وبمن يعدهم من طلابه ليكونوا (نقاد المستقبل)، يسعى إلى أن يدرس جيلاً يمتلك خطوات النّقد ومقولات النّقد ومن ثم لا يمارسها تطبيقاً، يدخل من باب ويخرج من باب آخر وتفسده الثقافة العامة، كان مهموماً بجيل الثّقافة القادم، ومتخوفاً من أن يعطيهم أساتذتهم لغة النقد ولا يعرفون يمارسون هذه اللغة بروح النّقد، كان ينقل لنا هذا الهم لنشاركه الحلول، ويُخيرنا، وكذلك يترك لنا المجال للبحث في المسار الذي نختاره ويوجه بأمانة وإخلاص، ومن محاسنه أن متطور جداً يقبل كل أساليب (التّجريب) بشرط العمل بمنهجية، وكذلك يحب الشخصية المغامرة والجريئة، ويمارس التقنية الحاسوبية بطريقة تقدمية جداً، فيقبل المحاضرات بتقنية (العرض بور بوينت) والفيديو، والاتصال عن بعد بالهاتف الأرضي، وهذه الأمور كانت وقتها نادرة في التعليم. وكذلك كان يسمح لنا أن نأخذ المحاضرة ونحن في بيوتنا بالاتصال الهاتفي، كوني طالبة مغتربة ومبتعثة إلى جامعة الملك سعود، فيوفر علي جهد السفر، فمثل هذه الممارسات من الغذامي حببتنا في المحاضرات، فكلنا نسعى إلى عدم التغيب، والتنافس في التكليفات، والتزود من علم هذا العالم الاستثنائي، والتعلم من خصال هذا الرجل العظيم.
وفي التفكير البنيوي عودنا أن يكون في حياتنا (صوتيم)؛ أي بمعنى أن يكون في خيارات حياتنا (الصوتيم)، ونسخر خطواتنا نحو (الهدف) ففي حياتنا قلب مهم، أي وعي وفكر، فنفرق بين الجوهري والهامشي، ففي حياتنا صوتيم وهامش، ونحول القلق إلى إيجابية، فيقول: «لا تجعل شغلك يشغلك عن شغلك الأهم» في شغلك اليوم (صوتيم)، وإذا عرفت طريقك اشتغل على هذا الهدف. وفي حياتنا قيم ثابتة، وهناك قيم مضيئة تشتعل فترة وتتلاشى.
سوف أبدأ من الملاحظة الأولى التي تنتابني كلما حضرت محاضرة للدكتور عبد الغذامي تعتريني حالة غريبة هي أشبه بكشف لغزٍ، تنتابني حالة نهم قرائي، وتدفق كتابي عجيب، بذلتُ جهداً كي أكتشف نفسي لماذا كلما اقتربت من هذا الرجل تعتريني حالة عجيبة؟! وبعد زمن لاحظت أنني أكتب رسائل حب إليه، في حقيقة الأمر أنا أجلس أكتب تلك الرسائل على كرسي مكتبي، ولكنني أتخيل نفسي أجلس معه، هو على كرسي وأنا جالسة على الأرض وحولي الكتب متناثرة والأوراق، وأجثو عند قدميه وأدخل في نقاش معه، أقبل يديه، ولا أفيق من هذا الخيال إلا بشلال من الدموع وعشرات الأوراق التي تكون قد كتبت، وبعد ساعات طِوال أكتشف أنني وحدي وأتلفت يمنة ويسرة فلا أجده، فأرسل رسائلي إليه وأنام، وإذا استيقظتُ قرأت ما كتبت. فأعلم أنني لم أكن أحلم وأجد الرسائل تحتوي على قضايا وحوارات عجيبة كأنني لست أنا كاتبتها.
كانت تحتوي رسائلي على ثلاثة عناصر (أنا، وابن الجهنية، والحب)، «تقطعت إرباً ولكنني لم أمت» توصلت إلى قناعة أنني أحب هذا الرجل، وتساءلت مع نفسي، ما مقدار وعيي بما أكتبه من رسائل إلى هذا الرجل؟!، وأكتب له رسائل مليئة بالقضايا ومبللة بالدموع وبها صوت البكاء، وفكرت حينها هل حبي له مكسب أم خطر؟ أكتب في حالة اللاوعي نقاشات ونقرأ كتبا، وأكتب تارة بوصفي أديبة، وتارة بوصفي ناقدة، وتارة بوصفي محبة، لم تتضح لي الرؤية بعد، ويقول لنا أستاذي الدكتور الغذامي قضايا وتوجيهات ووصايا وأستوعب ذلك في حالة الوعي، على سبيل المثال يقول: « المنهج للمعرفة، والمنهج يضبط الباحث ثم يضبط النّص، فإذا لم يضبط المنهج الباحث يظل عمله متعة ولا يصل إلى شيء، مثل الفارس الذي يركب الفرس للمتعة فقط بدون الوصول إلى هدف». وأيضاً أستوعب منه قوله: «المحبة ضرورية بينك وبين نصك، ولكن بدون تعاطف، فشرط المحبة تضبط العلاقة بينك وبين نصك، ولكن التعاطف شيء خطير ويجعلك تنقاد». فإلى ماذا كنت أنقاد وراء محبتي لـ(ابن الجهنية)؟!
معظم الناس يعجبون بالغذامي حتى أولئك الذين يغارون منه، فلماذا أن قلقة بشأن هذا الحب؟ سؤال كنت أطرحه على نفسي، والأعجب كنت قلقة بشأن (مسودات الرسائل) التي حملت عناوين كثيرة في جهازي وبريدي وقلبي، فكيف أمحو الأثر؟
استسلمت لحبه، ولتأثير صوته، واستسلمت لحالة التّدفق الكتابي التي تعتريني بعد كل لقاء به في الحقيقة والخيال، ثم أحببت حبي له بعد فترة كتبت حزمة رسائل لا يمكن لي أن أكتبها في حالة الصحو، وصنع مني حالة متفجرة من الكتابة لا يمكن حدوثها في الحالة العادية، فلولا وجود الغذامي (ابن الجهنية) لما كتبت كل هذه الرسائل التي ربطتها بشالٍ من حرير وعقدتها بساق حمامة، وأرسلتها إلى الغذامي (ابن الجهنية) بالبريد، فلم أكن على بينة من وقع هذه الرسائل على الدكتور الغذامي (ابن الجهنية)، ونتيجة هذه الرسائل مخبأة عند الغذامي وحده.
المهم عرفت أنني لم أكن طالبة عابرة في ملف الغذامي التعليمي، ولم أكن طالبة تمر مرور الكرام في حياة أستاذ مثل الغذامي، كان غالبا ما يثني عليها، فاكتشفتُ العنصر الأول من عناصر اكتشاف اللغز يرتبط بتقدير (ابن الجهنية) لأمل ويمتدحني بأنني أمتلك (تفكيراً عقلياً منتظماً وقادراً على أن يقدم تنظيراً مختلفاً)، وهذا أقصى ما يتمناه الطالب من أستاذه (التّقدير).
مشيت على نفس الخط في التدفق الكتابي كلما اقتربت من (الغذامي) فقررت اختيار موضوع الدكتوراه عن (الغذامي الإنسان) لأكتب عمّا دهشت به من شخصية الغذامي الإنسان، طلبت من مساعدي الإداري أحمد البشري جمع كل ورقة كتبها الغذامي وكُتبتْ عنه، وكان وقتها البحث في الإنترنت ليس شائعاً للجميع في البيوت، غالباً يكون في المكتبات العالمية مثل مكتبة جامعة البترول والمعادن بالظهران، وبعد رحلة من القراءة وطباعة الآلاف الورقات جمعتها من المكتبة الإلكترونية بجامعة البترول والمعادن، جمعت (مشروع الغذامي العلمي والكتب المؤلفة وما قيل عنه) وقمت بمشروع قرائي للغذامي، قرأت دراسات الغذامي أو التي تشير إليه، وكان أغلبها من إنتاج أهل المغرب الشقيق، وبدأت أتوغل في فكر الغذامي وما قيل عنه.
ووقف الدكتور ضد رغبتي البحثية في البحث عن مشروع الغذامي الإنسان، وكذلك رفض في أن يكون مرشدي، ووجهني إلى مشروعي الأساسي السيرة الذاتية وقتها، ووجهة نظره قائلاً: «إن الحيرة العلمية المعرفية التي يقع فيها الباحث هي ميزة دائماً، والباحث إذا بدأ بالحيرة البحثية بدأ بالطريق الصحيح، فإن لم يشعر بالحيرة في لحظة من اللحظات ولا التردد، فعليه أن ينتبه على نفسه»، وقال لي الدكتور الغذامي بعدما قمت بتحليل قصيدة للمعتمد بن عباد، أورد مطلعها:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً
أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ
كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا
«أمل تعمل في منطقة السيرة، والجانب السيري يتحول إلى مشروع نقد ثقافي، والنقد الثقافي يعلو قمة الدراسات النقدية في هذه المرحلة، وأنت مسكونة بالسيرة الذاتية، وقيمة الإنسان ما يتقن، ودخلتِ منطقة جديدة وخاصة بكِ وجمعت بين السيرة الذاتية وثقافة الصورة، وسأقف معك ليكون د. صالح معيض الغامدي مرشداً لك» سمعت نصائحه وتوجيهاته، وظل معي يوجهني ويرشدني ويستقبل المصورين ليصور لهم عن موضوعي، وبدافع الحب والإعجاب يتسرّب صراع التخصصات في داخل أمل. «ووسط الظلام وجدت إيماني» وبعد الفحص المستمر وجدت أنني أحب (ابن الجهنية) وليس بسبب المعرفة التي يمتلكها فقط، ولكن لأسباب أخرى كثيرة، تسرّب إلى عقلي الجواب وقال لي حينها: «حرام بعد كل عملك المنهجي الصحيح يخرج إلى اللا منهجية، الباحث الجيد يعمل وفق المقولات المعرفية العالية، ووفق الخطوات الخمس، «البنيوية، والتفكيكية، والنقد الثقافي والتأريخية، والسيمولوجية، ثم يخطو نحو الخطوة السادسة وهي التأويل» علمنا أستاذي الغذامي أن نشتغل ليس بلغة المقولات النقدية، فحسب ولكن بروحها، وأن نرتقي بالتدريب وبالممارسة خطوة خطوة مثل أكل العنب حبة حبة ولو أكلنا العنود كاملا مرة واحدة نغص بسكر العنب ونموت.
اكتشفت العنصر الثاني من عناصر الحب الذي يغمر داخلي للغذامي (ابن الجهنية)، بعد العنصر الأول وهو (التقدير) العنصر الثاني هو (المنهجية) التي يدربني عليها وهي بمثابة (اللمبة العلمية) التي يمتلكها العلماء، حيث يقول: «العلماء يتأكدون من كل كلمة يقولونها أو يكتبونها، لكل كلمة ميزان» وينبه أن بين المنهجية واللا منهجية (خطوة) تُخرج الباحث من المنهجية أو العكس صحيح تجعله يخطو نحو تحليل أنواع الخطاب ويمارس التحليل مثل العلماء ويصبح له اسم في سماء التّنظير والتّطبيق مثل محمد مفتاح، ومحمد عابد الجابري، وعبد الفتاح كيليطو، وسعد مصلوح، وشكري عياد. غالبا ما يفخر الدكتور الغذامي بالدراسات الجادة التي أضافت للفكر، ونحن أعيننا جميعا إلى مشاريعه التي أضافت إلى الفكر والأمة حتى أنني أجزم أن لا أحد في الجامعات العربية لا يعرف من هو الغذامي، فقد سألت وفدا من العراق كان ضيفاً في جامعة اليمامة هل تدرسون الأدب السعودي في العراق فقالوا، نحن ندرس الغذامي وفكره ومشروعه في جامعات العراق ويمكن قياس ذلك على كل الجامعات العربية.
نعود إلى اكتشاف العنصر الثالث والأخير من اكتشاف سر حبي للغذامي (ابن الجهنية)، رسائل حبي إلى الغذامي (ابن الجهنية) هي (تركة إلكترونية) في بريده وبريدي، قد يكون فقدها وهي ملك السحابة الإلكترونية، ولكن بعد سنوات من كتابتها سألت نفسي، بعد أن ترنح قلمك يا أمل في حب (ابن الجهنية) أين الأثر؟ ولماذا يمحو الإنسان الأثر؟ ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يمسح أثره؟ أحيانا يمحو الجريمة أو العيب أو الخطأ؟ ولا أشعر بأي من هذه المشاعر في إعلان حبي (لابن الجهنية)، والبوح عن رسائل حبي إليه. فحينما مرض الغذامي (ابن الجهنية) تمنيت لو أقطع جزءا من روحي لأفديه بروحي، وكتبت في الفصل الخامس من كتابي (في مشلح أبي وجدي) عن هذا الحب، وكشفت عن اللغز الثالث وهو (العلاقات القرابية)، فوالدة الغذامي جهنية، وجدتي لأبي (فاطمة العامرية) جهنية، فتجمعني به محبة (أواصر الدماء) التي تسري في دمي ودم ابن الجهنية، فالغذامي ابن فاطمة الجهنية، وأبي محمد عبد الواحد ابن فاطمة الجهنية.
فالحب لا يأتي بقصدية، والحدس ليس علما، وكما علمنا أستاذي الغذامي نصل بالحدس إلى النتائج بالمصادفات، والحب ليس علما، ونصل به إلى أقصى الغايات، فتوصلت بحب الغذامي (ابن الجهنية) إلى أقصى غاية في حياتي، فلم أحب مثل هذا الرجل الذي يستحق الحب، كنت على مشارف جنون الحب، وحبه يغذي الفكر والقلب والمشاعر، فأجمل عناصر الحب يمتلكها الغذامي ويوفرها لمن يحبه وهذه العناصر هي (التقدير، والمنهجية، والعلاقات القرابية العلمية والإنسانية)، وأجمل ما في صوته الدعاء الدائم لمن يحب، فحظيت بحب الغذامي الأستاذ والعالم والإنسان والأب، فثمرة حبي لهذا الرجل كثيرة وأقصاها أن أستظل معه بظل عرش الرحمن ونجتمع على منابر من نور، لأن الحب الخالص التام وبدون مصالح وعدنا به الله عزَّ وجلَّ بأن يكون جزاؤه ظل عرش الرحمن، وهو من أودع فينا هذا الحب.
أختم بالعبارات التي كان يستخدمها حبيبنا الغذامي، فالنسق مصطلح محبب عنده، والغذامي اسم سعودي محبب إلينا نورده في كل مجالسنا العلمية، وقد دربنا الغذامي على كيف نبحث عن (الصوتيم)، والغذامي صوتيم النقد العربي، وصوتيم حياتي، وترك عظيم الأثر في جيل عربي، ويصعد به وبكتبه التي تربو على 30 كتاباً إلى سنام قمة النقد في العالم العربي. وكل من صادفته يشعر بالفرحة التي أشعر بها في تعامله مع الغذامي وفكره حضورياً أو بالكتابة.
مشروع الغذامي في مرحلة التكوين لتأسيس الجيل القادم
أحبك يا (ابن الجهنية)
** **
- أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود