اعتنى الدين الإسلامي بمجال الأوقاف ورغب الناس في البذل والعطاء على هذا النحو والكيفية، وجعل الأوقاف من الصدقات المطلقة؛ نظراً لمصالحها ومنافعها المستمرة الدائمة، بل إنها أفضل من وصية الإنسان بثلث ماله بعد وفاته؛ لأن الوقف ناجز يشرف عليه صاحبه في حياته، كما أنه يَخْرُجُ من جملة من مال الإنسان بمجرد وقفه، بخلاف الوصية التي تستخرج بعد وفاة الإنسان وبعد النظر فيما لديه من ديون والتزامات وربما لا يخرج له ثلث من ماله.
ونجد ثقافة الأوقاف شائعة عند الصحابة-رضوان الله عليهم- في حياة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته بخلاف الوصية، وهذا يبين عمق فقههم وسعة علمهم، فقد جاء في الأثر عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: (ما بقي من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- له مقدرة إلا وقف). وقد أكد ذلك الشافعي بقوله: (بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمة - أي أوقاف-). فالأوقاف كانت هي ثقافة الصحابة بخلاف الوصية بثلث المال ونحوه وهذا يبين أن الخطأ المسلكي لدى كثير من الناس في الوقت الحاضر في حرصهم على الوصية بثلث أموالهم وتركهم الأوقاف.
ومن محاسن الدين الإسلامي وعنايته بالأوقاف أنه لم يقصر مجال الأوقاف على جانب معين كالمساجد مثلاً دون المنافع الأخرى الدينية والدنيوية، ولهذا اختلف العلماء في أفضل الأوقاف، وغالب العلماء يرى أن أفضل الأوقاف أكثر نفعاً وهذا يختلف بحسب أحوال الناس والمكان والزمان، فقد يكون في مكان حاجة الناس إلى وجود مستشفى أو بئر ماء أكثر من غيرها وهكذا، فالوقف في ما يدفع حاجته أفضل وهو من خير الأوقاف، ولهذا فالإنسان عليه أن ينظر ويقدر الحاجة في وقتها ومكانها ثم يحدد على ضوء ذلك مجال وقفه.
إن الأوقاف لها إسهام في تنمية المجمعات البشرية ورقيها الحضاري، فلا تكاد تجد مجتمعاً متطوراً ومتقدماً وله مكانته إلا وثقافة الأوقاف موجودة بين أفراده، كما أن الأوقاف تساهم جنباً إلى جنب مع الحكومات في تنمية القطاعات والمجالات التي يحتاجها المجتمع، وتعد رافداً تنمويّاً هامّاً في سد الاحتياج المجتمعي. وإذا كان الحديث الأكاديمي في البيئة الغربية يجري حول هل من الأخلاقيات ترك دفع ضرورة إنسان حاضر حتى لا ينفد المورد الحالي؛ لأن في دفع ضرورته نفاداً للمورد عن من يأتي لاحقاً بعد ذلك، فإن ثقافة الأوقاف التي شرعها الإسلام تمثل مصدراً مستمراً في المجتمع وسد احتياجاته في المجالات المتعددة، ونوعاً من أنواع المشاركة المجتمعية والتكافل والتعاون.
ولهذا ينبغي علينا أن نساهم في الأوقاف وفي نشر ثقافة الأوقاف في بيئاتنا، والتوعية بأهميتها وضرورتها للمجتمع، وعدم اقتصارها على مجال معين وإنما كل ما كان نفعه أكثر للناس كان أفضل من مسجد وطريق وبئر ومستشفى ومدرسة وجامعة وغيرها.
والشيء بالشيء يذكر فقد اهتمت حكومتنا الرشيدة-حرسها الله- بالأوقاف منذ نشأتها ومر الإشراف على الأوقاف بتطور مستمر حتى وصل إلى إنشاء الهيئة العامة للأوقاف التي تهدف إلى إدارة الأوقاف بكفاءة عالية، والرقابة المستمرة عليها، وتطمين المستفيدين بمراعاة الشفافية والحكومة في تنظيمات الهيئة وإجراءاتها، ووضع منصة للراغبين في المساهمة في الأوقاف المتنوعة؛ تحقيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي والاقتصادي.