عبدالرحمن الحبيب
بعد تخرجي من كلية الزراعة قبل أكثر من أربعين عاماً، كنا نقابل المزارعين المحترفين وأغلبهم من كبار السن، ثم مضت السنين وصرنا نادراً ما نقابل أبناءهم الذين بدورهم لم يعودوا متقنين للزراعة كآبائهم وأغلبهم هجروها إلى مهنٍ أخرى، وأصبحنا نستقبل عمالة وافدة حريصة لكن يصعب شرح الأساليب الزراعية السليمة لهم سواء من الناحية اللغوية أو من ناحية عدم احترافهم أصلاً لمهنة الزراعة. هذه ليست إشكالية محلية، بل يعاني منها القطاع الزراعي في شتى أنحاء العالم، وهي كبر سن المزارعين وندرة دخول الشباب لهذا القطاع المسكين الذي يُغذي العالم ويهجره الناس!
كانت كثير من الزراعات حول العالم تدار بتعاون أفراد العائلة منتقلة أباً عن جد إلى الأحفاد، لكن لم يعد الأمر كذلك في أغلب مناطق العالم؛ فالأجيال الشابة داخل العائلة لم تعد تجذبها هذه المهنة، وتركتها لكبار السن الذين صاروا يبحثون عن العمالة المهاجرة التي إما أن تكون نادرة أو غير مناسبة حِرَفياً.. فمع متوسط عمر المزارعين عالميًا المُقدر بنحو 60 عامًا، ومع هجرة الشباب للقطاع الزراعي، وزيادة سكان العالم المتوقع وصوله إلى 10 مليارات نسمة بحلول عام 2050، فما هو مصير حوالي 570 مليون مزرعة حول العالم (New Food, Nov. 2020)، ومن سيُطعم سكان العالم، إضافة للشركات الزراعية الكبرى؟
وفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية، يبلغ متوسط عمر المزارع الأمريكي 57 عامًا ونصف العام، وهذا يمثّل ارتفاعًا حادًا عما كان عليه عام 1978، عندما كان يزيد قليلاً عن 50. إميلي بوكمان نشأت بمزرعة بولاية كنتاكي الأمريكية، ولا يزال والدها ذو السبعين عاماً يعمل بالزراعة ولم يساعده سوى شقيقها، وهي مديرة الشؤون الحكومية برابطة مكاتب المزارع الأمريكية، تقول: «العمالة هي مصدر القلق الأبرز، فمتوسط عمر المزارع حاليا 60 عاما..».
ما هي أسباب ذلك؟ ثمة حواجز تحول دون دخول الشباب للقطاع الزراعي، فبالنسبة لشباب العوائل الزراعية فهم كثيرًا ما يعتبرون أن الحياة الريفية أكثر تحدياً للعيش مما في المدن التي توفر أنماط الحياة الحديثة المترفة وبهرجتها، مع الرغبة بالحصول على وظائف حديثة لائقة، حيث تحظى المهن في المدن عمومًا باحترام أكبر من الخيارات الزراعية المتدنية. أما أولئك الذين لم يولدوا في أسر زراعية، فيتطلب شراء الأراضي والمعدات التي تحتاجها لإدارة المزرعة أموالاً، بينما الشباب لديهم ثروة أقل من كبار السن، مما يفاقم التصورات المجتمعية الأوسع للزراعة باعتبارها قطاعاً منخفض الدخل.
ترافق مع ذلك تغير المناخ مما جعل المزارعين تحت رحمة الطقس الذي يهدد النظم البيئية الزراعية في بعض كبرى المناطق الزراعية خاصة مع ارتفاع الحرارة وقلة الأمطار وتأثيرها على نمو المحاصيل وتزايد الآفات الزراعية؛ فضلاً على أن تقلب الطقس يعمل على زيادة صعوبة التنبؤ بظروف نمو المحاصيل.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يواجه المزارعون القوانين الصارمة لحماية البيئة وتغير المناخ التي تزيد التكاليف وتخفض الإنتاج..
يمكن تلخيص الوضع الزراعي عالمياً بشيخوخة المزارعين وقلة العمالة مع زيادة تكلفتها وتكلفة تغير المناخ والقوانين البيئية.. فما هو الحل؟ هناك جانبان؛ الأول هو تشجيع بعض جيل الشباب الذين يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، وتدريبهم على إنتاج المحاصيل الزراعية كمسار وظيفي محترم وطموح؛ إضافة إلى تغيير المفاهيم العالمية حول المهن الزراعية من خلال تحسين الصورة النمطية التي نستخدمها عن العمل الزراعي والمُزارع، والتقدير الذي نكنه للمزارعين بجميع أنحاء العالم باعتبارهم صمام الأمن الغذائي للعالم.
الثاني هو الأتمتة، باستخدام التكنولوجيا وأدوات الذكاء الاصطناعي: أجهزة الروبوت وتقنيات الاستشعار عن بعد وطائرات الدرون والجرارات والحصّادات ذاتية القيادة. الآن يمكن للمزارع مثلاً بهاتفه الذكي التقاط صورة حشرة تتكاثر على محصوله وبالبحث بالنت يتعرف عليها ويقدر خطورتها. وتقوم الدرون برش المبيدات وتحديد بعض أجزاء من الحقل تحتاج عناية خاصة مثل تحديد الأماكن المصابة.. وثمة أنواع من الآت الروبوت لفرز الثمار وتعليبها حسب الحجم واللون والجودة والوزن.. كل ذلك يمكن أن يقوم مقام عشرات العمال. هذه التكنولوجيا مربحة اقتصادياً ومفيدة للبيئة ولصحة المجتمع، على سبيل المثال في مجال الاستدامة والمساهمة في تقليل التلوث، تحدد آلات الذكاء الاصطناعي المكان بالحقل المتعرض للآفات ومن ثم مكافحتها في حيزها الضيق دون الحاجة لرش كامل الحقل، مما يحد كثيراً من استخدام المبيدات الضارة للصحة ويوفر التكاليف.
ليس بالضرورة أن تقتصر هذه التكنولوجيات على الدول الغنية، بل يمكن نشرها بشتى أنحاء العالم لا سيما تلك المناطق الأكثر تصديراً للغذاء، مثل مناطق شرقي آسيا، كما يقول البروفيسرو باتريك شنابل مدير معهد علوم النبات (جامعة ولاية أيوا) مضيفاً: «التكلفة الهامشية لاستخدام أداة للذكاء الاصطناعي بالهند تقترب من الصفر، فبمجرد تصنيع الأدوات، لن يكون هناك أي تكلفة لتوصيلها».
إذا كانت شيخوخة المزارعين أمراً لا مفر منه، والمزارع العائلة تكاد تندثر، فلا مجال سوى الأتمتة، لكن تختلف المزارع حول العالم من حيث الحجم والأرض والقدرات ولا يزال أمامنا طريق للوصول إلى الأتمتة التي بإمكانها التكيف مع المتغيرات المتعددة التي تواجه الزراعة.. الأمل أن لا يكون الطريق طويلاً!