د. تنيضب الفايدي
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار مكة المكرمة مقراً لبيته، وهو جلَّت قدرته الذي جعل مكة حرماً تشريفاً لها، قال تعالى: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المائدة: 97). وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } (العنكبوت: 67).
سبب تحريم مكة
سبب تحريمه على ما قيل: إنّ آدم عليه السلام خاف على نفسه حين أهبط إلى الأرض، فبعث الله تعالى ملائكة لحراسته، فوقفت في مواضع أنصاب الحرم من كلّ جانب، فصار ما بين آدم وموقف الملائكة حرماً، وقيل: إن الحجر الأسود لما وضعه الخليل في الكعبة حين بناها، أضاء الحجر يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، فحرم الله الحرم من حيث انتهى نور الحجر الأسود، وقيل غير ذلك في سبب تحريمه. منائح الكرم للسنجاري (ص216).
وهناك أحاديث أخرى مقتضاها أن الله عز وجل حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وأنه لا يحلّ اختلاء خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف. ولا خلاف في وجوب الجزاء في صيد مكة، ويشهد له ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام، حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وأنه لم يحلّ فيه القتال لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من النهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، وينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه. قال: فقال له العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لقينهم وبيوتهم. فقال: إلا الإذخر. متفق عليه. وفي الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة أنه قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة». متفق عليه.
وأوّل من وضع الأنصاب على حدود الحرم سيدنا إبراهيم عليه السلام لتحديد الحرم بدلالة جبريل عليه السلام، ثم قصي بن كلاب، وقلعتها قريش في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاشتد ذلك عليه، فجاء جبريل وأخبره أنهم سيعيدونها، فرأى رجال منهم في المنام: «حرم أعزكم الله به، نزعتم أنصابه؟ ستحطمكم العرب!! فأعادوها. أخبار مكة للفاكهي (2/ 275).
ثم بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح تميم بن أسد الخزاعي، فجدّدها، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث لتجديدها مخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، وأزهر بن عبد عوف، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم معاوية رضي الله عنهم، ثم الخلفاء، ثم الملوك إلى عهدنا هذا. شفاء الغرام للفاسي (2/ 153).
معنى الحرم لغة
قال ابن منظور في لسان العرب: حرم: الحِرْمُ، بالكسر، والحَرامُ: نقيض الحلال، وجمعه حُرُم، والحرام: ما حرّم الله، والحريمُ: ما حُرِّمَ فلم يُمسّ، وحرمُ مكة: هو حرم الله وحرم رسوله، والحرمان: مكة والمدينة، والجمع: أحرام، وأحرم القوم: أي: دخلوا في الحرم، ورجل حرامٌ، أي: داخل في الحرم، ومنه البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ومنه الأشهر الحرم.
ولفظ الحرم إذا أطلق عموماً فإنه يراد به حرم مكة وهو حرم الله وحرم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والحرم قد يكون الحرام، مثل: زمن وزمان، كما يطلق على حرم مكة المحرم. والحرم: حرم مكة وهو ما أحاط بها من جوانبها وأطاف بها، جعل الله حكمه حكمها في الحرمة تشريفاً لها.
المراد بالتحريم
يقصد حينما يقال حرم المدينة بأنه لا يجوز فيها فعل بعض الأعمال التي لا حرج في عملها خارجها، وذلك لعظمة هذا المكان وحرمته مثل الصيد وقطع الأشجار، وأخذ اللقطة، وحمل السلاح للقتال في حدود الحرم. وقد جاء ذكر الحرم في كتاب الله، قال تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص:57)، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } (العنكبوت: 67).
ورد ذكر اسم المسجد الحرام في خمسة عشر موضعاً من كتاب الله وقد اختلف في المراد به على أقوال، ذكرها ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة (1/ 189) بقوله: «المسجد الحرام يراد به في كتاب الله ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله». وزاد النووي في المجموع مراداً رابعاً وهو مكة.
دليل الحرم المكي وتحديد زمنه
حرم مكة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والأصل في معرفة حدوده التوقيف، ولا مجال للاجتهاد فيه منذ أن نصب سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام أنصاب الحرم، واختلف العلماء في زمن تحريم مكة، والصحيح أن مكة لم تزل حرماً من حين خلق الله السماوات والأرض لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة». متفق عليه.
فيفهم من ذلك أن مكة كانت حرماً منذ خلق الله السماوات والأرض وأن ما ورد في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إن إبراهيم حرم مكة...). فيحمل على أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أظهر تحريمها بعد أن كانت خفياً، فوضع أنصاب الحرم بدلالة جبريل عليه السلام له، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد ورجحه النووي وابن كثير.
حد الحرم
معرفة حدود الحرم مهم جداً؛ لأن كثيراً من الأحكام تتعلق به، قال النووي في المجموع (3/ 82): «واعلم أن معرفة حدود الحرم من أهم ما ينبغي أن يعتنى ببيانه، فإنه يتعلق به أحكام كثيرة».
حدّ الحرم المكي معروفة لوجود العديد من الأعلام والأنصاب من جميع الجهات، قال النووي رحمه الله: «حَدُّ الحَرَمِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ بَنِي نِفَارٍ، عَلَى ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْيَمَنِ، طَرَفُ أَضَاةِ لِبْنٍ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَاتٍ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ جَبَلٍ بِالْمَقْطَعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعْرَانَةِ فِي شِعْبِ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جَدَّةَ مُنْقَطِعُ الأَعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ».
وقد نظم بعضهم حدود الحرم شعراً فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة
ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف
وجدة عشر ثم تسع جعرانه
ومن يمن سبع بتقديم سينها
فسل ربك الوهاب يرزقك غفرانه
وقد زيد في حدٍ لطائف أربع
ولم يرضَ جمهور لذا القول رجحانه
يترتب من تحديد الحرم أمور كثيرة، جاء ذكرها في الأحاديث الشريفة، ومنها: تحريم القتال فيها والنهي عن حمل السلاح بنية القتال فيها: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث طويل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، فجعلها حرماً، وإني حرمتُ المدينة، حراماً ما بين مأزميها، أن لا يُهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال، ولا تخبط فيها شجرةٌ إلا لعلفٍ - اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده، ما من المدينة شِعْبٌ ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها...» رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح). رواه مسلم، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ائتوني بوضوء» ثم قال فاستقبل القبلة، ثم قال: «اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعا لأهل مكة بالبركة وأنا عبدك ورسولك، أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين». رواه أحمد والترمذي وابن حبان. وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة) متفق عليه.
النهي عن التقاط لُقَطتها وأن يُختلى خلاها
عن علي رضي الله عنه في حديث طويل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يُختلى خلاها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتالٍ، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلٌ بعيرهُ». رواه أبو داود
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأله عن اللقطة؟ فقال:»اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» قال: فضالة الغنم؟ قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» قال: فضالة الإبل؟ قال: مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها». متفق عليه.
منع دخول الكفار مكة
إن الكفار لا يدخلون فيها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28). قال البغوي: أراد منعهم من دخول الحرم؛ لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام.
النهي عن قطع شجرها وقتل صيدها
عن جابر رضي الله عنه قال قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمتُ المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها» رواه مسلم.
لما فتح الله على نبيه عليه الصلاة والسلام مكة، خطب الناس وقال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمه الناس، وإن الله جلَّ وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار، وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، فليبلغ منكم الشاهد الغائب» متفق عليه.
وعن عروة بن الزّبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدّق كلّ واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية، ثم ذكرا ما جرى من قصة صلح الحديبية، وفيها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّةً يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) رواه البخاري. قال ابن حجر: «قوله (خُطّة) بضم الخاء المعجمة، أي: خصلة، (يعظمون فيها حرمات الله) أي: مِن ترك القتال في الحرم.
هكذا بتحريمها ارتبطت مكة المكرمة بالأمن، فهي البلد الأمين، من دخلها كان آمناً، الأمن الشامل في الدين والدنيا.. الأمن من الخوف بشتى صوره، الأمن من الجوع، الأمن الشامل للأحياء، أمن الحياة، أمن الإنسان، أمن الحيوان، أمن النبات، كما أصبح تحريم مكة سبباً للانتعاش في أمور معاش الناس يلوذ به الخائف ويأمن الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه في أمن وأمان الحجاج والعمار. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على قريش وأهل مكة المكرمة بالأمن في الحرم الشريف، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} (القصص: 57)، إنه مكان الألفة، والمحبة، والائتلاف، واللقاء الجماعي، واجتماعهم آمنين، فلابد من شكر هذه النعمة.