ودعت بلادنا المملكة العربية السعودية يوم الخميس 15 من ذي القَعدة 1445هـ أحد العلماء الأفاضل الذين كان لهم دور في التعليم والدعوة.. وهذه نبذة يسيرة في التعريف به وبمجريات حياته، مع التعريف بوالده رحمهما الله تعالى.
فهو الشيخ محمد بن نفجان بن ناقي بن ساجي بن خلف بن سلمان بن بادي التويجري. وبادي هو جد التواجرة، وهم من الهواملة من مُزينة من بني سالم من قبيلة حرب.
أما والده الشيخ نفجان فقد كان من رجالات جيش الملك عبد العزيز في تأسيس المملكة مع الإخوان، وقد شارك في حصار حائل ثم جدة والمدينة.
ولما وقعت فتنة الإخوان وما سبقها من عصيان حمى الله الشيخ نفجان وأهالي الفوّارة (1) ومن حولهم عن الدخول في شيء من تلك الفتن بفضل الله ثم بسبب الرجوع للعلماء، وذلك لوجود الشيخ العالم القاضي عبد الله بن بليهد رحمه الله في الفوّارة وقربه منه وتتلمذه عليه، والذي نهاه عن الدخول معهم في انحرافاتهم وخروجهم عن توجيهات الإمام والسمع والطاعة له.
وقد قرأ الشيخ نفجان القرآن على الشيخ الحميدي الرديعان، واشتغل بطلب العلم على الشيخ العلامة عبدالله بن بليهد، وعلى القضاة الذين كانوا يكلفون بالقضاء في الفوّارة: كالشيخ سليمان المشعلي، وصالح بن إبراهيم المحيميد، وأكثر ما قرأ عليهم في تفسير ابن كثير، وفتح المجيد للشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله
ومن جميل أخباره: أنه اتفق هو واثنان من أصحابه في أحد أيام رمضان أن يختموا القرآن في يوم، فجلس كل واحد منهم تحت سارية من بعد صلاة الفجر، فختم أحدهم بعد العصر، والثاني قبيل المغرب، وأما هو فختمه بعد صلاة المغرب لثقل في لسانه.
كما جاء للرياض وحضر للشيخ محمد بن إبراهيم وقرأ عليه.
وكان الشيخ نفجان تربطه علاقة وطيدة بالشيخ ابن باز، قاربت الستين عاماً، وقبيل وفاة الشيخ ابن باز جاء للسلام عليه، في محاضرة له في جامع المليحي، شرق الرياض بحي الخليج، وبعد انتهاء الشيخ ابن باز من المحاضرة حضر معهم مكان العشاء وسلم عليه، وقال: ياشيخ جئت للسلام عليك ولعل هذا آخر العهد بيننا فأوصني!! فقال: الوصية تقوى الله وما أوصى الله به، وادع لي وأدعو لك. وبالفعل كان آخر اللقاء فقد توفي الشيخ ابن باز بعدها بأشهر، ثم لحقه الشيخ نفجان رحمهما الله.
وقد ولد للشيخ نفجان أبناء وهم: موسى وصالح ومحمد -محل حديثنا - وعبدالله.
أما الشيخ محمد بن نفجان فقد ولد سنة 1355هـ في الفوّارة، ونشأ بها في رعاية والديه، في بيت صلاح وعلم، وحَفِظَ القرآن من سورة الناس إلى سورة المؤمنون.
وفي سنة 1371هـ أخذه والده إلى الرياض لطلب العلم على كبار العلماء فيها، وأول ما رتب له أن يحفظ القرآن عند الشيخ محمد بن سنان رحمه الله.
وقد امتحنه الشيخ ابن سنان فوجد حفظه جيداً، فاستعان به في تحفيظ مكفوفي البصر - وكان قد اختير ليكون مع الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -سماحة المفتي - ومن هنا بدأت علاقته به وصحبة امتدت قرابة 75 سنة، كانت في العلم والدعوة، وبينهما من الأخوة والمحبة ما يسطر في دواوين الإخاء، وسماحة المفتي يقدر الشيخ محمد كثيراً ويأنس به ويفرح بزيارته له.
وقد كان حِفظ الشيخ محمد بن نفجان للقرآن متقناً، وكان حَسن الصَّوت في القرآن، وقد صلى بجماعته في رمضان في الفوّراة سنة 1386 وختم بهم 3 ختمات وفي الرابعة وصل إلى سورة الأعراف ومع اجتهاده هذا قال بعضهم: ضيعت علينا رمضان!! تعودنا نختم 5 أو 6 ختمات.
درس الشيخ محمد بن نفجان في مدرسة ابن سنان، ثم في معهد الرياض العلمي ثم معهد إمام الدعوة، ثم في كلية الشريعة وتخرج منها سنة 1387هـ.
وبعد أن أتم حفظ القرآن حفظ جملة من المتون: القواعد الأربع، وثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب، كما حفظ الأربعين النووية، وبلوغ المرام لابن حجر، والرحبية في الفرائض، والأجرومية في النحو.
وحضر لعددٍ من أهل العلم؛ منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم حضر له في القواعد الأربع وثلاثة الأصول وكتاب التوحيد والأربعين النووية، والروض المربع وبلوغ المرام وصحيحي البخاري ومسلم، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، وتفسير ابن كثير وابن جرير الطبري، والتوحيد وفتح المجيد، وعمدة الأحكام، وزاد المعاد لابن القيم.
ولثقة الشيخ محمد بن إبراهيم به كلفه بتقدير الشجاج كي يستعين بها القضاة في قضائهم، كما كلفه بالمأذونية وعقد الأنكحة في الرياض.
وممن حضر لهم: الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم حيث حضر له في الأجرومية في النحو والرحبية في الفرائض، وكانت تربطه بالشيخ عبد اللطيف علاقة وطيدة، ولثقته به كلفه بتوثيق العقود والمبايعات والطلاق وغيرها من التوثيقات، وكانت توثيقاته معتمدة لدى الجهات الرَّسمية يقيدها بالسِّجل لديه، ثم يعطي ورقة بمضمون ما تم توثيقه ويذهب صاحب التوثيق للشيخ عبداللطيف لختم وثيقته، ولازالت تلك السجلات الخاصة به محفوظة في مكتبته.
ومنهم: الشيخ عبد العزيز بن باز: حضر عليه كتباً كثيرة منها إغاثة اللهفان لابن القيم، وكتابه في الفرائض، والنونية لابن القيم بقراءة ابن فريان ليلة الخميس في بيت الشيخ ابن باز، واستمرت العلاقة مع ابن باز بسبب علاقة والده به وكذلك بعدها إلى وفاته رحمه الله، وهو الذي أشار عليه بالانتقال من التعليم ليكون عضواً للدعوة في الإفتاء عندما كانت الدعوة تابعة للافتاء سنة 1396هـ.
ومنهم: الشيخ عبد الله بن حميد حضر له مجالس كثيرة لكن لم يقرأ عليه، وله معه أخبار ملاح، وفوائد لطيفة.
ومنهم: الشيخ عبد الرحمن بن قاسم حضر عليه في الواسطية والتدمرية في المعهد.
ومنهم: الشيخ عبد العزيز أبو حبيب الشثري قرأ عليه كشف الشبهات.
ومنهم: الشيخ عبد الله النَّصبان العالم الزاهد الورع إمام مسجد الثميري والذي عُرف بالشيخ النصيبي قرأ عليه التوحيد، وسمع عليه في البخاري بقراءة عبد العزيز ابن الشيخ عبدالله النصيان.
* تولى الشيخ محمد بن نفجان الإمامة في عِدة مساجد؛ كان أولها مسجد الحروب بمنفوحة سنة 1379هـ، ثم انتقل منه إلى جامع حِلة الدواسر سنة 1381هـ ، وبقي إماماً له ست سنوات حتى تخرج من كلية الشريعة سنة 1387هـ، ثم عُيّن خارج الرياض، ولما رجع إلى الرياض تولى سنة 1391هـ إمامة جامع غبيراء إلى سنة 1404هـ بقي فيه قرابة 13 سنة، ثم تنقل في عدد من الجوامع إلى سنة 1442هـ وفي آخر سنتين لما توالت عليه الأمراض كان ينوب عنه ابنه الدكتور موسى في الخطابة
عُيّن الشيخ محمد بن نفجان بعد تخرجه من كلية الشريعة 1387هـ معلماً في منطقة عسير بمدينة أبها، ثم انتقل للقصيم، ثم الرياض وبقي في التعليم إلى أن انتقل للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد قبل أن تُفصل الدعوة عن الإفتاء وتضم لوزارة الشؤون الإسلامية التي أنشئت سنة 1414هـ.
ولازال الشيخ محمد بن نفجان يمارس الوعظ والإرشاد والدعوة بإلقاء الكلمات والدروس والجولات العلمية والدعوية وزيارات القرى والهجر والحرص على نفع الناس وتعليمهم وإرشادهم للخير حتى ابتلي ببعض الأمراض التي أتعبته وبترت لذلك ساقه وكانت صابراً محتسباً راضياً بقضاء الله وقدره مطمئنة نفسه، يصبر أبناءه وكأنهم هم من ابتلي، وهو في يقين وتسليم نحسبه والله حسيبه، ومع ذلك لم يكن يتخلف عن الصلاة في جماعة وممارسة الدعوة وإلقاء الكلمات وزيارة الأقارب وإخوانه من العلماء إلى قُبيل وفاته.
وللشيخ أخبار في العبادة وحرصه على وقته وقراءة ورده، حتى وهو طريح الفراش في المستشفى إذا فاق من غيبوبته سأل عن ورده وأين وصل فيه ويكمله من حيث وقف، وحرصه على الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله شيء عجب رحمه الله.
والشيخ محمد دمث الأخلاق حلو الحديث لطيف المعشر جميل المحيا ومحب لزيارة العلماء والتواصي فيما بينهم بالدعوة وإرشاد الناس.
وللشيخ في السعي للمحتاج وسد حاجته والشفاعة له باب أعجز عن تسطيره هنا، ولكن هذه واحدة من أخباره في ذلك فقد كان منوماً في المستشفى وفي حالة صعبة اتصل به محتاج من قرابته فلم يهنأ وكاد أن يخرج لذلك لولا إصرار الأطباء على بقائه، وتكفل أبناؤه بإنجازها، ولم يترك سؤالهم عنها حتى تم الأمر وقُضي.
وقد خلَّف الشيخ محمد أبناء نجباء صلحاء نحسبهم والله حسيبهم، وليس هذا بمستغرب على ذرية بعضها من بعض.
غفر الله للشيخ محمد ورحمه وتجاوز عنه وأسكنه فسيح جناته ورضي عنه وأرضاه.
الهوامش:
(1) إحدى محافظات منطقة القصيم غرب البكيرية.
** **
- د. هاني بن سالم الحارثي