الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
كشفت دراسة علمية فقهية حديثة عن اتفاق العلماء على قيدَي استقرار الدين، وهي: ثبوته في الذمة، وعدم قابليته للسقوط، كما استقرَّ العمل عند الفقهاء في مصنفاتهم إطلاق الدين على معنيين: عامٌ وخاصٌ، ويطلقون المعنى العام باعتبارين:
الأول: باعتبار مقابلته للمعين المشخص وإن لم يكن له تعلق بالذمة كالدراهم الموصوفة.
الثاني: باعتبار ثبوته في الذمة على وجه العموم، سواء كان هذا الثبوت نتيجة معاملة مالية، أو غير مالية، أو هو حق لله تعالى، أو غير ذلك، ومنه: الزكاة والحج الواجبين في ذمة المكلّف، ويريدون بالمعنى الخاص للدين: ما اجتمع فيه الوصفان: ثبوته في الذمة، وألَّا يكون معيناً مشخصاً.
وخلص الباحث أحمد بن إبراهيم بن عبدالله النويس في رسالته العلمية المعنونة بـ (استقرار الدَّين وأثره في المعاملات المالية دراسة تأصيلية تطبيقية)، ونال بها الباحث درجة الدكتوراه في تخصص الفقه من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، خلص حول تأثير استقرار الدين في ربط الأجرة بمؤشر متغير: أنَّ استقرار الدين غير مؤثّر في المسألة، وأنَّ الأحوط هو القول بعدم التأثير الذي يؤدي إلى القول بمنع ربط الأجرة بمؤشر متغيّر؛ لما يتعلّق بالربط من شبهة الربا والله أعلم، ويشترط لصحة سحب الكمبيالة أن تكون على دين مستقر، وأيضاً فإنَّ استقرار الدين يؤثّر في مشروعية التعامل بالورقة التجارية إذا كيفت على أنها حوالة مضمونة، كما يؤثّر استقرار دين السلم في مشروعية تداول صك السلم، فلا يجوز تداول صك السلم قبل استقراره بقبض المسلم إليه، وكذلك يقال بالنسبة لتداول صكوك المساقاة والمزارعة إذا كان حملة الصكوك هم المساقون والمزارعون.
وأظهرت الدراسة إلى أن ناتج القول بصحة رهن الدين شريطة استقراره: صحة رهن صكوك المداينات بعد استقرارها، وعليه فلا يصح رهن صكوك السلم قبل قبض المسلم فيه، ولا رهن صكوك المساقاة قبل ظهور الثمر، ولا رهن صكوك المزارعة قبل خروج الزرع، كما أنه يراد بعامل الذروة: زيادة عدد الركاب عن عدد السائقين المتوفرين، وأثر استقرار الدين في مشروعية زيادة الأجرة مقابل عامل الذروة: إن كانت زيادة الأجرة عبارة عن ثمن لمثمن له قيمة حقيقية، فليس ثمة محظور شرعي في المسألة، ولا أثر لاستقرار الدين فيها، وإن كانت تلك الزيادة على نفس الدين الواجب بعقد الإجارة، وليس ثمَّ مقابلٌ له قيمة حقيقية لهذه الزيادة، فينبغي أن يُجرى عليها الكلام المتقدم في ربط الأجرة بمؤشر متغيّر.
وأكدت الدراسة بجواز قيام شركة الاتصال إلزام العميل بتكاليف إنهاء الخدمة قبل تأسيسها إذا كان الإلزام نتيجة دين قد استقرَّ في ذمة العميل مقابل عمل متقوَّم قامت به شركة الاتصال، كما لو قامت الشركة بتركيب أجهزة في منزل العميل فتطالبه بدفع القيمة الفعلية للعمل الذي قدمته له، أما إذا لم يكن الإلزام بالتكاليف نتيجة دين استقرَّ في ذمة العميل، كما لو قامت الشركة بمطالبته بالتكاليف قبل تركيب الأجهزة في منزله، أو تطالبه بدفع ما يزيد على القيمة الفعلية للعمل الذي قدمته له، فليس للشركة مطالبة العميل بأي عوض؛ وذلك أن حقيقة المطالبة في هذه الحالة إلزام العميل بسداد دينٍ لم يستقر، بل لم يثبت في ذمته.
وقال الباحث إن الراجح -والله أعلم - عدم مشروعية الغرامة المالية التي تفرضها شركة الاتصال على العميل إذا طلب فسخ العقد قبل انتهاء مدته إذا كانت هذه الغرامة عبارة عن عقوبة على العميل، فتمنع لعدم استقرار دينٍ يكون عوضاً لها، فتكون من قبيل شبهة الربا، ويجوز فرض الغرامة إذا اعتُبِرت عوضاً عن تخلف العميل في التزام الفترة المتبقية، مشيراً إلى أن إخفاق شركة الاتصال في إيصال الخدمة يعني: عدم تسليمها للمنفعة المعقود عليها، وبالتالي فإنَّه لا يستقر لها من الديون في ذمة عملائها إلا بقدر المنافع المتقومة التي تمكنت من إيصالها إليهم، وهذا المعنى متفقٌ تماماً مع ما يقرره أهل العلم في مسائل الإجارة، كما يظهر أثر استقرار الدين في مشروعية (إلزام صاحب العمل العامل بدفع تكاليف الدورات التدريبية حال إلغاء عقده) جلياً من حيث أنه يجوز لصاحب العمل إلزام العامل بدفع تكاليف الدورات إذا استقر الدين على العامل باستيفائه منفعة التدريب، وعليه فإنَّ تخلفه عن استيفاء تلك المنفعة لعذرٍ يعني سقوط مطالبته بدفع تكاليفها، كما أنه لا أثر لاستقرار دين الأجرة للعامل في مشروعية فرض الغرامة عليه، وذلك لأنَّ الأجرة وإن ثبتت له بحصول موجب استقرارها وهو تمام العمل، فإنَّ الغرامة قد فُرضت عليه للسبب ذاته، وهو: حصول موجب استقرارها في ذمته المتمثّل بجنايته على مال غيره، إذ يعتبر إتلاف العامل حتى وإن كان بلا عمدٍ موجباً لاستقرار دين الجناية في ذمته.