في البداية لمن تتكلم عن التنوع الثقافي فلا بد تعرف المقصود به تحديداَ «هو إرث الإنسانية المشترك ومصدر للتبادل والإبداع، لذلك ينبغي الاعتراف به وإحسان التعامل معه كنظام متكامل تتميز به كل ثقافة بعينها لصالح الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
وفي سياقِ أنثروبولوجيا العَولمة التي حوَّلت العالم إلى مُجرَّد قرية كونيّة صغيرة؛ تَعَزَّز الإيمان بالتنوع الثقافي كمشترك إنساني، للعودة إلى ماهية الإنسان، وإلى مقولة ابن خلدون الاجتماعية «أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه».
والآن أصبح مصطلح التنوع الثقافي كثير التداول في العصر الراهن، فحاول الباحثون في المجال تقديم تعريفات متعددة له رغم سعة معناه وتطوره عبر الزمن.
وفي كُتب الله عز وجل وصُحفه وما تضمنته من مفاهيم لرسالات سماوية قيمها السامية تُوَجِّه للتعاطي الإيجابي مع واقع التنوع والاختلاف، فالتَّعارف الذي تحثُّ عليه الآية البَيّنة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...) هو غاية مِن غايات هذا التنوع في الخلق من ألسن وثقافات وأديان وجنسيات مختلفة، وكيفية التسامي على عوامل الخلاف،
ويقصد بالتنوع الثقافي وجود العديد من الثقافات في مؤسسة معينة أو في مجتمع معين أو في العالم بأسره، ومن أبرز الأمثلة عليه وجود تجانس واحترام بين الثقافات المحلية مع الثقافات الوافدة، ويشير هذا التجانس لقابلية التعايش المشترك تحت مفهوم التنوع وليس الصدام.
ويحترم التنوع الثقافي كل مظاهر الاختلاف في التقاليد واللباس واللغة، وتصور المتعايشين للأخلاق والعادات والتقاليد، وأشكال تفاعلهم مع البيئة المحيطة.
وتقف اللغة على رأس مظاهر التنوع الثقافي، وهي الركن الأساسي الذي تقوم عليه أي هوية ثقافية محلية، حيث تفتخر كل أمّة بمزايا لغتها، وهي راية هويتها، وكذلك يبرز الدين على رأس مظاهر التنوع إلى جانب العادات والتقاليد.
ومن إيجابيات التنوع الثقافي الاعتراف بشرعية جميع الثقافات الموجودة في المجتمع الواحد وإعطاء فرصة للعمل على تحقيق المساواة والحريات بين جميع الثقافات الموجودة عند سنِّ القوانين والتشريعات على سبيل المثال.
وهناك علاقة تلازم بين التنوع الثقافي والهوية الثقافية، حيث إن الهوية لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود الثقافة، وتتميز الهوية الثقافية بأنها تمتلك القدرة على فهم التنوع الثقافي لجميع الشعوب.
ووفقا لموقع منظمة التربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» فاليوم العالمي للتنوع الثقافي يتيح لنا فرصة تعميق مفهومنا لقيم التنوع الثقافي ودعم أهدافها لاتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير التي اعتمدتها اليونسكو في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وهذه الأهداف تتمثل في دعم نظم مستدامة لحوكمة الثقافة إلى جانب تحقيق تبادل متوازن من السلع والخدمات الثقافية وانتقال الفنانين والعاملين الآخرين في مجال الثقافة فضلا عن دمج الثقافة في برامج وسياسات التنمية المستدامة وأخيرا تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وشمل الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي مجموعة من المواد التي تؤكد من جديد أن الثقافة ينبغي أن يُنظر إليها بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وعلى أنها تشمل إلى جانب الفنون والآداب طرائق الحياة، وأساليب العيش معاً، ونظم القيم والتقاليد، والمعتقدات.
وأكد الإعلان أن الثقافة تحتل مكان الصدارة في المناقشات المعاصرة بشأن الهوية والتماسك الاجتماعي وتنمية اقتصاد قائم على المعرفة، مشيرا إلى أن احترام تنوع الثقافات، والتسامح، والحوار، والتعاون، في جوّ من الثقة والتفاهم، خير ضمان لتحقيق السلام والأمن الدوليين.
وشدد على أن عملية العولمة التي يسهلها التطور السريع لتكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة، وإن كانت تشكل خطراً على التنوع الثقافي، فهي تهيئ الظروف الملائمة لإقامة حوار متجدد فيما بين الثقافات والحضارات.
وطالبت اليونسكو بالنظر للتنوع الثقافي بوصفه تراثاً مشتركاً للإنسانية يمكن أن ننطلق منه نحو التعددية الثقافية التي لا يمكن فصلها عن الإطار الديمقراطي، تمهيدا للتبادل الثقافي ولازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة السياسية.
وتنظر اليونسكو للتنوع الثقافي بوصفه عاملاَ محركاَ للتنمية لأنه يوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد، وبالتالي فهو أحد مصادر التنمية، لا بمعنى النمو الاقتصادي فحسب، وإنما من حيث هي أيضا وسيلة لبلوغ حياة فكرية وعاطفية وأخلاقية وروحية مرضية، وفي هذا الإطار ينظر لحقوق الإنسان بوصفها ضمانة للتنوع الثقافي.
ومن ناحية أخرى دعت اليونسكو للنظر للحقوق الثقافية بوصفها إطاراً ملائماً للتنوع الثقافي الذي يضمن أن يكون هذا الحق متاحا للجميع إلى جانب كفالة التداول الحر للأفكار بالكلمة والصورة، والحرص على تمكين كل الثقافات من التعبير عن نفسها والتعريف بنفسها، وينظر للتراث الثقافي هنا بوصفه مصدراً للإبداع.
وبنص الإعلان العالمي للتنوع الثقافي فإن السلع والخدمات الثقافية يجري تمييزها عن غيرها من السلع والخدمات لأنها الحاملة للهوية والقيم، ومن ثم تكفل السياسات الثقافية في كل بلد تهيئة الظروف لإنتاج ونشر سلع وخدمات ثقافية متنوعة، عن طريق صناعات ثقافية تملك الوسائل اللازمة لإثبات ذاتها على الصعيدين المحلي والعالمي، وأخيرا تعزيز القدرات على الإبداع والنشر على المستوى الدولي والسعي لإقامة شراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
يشكّل التنوع الثقافي قوة محركة للتنمية، ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب بل أيضاً كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً، وهو ما تنصّ عليه الصكوك الدولية التي تنظم مجال التراث الثقافي التي تتيح ركيزة صلبة لتعزيز التنوّع الثقافي. من هنا، يُعتبر التنوع الثقافي ميزة ضرورية للحدّ من الفقر وتحقيق التنمية المستدامة. في الوقت عينه، يساهم القبول بالتنوّع الثقافي والإقرار به - عبر الاستعمال الإبداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل خاص - في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات وفي بلوغ تبادل الاحترام والتفاهم.
في عام 2001، اعتمدت اليونسكو الإعلان العالمي للتنوع الثقافي وفي كانون الأول/ديسمبر 2002، أعلنت الجمعية العامة في يوم 21 أيار/مايو يوما عالميا للتنوع الثقافي للحوار والتنمية. وفي عام 2015، اعتمدت اللجنة الثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع مشروع القرار بشأن الثقافة والتنمية المستدامة، الذي أكد على مساهمة الثقافة في الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة، ومعترفا كذلك بالتنوع الطبيعي والثقافي للعالم، وعبر عن إدراك قدرة الثقافات والحضارات على الإسهام في التنمية المستدامة واعتبارها من العوامل الحاسمة في تحقيقها.
ولذا فهذا اليوم يتيح لنا فرصة تعميق مفهومنا لقيم التنوع الثقافي دعم الأهداف الأربعة لاتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي التي اعتمدتها يونسكو في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2005:
* دعم نظم مستدامة لحوكمة الثقافة.
* تحقيق تبادل متوازن من السلع والخدمات الثقافية وانتقال الفنانين والعاملين الآخرين في مجال الثقافة.
* دمج الثقافة في برامج وسياسات التنمية المستدامة.
* تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
ولمن نتكلم عن الثقافة السعودية ما بين العرضة السعودية، وبن جازان، والسدو بالشمال، والبشت الحساوي، والكليجا القصيمية، والخطوة الجنوبية، والزامل والرازف النجرانية وغير ذلك الكثير، من الموروث الثقافي بمختلف مجالاته، يمكن الوثوق بأنَّ بلادنا بحضارتها المتنوعة، لها ما لغيرها من تنوع ثقافي مملوء بزخم الأزمان المتلاحقة، والأجيال التي تحافظ على عاداتها الموروثة المستمدة.
وكل ذلك يشهد على أنَّ السعودية أصل التنوع الثقافي المعزز للحوار في مختلف مناحيه، الداعم لقوتها الناعمة، لتعزيز حقوق الإنسان، ومفهوم تلاقي الحضارات، تحت قيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين وسيدي سمو ولي عهده الأمين (حفظهما الله).
وترتكز توجهات الثقافة في المملكة على أربعة مبادئ هي القيادة، والدعم، والرعاية، والتطوير، وذلك من خلال إطلاق المبادرات الداعمة للحوار بين الثقافات والحضارات، باعتباره قوة محركة للتنمية، ووسيلة تعايش إنساني.
هذا التنوع الثقافي شكَّل هوية شديدة الثراء لسكان المملكة الذي تجاوز عددهم 34 مليون نسمة، ما بين مواطنين ومقيمين تحتويهم مملكة الإنسانية على أراضيها، والكل يعمل كفريق واحد متآلف، مستثمرين هذا التنوع الثقافي بينهم، لتصدير قوة المملكة الناعمة للعالم، خصوصًا في يوم الاحتفال بالتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، لأنَّ هذا التنوع الإنساني من شأنه خلق مجال حر لتنمية الإنسان وبيئته التي يعيش فيها، لتكون المملكة قبلة أصحاب التجارب الناجحة، لمواصلة جهودها الدؤوبة على أراضيها.
ويعتبر موسم الحج خصوصًا أكبر تظاهرة ثقافية متنوعة في العالم، تجتمع على أرض المملكة العربية السعودية،
وهنا نجد أن التعدد والتنوع الثقافي والتعايش الحضاري، هي اللغة التي لا بد أن تسودا المجتمعات، بكل توجهاتها واختلافاتها، ومهما كانت الصراعات والنزاعات يأتي الإيمان بالتنوع كصمام أمان لكل التفاعلات والتداعيات الأيدلوجية والعرقية التي تعم العالم كله.
دور رؤية 2030م في تعزيز التنوع الثقافي:
تعد الثقافة جزءًا أساسياً من التحول الوطني الطموح الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية وتنص رؤية المملكة 2030 على أن الثقافة من مقومات جودة الحياة، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية، كما تشدد على أن المملكة بحاجة إلى زيادة نشاطها الثقافي من خلال تنمية القطاع الثقافي المحلي لتعزيز المكانة الثقافية للمملكة ودورها الثقافي على مستوى المملكة.
وتعمل رؤية 2030 على تطوير النظام الثقافي وتمكين قطاع الثقافة من تحقيق إمكاناته عبر آليات وبرامج عديدة، وهي عملية بناء مستمرة تعمل على تصدير الثقافة السعودية المعتدة بتاريخ وإرث وتقاليد عريقة إلى الأمم، وفي نفس الوقت فتح أبواب المملكة للثقافات الأخرى في عملية تلاقِ وتبادل ثقافي إنساني.
كما تعمل رؤية 2030 على ازدهار المملكة العربية السعودية بمختلف ألوان الثقافة وإثراء نمط حياة الفرد والإسهام في تعزيز الهوية الوطنية وتشجيع الحوار الثقافي مع العالم، من خلال تمكين وتشجيع المشهد الثقافي السعودية بما يعكس حقيقة الماضي العريق، وبما يسهم في بناء مستقبل يعتز بالتراث ويفتح للعالم منافذ جديدة ومختلفة للإبداع والتعبير الثقافي.
** **
- نايف بن مصلح آل نمره