سراب الصبيح
حين نحاول دراسة قضية ما يجدر بنا الوعي أن لهذه القضية ملابسات أثرت بها وساهمت في تشكليها؛ ومن ذلك قضية: «النظرية النقدية» وتأسيسها لـ»علم الشعر». نحن في الحديث عن النظرية في النقد العربي القديم لا يمكننا فهم آلية اشتغالها قبل المرور على عوامل ساهمت في تأسيس»النقد»، ومن هذه العوامل: نشأته: أي متى نشأ؟ وتظافره مع علوم أُخر: ثم هل هذه العلوم ساهمت في ظهوره؟ وما مدى تأثر النظرية النقدية بها إن كانت ساهمت في ظهور النقد؟ وأيضا البيئة التي هيأت المناخ لظهوره. نحاول أن نمر على هذه العوامل باختصار في الفقرة التالية؛ لنتدرج منها إلى فهم «النظرية النقدية» ومن ثم فهم مدى تأسيسها لعلم الشعر، وكيفية ذلك.
حين نقول:»النقد العربي» فهنا نشير إلى فكرة هوية هذا النقد؛ وهي الهوية العربية، أي «العروبة»، والعروبة أو إن شئت قل «الثقافة العربية» هي مفهوم واسع يضم تحت جناحه المجتمع «والجغرفة» واللغة والعلوم والدين! فاللغة جزء من الثقافة العربية، وبالتالي العلوم التي أُلفت بهذه اللغة هي أيضا جزء من الثقافة، وبما أن الدين الإسلامي نزل باللغة العربية إذن -والحالة هذه- فإن الإسلام جزء من الثقافة العربية، أوهكذا نفهم بعد هذه السطور، فالعروبة والإسلام من المفترض أن بالإمكان الفصل بينهما، بيد أن الذي حصل في التراث العربي إن كان في المؤلفات النقدية أو غيرها هو تقوقعها داخل دائرة الإسلام؛ وهذا ما سنجد تأثيره في الإرهاصات الأولى لمحاولات ضبط «النظرية النقدية» وإسهامها في تأسيس «علم الشعر» - كما سيأتي ذكره عما قليل-.
الآن يجب ألّا نغفل بوادر «الملاحظات النقدية» نسميها «الملاحظات» كتسمية قريبة لآليتها، ونقصد بها ما قبل الإسلام، حين كانت العروبة منفكة عنه، ونحصرها بجانبين -لكيلا لا نطيل ونمر من خلالها على ملاحظتين تمر بنا إلى النظرية النقدية- أما أولاها:
فمجلس النابغة الذبياني كان مجلسا شفويا، وهذا مهم الانتباه إليه، فعصر التدوين لمّا يبدأ بعد، وفرق بين الشفهي والمدون، والثانية: قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-» كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه» وفي قولته نتبين أمرين: أنهم يحتكمون إلى الشعر في العلم؛ وهذا يهمنا في قضية تأسيس النظرية النقدية لعلم الشعر، والأمر الآخر أنهم استبدلوا علم الشعر بعلم القرآن والسنة. وإن لم يصرح بهما عمر لكنهما المقصود، وكان ذلك في القرن الأول للهجرة، في حين التدوين بدأ على مشارف القرن الثالث.
في القرن الثالث للهجرة بدأت العلوم تتوسع، والتدوين من أبرز الأسباب التي ساهمت في توسعها، ففي هذا القرن نشأت العلوم ومنها «النقد» وإن كنا لا نجزم حتى الآن بأحقية تسميته «علما» حتى نتبين النظرية فيه، فمن أقدم المؤلفات النقدية «فحولة الشعراء» للأصمعي (216 هـ) تلاه على نفس الفكرة ابن سلام الجمحي في كتابه «طبقات فحول الشعراء» (231 هـ) وكما نرى فإنهما متقاربان في الحقبة الزمنية؛ وهذا ما يفسر سيطرة فكرة «فحولة الشعراء» على نظرتهم النقدية في تأسيس علم الشعر من جهة، ومن الجهة الأخرى يكشف لنا عن جانب من التفسير لانقطاع هذه الفكرة لدى النقاد الذين جاؤوا من بعدهم -كما سيأتي ذكره عما قليل-.
كنا قد ذكرنا في طليعة المقدمة العوامل التي تؤثر على علم النقد، كما كنا ذكرنا أن عصر التدوين بدأ في القرن الثالث الهجري، ونجيء على ذكر ذلك الآن. إن هذا القرن لم يكن عصر تدوين اللغة فحسب، بجانبيها النحوي والنقدي، بل كان أيضا عصر تدوين «الحديث»، فجل رواة الحديث السبعة كانت وفياتهم في القرن الثالث، ونحن إذا ما رمنا أن نعده عصرا متأخرا لتدوين المؤلفات النقدية؛ فذلك لأن هناك انقطاعا زمنيا بين بوادر الملاحظات النقدية الشفهية وبين التدوين في هذا القرن، فما سبب الانقطاع حتى وإن كان شفهيا؟ هنا تأتي مقولة عمر بن الخطاب في استبدال العرب علم الشعر بعلم القرآن، ولما بدأ تدوين الحديث في هذا القرن كان فاتحا لتدوين العلوم من بعده، فجاء علم النحو حلقة الوصل بين العلم الشرعي وبين علم النقد، فهو من جانب يحفظ لغة القرآن من اللحن، ومن الجانب الآخر يشترك مع النقد في المادة اللغوية؛ لذلك نجد أولى المؤلفات النقدية عند الأصمعي وابن سلام تأثرت بعلم الحديث الذي يقوم على الرواة من جانب تقسيم الشعراء إلى طبقات، وتأثرت بعلم النحو من جانب أنها اعتمدت على كثير منه في تنزيل الشعراء منازلهم.
إذن فنحن مع هذين المؤلفين إزاء إرهاصات للنظرية النقدية، ولما نص عنوان المؤلفات على «الشعراء» كان المرجو ضبط تعريف للشعر، لكننا نجد فيها تركيزا على الشاعر وتأريخا له أكثر مما نجد ضبطا لمعيار جودة الشعر، ونجد أيضا مفاضلات بين الشعراء لكن أكثرها تحتكم إلى ذوق المؤلف، مع ميل إلى تقديس القديم، وكأن علماء الحديث لما احتكموا إلى نص الحديث، احتكم الأصمعي وابن سلام إلى نص الشعر والتعليق اللغوي عليه أكثر من ضبط معيار لتعريف الشعر يحاكمون النصوص تحت معطياته. وحتى ابن قتيبة (276 هـ) لما وضع كتابه «الشعر والشعراء» بين لنا الفصل بينهما، أي بين «الشعر» وبين قائليه «الشعراء» لكنه لم يتخلص تماما من عقدة تقديس القديم؛ فقد قدم امرأ القيس، وكأنه يقر بضرورة احتكام تعريف الشعر وتأسيس علمه إلى العامل التاريخي، ومع ذلك نجده يحاول أن يجد حيادا بين الوجهتين: أي بين العامل التاريخي وعامل الجودة في الشعر بغض النظر عن الشاعر، فيقول:»ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوما دون قوم بل جعل ذلك مقسوما بين عباده في كل دهر» ويقول أيضا: «وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين». هذان القولان بقدر ما يشعران القارئ بالحيرة، إلا أننا نلتمس بهما الانتقال من سطوة الشعراء على الشعر في المؤلفين السابقين إلى محاولة استكناه جودة الشعر، ويمكن أن نعد كتاب ابن قتيبة البادرة الأولى لمحاولة تأسيس علم الشعر، وإن كان ضبط معياره عنده يمتزج بطريقة ما في حديثه عن الشعراء، إلا أننا يمكننا أن نستخرج منه بعض مضامين الجودة الشعرية التي يحتكم إليها، كقوله:»والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغزيرة وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يتزحر». فالمقولات مثل هذا القول يمكن عدها ملاحظات مبثوثة لا تؤطر لتأسيس علم الشعر بوضوح، لكن من الجهة الأخرى يمكن عدها إرهاصات لفكرة «تأسيس علم الشعر» انطلاقا من النظرية النقدية لا من غيرها من العلوم.
لعل تأثر المؤلفين الأولين بفكرة رواة الحديث، حيث تجلى هذا التأثر بالتقسيم الهندسي في فكرة الطبقات ومستوى فحولتها، هو ما جعل هذه الرؤية النقدية تنكفئ على نفسها ولا تمتد في المؤلفات من بعدهم، فنحن لسنا إزاء انقطاع مفاجئ بينهما وبين المؤلفين الذين تلوهم؛ لأن مؤلف ابن قتيبة كالجسر الذي مهد الطريق للانتقال من احتكام الشعر إلى الشعراء «الشخوص» إلى محاولة ضبط تعريف للشعر.
وحين ينتصف القرن الثالث مع الجاحظ (255 هـ) نجده ينطلق في تعريف الشعر من منطلق فلسفي، فلا نكاد نتبين عنده تعريفا للشعر، بقدر ما نتبين مفهومه؛ فهو يحيلنا إلى مفهوم الشعر في بعده الاجتماعي. وهذا ما نتبينه من أقواله:» وإنما ذلك -أي قول الشعر- على قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز والبلاد والأعراق» ويحيل إلى التأطير التاريخي بقوله: «أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن...»، وهذه مقولات نتبين منها مفهوم الشعر لا تعريفه، وفي إشارة الجاحظ إلى تعريفه فهو يقدم على ضبطه مبينا مناط جودته من جهة، ومن جهة أخرى نجد إشارة ضمنية إلى تقييده بالوزن والقافية على مذهب الفراهيدي، ففي الأولى قوله:» وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا وسبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان» وقوله: «إن الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير» وفي الثانية قوله:»إن الشعر العربي لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب...» وهنا نتبين أن الجاحظ يرى في تعريف الشعر وجهين: الجودة في صناعة المعنى وصياغتها باللفظ؛ وهي تسبح في فلك فكرته في مقولته الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق..»، إلا أنه وضح مفهوم الشعر في بعده الاجتماعي أكثر من ضبط تعريفه العلمي. بقي ألّا نغفل حضور مصطلح «العمود» عند الجاحظ وهو ما يتجلى عند النقاد من بعده الذين سنجيء على ذكرهم، غير أنه ورد عنده مقرونا بالخطابة لا بالشعر، يقول نقلا عن أبي داود بن جرير:» رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة...»
هذا ما كان في القرن الثالث الهجري؛ وهو بوادر عصر التدوين، ثم في القرن الرابع الهجري والخامس ظهر النقاد أصحاب المقارنات وعمود الشعر في آن، ونقصد بهم الآمدي (370 هـ) القاضي الجرجاني (392 هـ) المرزوقي (421 هـ) هؤلاء النقاد ابتداء من الآمدي خرجوا من فكرة الطبقات الشعرية انطلاقا من الشاعر، وحاولوا ضبط معيارية لعمود الشعر تحتكم الجودة إليها.
يقول الآمدي: «البحتري كان أعرابي الشعر مطبوعا وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر»، وفي جملته الأخيرة تصريح أن مفهوم عمود الشعر كان حاضرا في الأذهان، على الرغم من أنه هو أول من جاء بهذا المصطلح؛ ونرجح أن مفهومه حقا كان حاضرا بالفطرة، وإن لم يضبط باصطلاح تعريفي، ولعل هذا ما أراده الآمدي. ثم يجيء على معايير هذا العمود بقوله: «وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في موضعها وأن يورد المعاني باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري» وبقطع النظر عن ميله للبحتري وتحفظه على الجِدة في شعر أبي تمام، مما يشعر أن النقاد حتى اللحظة لمّا يزالوا تحت سلطة قداسة القديم أو التقليدي، لكن ما يهمنا أن الآمدي في ضبطه لمعايير عمود الشعر وضعنا على مشارف تأسيس علم الشعر انطلاقا من النظرية النقدية، وحتى وإن كانت هذه البوادر تجلت سابقا عند ابن قتيبة إلا أنها الآن مع الآمدي تميزت بميزتين: وضوحها وضبطها، واصطلاح مصطلح لعلم الشعر؛ وفي هذا انتقال من الذوق الشخصي عند الأصمعي وابن سلام، إلى احتكام الشعر لمعيارية علمية.
ونهج نهجه في عمود الشعر القاضي الجرجاني، ولعل فكرة ضرورة تعريف الشعر بمعزل عن مفهومه الذي يكتسي بأبعاد اجتماعية وذوقية تبينت أهميتها عنده، إذ أنه في صدر كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» يعرف الشعر بقوله: « أنا أقول -أيدك الله- إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان» نتبين في قوله أمرين: عندما قال «أنا أقول» فهذا يشعرنا بأنه كثر القول حول تعريف الشعر في تلك الفترة؛ مما يبين بوادر محاولات تأسيس علم الشعر، الأمر الثاني أنه وصف الشعر بالعلمية. ثم يضبط معايير عمود الشعر التي لا تفارق كثيرا معاييره عند الآمدي، وهي: شرف المعنى وصحته، جزالة اللفظ واستقامته، إصابة الوصف، المقاربة في التشبيه، الغزارة، الأمثال السائرة والأبيات الشاردة.
وبذلك نجدنا إزاء نظرية علمية للشعر -إن صحت تسميتها بالنظرية- مع الآمدي والقاضي الجرجاني. ثم يكمل المرزوقي في القرن الخامس الهجري على نهجهم، فقد حافظ على مصطلح «عمود الشعر» وفكرة ضبطه بأسس أشبه ما تكون بالعلمية، غير أنه أفاد من علميهم وأعاد ضبط معيارية عمود الشعر بأكثر تفصيلا، أي أنه أبقى على عناصر الجرجاني الأربعة، وحذف الأخيرة، وأضاف ثلاثة عناصر تكاد تكون مزجا بينهما في بعضها وتطويرا من عنده في أخرى: التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، مناسبة المستعار منه للمستعار له، مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
بقي ألّا نغفل أن هؤلاء النقاد الثلاثة كان حاضرا في وعيهم ضبط معيارية علم الشعر، فالآمدي انطلق من توجيه معايير عمود الشعر بما يتناسب مع شعر البحتري، ثم الجرجاني كان وسطا في ضبط هذه المعايير، فهو لم يتحيز بها للمتنبي، كما أنه في كتابه لم يقارن بين شاعرين بل بين شاعر وجمهور، وعلى الرغم من ذلك لم يتحيز له تمام التحيز، بل حاول أن يأخذ العمود من الآمدي ليضبطه بالمعيارية العلمية، ثم جاء المرزوقي فكان أوضح من صاغها في ضبط علمي أفاد به من جهود سابقيه.
ختاما، بعد استعراض علمية الشعر في النظرية النقدية، بتبين لنا أن النقاد الأوائل في بداية عصر التدوين كانت تأطيراتهم النقدية أقرب إلى الذوق الشخصي منها إلى الضبط العلمي، بالإضافة إلى سلطة القديم. ونحن نفسر المنحى الأول بطبيعة البيئة تلك، فقد كان الشعراء حتى عصرهم يكتبون على طريقة واحدة يعرفها العرب من العصر الجاهلي، فكانوا يفهمون جودة الشعر بسليقتهم، ولم تكن لهم حاجة إلى ضبط الشعر ضبطا علميا، أما الشاعر مسلم بن الوليد (208 هـ) فلعله لم يشكل لهم قلقا؛ نظرا لأنه لم يؤثر على غيره من الشعراء حتى ذلك الوقت، ثم حين توالت الأيام وظهر شعراء محدثون أمثال أبي تمام والمتنبي، وجد النقاد حاجة لضبط علمي للشعر؛ حتى لا ينفرط العقد؛ بل إننا مع المؤسسين لعمود الشعر نجد كتبهم ناقشت قضية الشعراء المحدثين، فالآمدي وازن بين تقليدي ومحدث، والجرجاني توسط بين شاغل الناس وخصومه من الجمهور، والمرزوقي شرح شعر الشاعر المحدث أبي تمام. وبذلك يتبين لنا أن الحقبة الزمنية التي استدعت النقاد لتأسيس علم الشعر؛ هي تلك التي ظهر فيها شعراء خرجوا عن المألوف الذي عرفته العرب، ونحن وإن كنا نرى قصورا في تعريف «عمود الشعر» في وقتنا الآن، لكننا نشير أنه كان يستوفي الضبط العلمي للشعر في وقتهم.