لقد علقت في ذهني دعوة أمي:»اللهم إن كنت تعلم أني حافظة هذا الولد من صلب أبيه، فإنني أسألك ألا تجعل لوالده ذرية تحيي ذكره غير هذا الولد». ورغم حداثة سني، فقد تشاءمت من هذه الدعوة التي تأثرت منها لاحقًا، ولم تغير من نهج تعامل والدي معي؛ فقد كان في زمانه ككثير من الآباء الذين يرون في العطف على الولد مدعاة لعدم رجولته. وظل أبي مشغولاً بالغزو في موطننا حائل؛ حتى يعيش من كسب سيفه ورمحه ويحظى بتقدير مجتمعه واحترامه كلما ازداد كسبه.
ومردُّ قول أمي تلك الدعوة أن والدي أرسل إليّ عنزًا من بين غنم كثيرة كسبها من إحدى غزواته، وهذا ما جعل أمي تلقنني بأن أقول لزوجة والدي: كيف يكون نصيبي عنزًا من حلال والدي؟ وأنتِ وإخوتي تنعمون بخيراته!
رأيتُ في أمي الأمان وتنعمت بحضنها ولم أرتوِ منه، فالأمد كان قصيرًا، والقدر قضى بأن ترحل وأنا في الخامسة من عمري (لقد وُلدتُ عام 1910م أو 1912م تقريبًا) وحينما توفيت كنت أظن أنها ذهبت إلى مكان ما، وستعود، ولكن هيهات هيهات.
شعرت بالتيه بعد رحيلها وكأني أضللت حضنها، ووجدت ضالتي في حضن جدتي لأمي التي غمرتني بعطفها وحنانها، وكانت ترقب عودتي بعدما أخرج في الحارة للعب مع الأطفال، فكنا نلعب ألعابًا رياضية منها النهارية وأخرى ليلية، ومن الألعاب النهارية: « الكورة»، و»الحاحة»، ولعبة الطابة «حدج»، ومن الألعاب الليلية: «عظيم لاح»، وهي: أن يحذف اللاعبون عظمة صغيرة في الهواء في الليل والفائز من يعثر عليها. ولعبة «»طار غباره»، و»دب الدبيب»، و»سايق الكبيرة»، ومن الألعاب التي كنا نمارسها ليلًا ونهارًا: المسابقة، والمطارحة، «والمرامحة، وهي الملاكمة بالأرجل، وهذه الأخيرة من أخطر الأنواع للألعاب الرياضية، ذلك أن كثيرًا ما يصيب أحد المتصارعين نِدَّه بضربة عنيفة مضرة».
وكان للجِد نصيب في طفولتي، فقد ذهبت إلى المدرسة التي لا تشبه المدرسة الحديثة اليوم في اسمها وتنظيمها بل كان التعليم في حائل التي كان لا يزيد عدد سكانها حين ذاك عن عشرة آلاف نسمة. تولاه أربعة رجال جعلوا من بيوتهم مدارسَ لتعليم الأطفال حروف الهجاء والقرآن الكريم نظريًّا دون حفظ أو تجويد، ووقت الدرس كنّا نجلس على الأرض العارية حتى من الحصير، وإذا قُدر للطالب قراءة القرآن الكريم في أشهر معدودة، فهو كمن تخرج في الدراسات العليا اليوم.
«وفي اليوم الذي يختم به الطفل القرآن يحمل الطفل على الأكتاف، وتقام له الأفراح والأهازيج» ويقدم أهل الطفل للمعلم أجرة تزيد بازدياد مقدرتهم المادية.
لقد تلقيت تعليمي على يد الشيخ عبدالله الخليفي أحد الرجال الأربعة المشار إليهم آنفًا، لم يتلقَ الشيخ عبدالله وزملاؤه مقابلًا ماليًّا نظير تعليمهم لنا سوى (الريال النمساوي الفضي) الذي يدفع مرة واحدة في أول يوم يدخل عنده الطالب، إضافة إلى زكاة عيد الفطر وهي عبارة عن صاع من الشعير، إلى جانب الأجرة بعد ختم أحدنا القرآن الكريم، وقد منّ الله عليّ بذلك والحمد لله.
ها أنا أمر بل أجبرُ على منعطف بالحياة جديد شديد الانحناء أنحت فيه مشاعري حتى جثت على ركبتيها، فمن منعطف انفصال والديّ إلى وفاة أمي وكفالة جدتي وخالي الذي استقر في قرية (موقق)- إلى انتقالي للعيش مع والدي الذي ضاقت بي ظروفه فلم يتمكن من استمراري بالعيش معه، فبيته كان خاليًا من الزوجة الثانية التي تزوجها بعد أمي، ولم يتزوج بعد من زوجته الثالثة، وفي ذلك الحين عقد والدي العزم على الانضمام لأمير حائل في غزو الجوف رغبة منه بالاستمرار في حيازة مصدر رزقه ومجده المجتمعي. فبحث والدي عن فكرة لخروجنا من ضيق ظرفه فوجد في قصر منيرة متسعًا لفكرته ولي، ومنيرة بنت عبدالعزيز الرشيد هي أخت الأمير سعود أمير حائل آنذاك.
«كنتُ في بيت «منيرة» أشبه ما أصف نفسي به «بالكورة» التي يتسابق كل فرد من اللاعبين على دفعها بقدمه، وقد كان ذلك البيت طافحًا بنزلائه الذين لا يقل عددهم عن خمسين نسمة، بين خادمة ووصيفة ومملوكة ومحظية وطاهية وحارس باب، وكل واحد من هؤلاء، له نفوذه وسلطته على هذا الطفل، الذي لا يسعه إلا تنفيذ أوامر أي واحد من هؤلاء، والويل كلَّ الويل لطفل لا يملك الدفاع عن نفسه، فيما إذا توانى أو تقاعس عن تلبية أمر واحد من هؤلاء».
أقول: إن الطفل الناشيء في بيئة طعمها القسوة والمرارة إما أن يبقى متجرعًا لها ما بقي أو أن يلفظها ويصنع لنفسه بيئة حالية الطعم طرية الملمس، وإما أن يصبح خاويًا من العواطف أو مدرارًا لها، أما أنا فكنتُ «رقيق العاطفة، جم الرحمة، إلى درجة تذهب بي عاطفتي ورحمتي إلى أبعد الحدود التي قد يجد فيها من يحاول أن يعيبني مأخذًا عليّ».
ما زلت أتذكر قسوة حارس القصر (حميدي أبو بشير) الذي كان يوسعني ضربًا ونصحًا في الوقت ذاته! «كان عقابه لي يتلاشى إذا أصدقته القول، فكنت أقول: «ما دمت معاقبًا صدقتُ أم كذبتُ فأولى بي أن أصدق! وهكذا لازمتني ممارسة الصراحة والصدق منذ عهد الطفولة».
كان الصدق منجاة لي من عقاب حارس القصر الذي كنت أتحين الفرص للفرار منه والاستقلال عنه، والتخلص من مرارة عيشي بل واقعي، ففكرت بأن أسرح بغنم للبدو مقابل شاتين أو عنزتين أجرة عام، وبعدها سوف تتضاعف ثروتي الحيوانية وأستطيع الفرار من المرارة، وما إن تسربت فكرتي حتى شُددِت مراقبتي، وتوالدت أفكار مثيلة ماتت في مهدها؛ فبلدتي حائل ثارت فيها حربٌ انتهت بسقوطها في يد الملك عبدالعزيز عام 1340هـ/1921م.
لقد كانت الحرب رغم شدتها خفيفة على نفسي التواقة للفرار مرارًا من المرارة شوقًا للحرية. تخلصت من أكبال التسلط امتطيت صهوة اللعب بالحجارة فكنت أنا وأقراني نتراشق الحجارة كل أسبوع في يوم الجمعة، أما في الحرب أصبحنا نمارسها يوميًّا، متأثرين برجال مجتمعنا الذين هبّوا إلى الدفاع عن بلدهم، وقد خرجت مع المقاتلين أربع مرات، لم يطرأ على تفكيري الطفولي حينها أن خروجي معهم كان من أجل الواجب الوطني بل كنت حينها أدفع المرارة عني.
استمرت محاولاتي بالخلاص من تلك المرارة، فعندما علمتُ أن هناك قافلة تجارية ستذهب إلى الكويت، ذهبت إلى أصحابها وعرضت عليهم خدمتي لهم في رحلتهم مقابل أن يحملوني على رحائلهم، وبالفعل وافقوا على ذلك، واستمرت القافلة في مسيرها يومين، وأنا في سعادة مكتملة النمو، حكمت عليها سيدة القصر بالإعدام، فأرسلت مندوبها إلى الصحراء حيث القافلة التي تقلني، ليقلني على راحلته بعد أن أشبع جسمي النحيل ضربًا بعصا الخيزران، وأوثق رباط يديّ ورجليّ حتى يتمم مهمة جلبي وتسليمي.
عدت إلى المرارة مرة أخرى أرقب فرص الفرار، وفي هذا الوقت جاء والدي من الرياض متظاهرًا أنه سيعود إليها، وهاهي الفرصة الأولى تدير بوجهها عني، لكن طلبت منها أن تبتسم ابتسامة عريضة؛ لأني استرقت السمع بينما كان والدي يُسر إلى صديقه أنه ينوي الذهاب إلى العراق لا إلى الرياض كما موّه. ذهبت لمواجهة والدي بمعرفتي بوجهته وطلبت مرافقته،»فقلت له المثل الشعبي الآتي: (الحجر الذي يسعك لا يضيق بي).. فقال إنه لم يعش لي ابن سواك، ولذلك أحب أن تبقى لتحيي ذكري، فيما إذا حدث لي في سفرتي هذه حادث، قد ألاقي حتفي».حاول والدي أن يثني عزمي على مرافقته ولكني استرقت السمع مرة أخرى فعرفت موعد سفره ومكثت ساهراً في فراشي، وعندما كان والدي يودع زوجته، «قفزت من مضجعي، وأقبلت نحو مؤخرة الراحلة وامتطيتها»، وعندما شعر والدي بذلك ذهل وحاول إقناعي باللين بخطورة مرافقته، ولم يثننِ عن ذلك كوني أرى مرافقته إحدى فرص التخلص من تلك المرارة. وقد أعدت المحاولة بطريقة أخرى جعلت والدي يستشيط غضبًا ويضربني بعصا الخيزران، واستسلم أمام محاولتي، فاصطحبني معه.
لم يكتمل حبوري بفراري من القصر؛ لأننا وقعنا في قبضة نفر من الإخوان في صحراء النفوذ، وكانوا يعتقدون أن من لم ينضم إليهم ويوالي الملك عبدالعزيز في الوقت ذاته كافر يحلُّ ماله ودمه وقتله يوجب الجنة، ولم يرضَ الملك عبدالعزيز بغلوهم حتى تخلص من مشكلتهم في موقعة السبلة عام 1347هـ/1929م.
أما نحن فنجونا منهم بسبب خلافهم على اقتسام الغنائم (متاعنا والراحلتين اللتين أقلتانا)، وبظهور رجل كنّا بضيافته قبل وقوعنا في القبضة، يدعى هذا الرجل (شاهر) الذي استجرنا به فأجارنا، واستطاع إقناع أولئك النفر بالعدول عن قتلنا وإعادة ما غنموه إلينا على أن يتعهد (شاهر) بإعادتنا إلى البلاد التي جئنا منها -أي: حائل- وما إن دنونا من من قريتي النيصية والجثامية القريبتين من حائل حتى ترك (شاهر) الخيار لوالدي بالعودة إلى حائل أو الذهاب إلى العراق، وفي أي منهما سيكون شاهر مسؤولاً أمام قومه والحكومة التي ستعاقبه حال اختيار والدي الخيار الثاني، ولكن والدي اختار الخيار الأول. وصلنا إلى بيتنا وتركت والدي مع زوجته، وسلكت طريق النوم وكان يقطعه أحد النفر الذي كاد أن يقتلني في الدهناء واقعًا لا حلمًا.
فكّر والدي في الذهاب من حائل إلى الرياض للقاء الملك عبدالعزيز حتى يدفن الشكوك التي تحوم حوله بعد محاولة السفر إلى العراق، وحتى ينجو بطل النجدة (شاهر) من قيد المسؤولية أمام قومه وأمام أمير حائل الذي يعد موظفًا من موظفي الدولة. نفذ والدي فكرته فوصل إلى الرياض، وظل فيها عامًا كاملًا دون أن يعمل ما يثير الشكوك حول مقاصد رحلته.
أما أنا فقد زرت الرياض مرتين، واحدة برفقة زوج الأميرة منيرة، والثانية: برفقة ابنها الأكبر متعب، وكان السفر حينها من حائل إلى الرياض على الإبل النجائب يستغرق ثلاثة عشر يومًا، نسير فيها نهارًا وقسطًا من الليل. وما إن نصل إلى الرياض حتى ننعم (مثلنا مثل أي وفد قادم من أية بلاد) بما يقدمه الملك عبدالعزيز لنا من خرجية (مبلغ مالي يزيد وينقص حسب مكانة الوافدين وأعمارهم) وكسوة تتكون من: عباءة وثوب وحطَّةٍ حمراء (شماغ). وقررت الاحتفاظ بالخرجيتين في كل سفرة بما مجموعه جنيهَا ذهب؛ كوني رأيت فيهما وسيلة الخلاص من المرارة.
وما إن عدت إلى حائل حتى استقبلاني البؤس والشقاء كعادتهما، ففرضت عليّ سيدة القصر مهمة عجز عن حملها جسمي النحيل حتى تجد أجيرًا بديلًا عن سابقه الذي ترك العمل في (سوقَ السواني) « أي الذي يسوق الناقتين، اللتين تخرجان الماء من البير، ليسقي مزرعة منيرة المجاورة لمنزلها»، وعندما عاد والدي من الرياض إلى حائل لم يستسغ لي هذا العمل، ما جعل سيدة القصر تجيء بأجير أزاح عني الحمل، فودعاني البؤس والشقاء إلى أجل غير بعيد.
تأججت عزيمة والدي لترك البلاد مرة أخرى، واستطاع إقناعي هذه المرة بعدم مرافقته، وبطبيعة الحال لم أشأ أن أرى الموت يدنو مني مرة أخرى، ودّعني والدي وقبلني قبلة فراق لا قبلة وداع، فلم أره بعدها.
وبعد ثلاثة أيام من مغادرة والدي حائل، سنحت لي فرصة الخلاص من المرارة، فسمعتُ بقدوم قافلة تجارية ينوي أصحابها شراء السمن من حائل، فقصدت صاحب القافلة وعرضتُ عليه فكرة السفر بصحبته مقابل أجرة مقدارها جنيه ذهب، فرحب بالعرض.
لقد خفتُ أن يعودوا بي إلى القصر، ففكرت بالتمويه وأخبرتُ (ابنة خالة والدتي) أن أبي هرب إلى العراق، وأوكل برجل ليقلني إليه، وقد تعمدتُ إخبارها؛ لأني على يقين أنها ستخبر زوجها الذي سيخبر معتقليّ الذين لن يدخروا جهدًا للإلقاء بي مرة أخرى في غيابة القصر.
وصلت إلى المدينة المنورة، وافترقت عن صاحب القافلة، ولم أتكفل العناء في حمل حقيبة ونحوها، فكل ما أملكه كما يقول المثل الشعبي:» عباتي وأنا فيها» بل حتى العباءة لم أكن أملكها، وكل ما أملكه قميصان طويلان وضعت أحدهما فوق الآخر.
لقد رغبت في الالتحاق بالجيش في المدينة وتعذر ذلك، ولكنني تمكنت من الانضمام إلى الجيش المتجه إلى جدة بصحبة (الشريف ناصر بن زيد) مع ثلة من أبناء بلدتي الذين رحبوا بهم مضيفيّ كعادتهما طيلة الطريق، فقدموا لنا الجوع الذي فتكنا به بأربع حبيبات من التمر كانت نصيب كل واحد منا خلال الثلاثة أيام: مدة مسيرنا، فأصبحنا بائسين أشقياء كحال مضيفينا.
ودعنا مضيفينا على أمل عدم اللقاء عندما وصلنا إلى جدة ذات المنازل الشاهقة المطبوعة بطابع عربي أندلسي، وكانت جدة مدينة صغيرة محاطة بسور له بوابات منها: باب مكة، وباب شريف وغيرهما، أنخنا رواحلنا عند البيت الواقع شمال جدة إنه بيت (الشريف علي بن الحسين)، وفي ساعة وصولنا قدمنا رئيس تشريفات الشريف إليه للسلام عليه، وكنت آخر المصافحين له، ولا أذكر ما دار من أحاديث في هذه المقابلة سوى قول الشريف:» هذا الولد صغير، لا يستطيع حمل السلاح، ومن الأفضل له أن يظل في منزلنا». شعرت حينها أن فرصة الخلاص من المرارة نالت مني وستلقي بي في غيابة قصر جديد، ولكن شهادة قائد الثلة من أبناء بلدتي حررتني من قيد الفرصة بقوله: إن هذا الولد صغير في هيئته، كبير في سنه، وقد حمل السلاح في حرب حائل ضد ابن سعود.
كانت هذه الكلمات مباركة، كونها أسهمت في ولوجي إلى المعسكر وانخراطي في صفوف المحاربين، وحصلت على مرتب شهري قدره (ستة جنيهات ذهبية) يقال لها: شريفية، وهي مطبوعة باسم الحسين شريف مكة، ولم أحصل على مرتباتي بصورة منتتظمة طيلة العشرة أشهر التي خدمت فيها بالجيش في جدة.
ومنذ صباح أول يوم أستلم فيه أول مرتب لي، أخذت أفتك بالجوع والحرمان من تنوع الطعام، وحرصت على ابتياع الأصناف التي لم تكن موجودة في بلادي حائل، وقد تناولتها تباعًا، وهي: المطبق، الفول، حلوى (راحة الحلقوم) وطاب لي طعمها اللذيذ فابتعت المزيد منها، وسألتُ عن (حليب عنز الشام)، وهو: حليب معلّب يُؤتى به من الشام كنت قد رشفت منه ملعقة في حائل.
وبعد وقت الظهيرة بقليل ذهبت إلى مطعم كبير يقع غربًا لشارع قابل، وطلبت من الطاهي أن يقدم لي وجبة الصيادية (سمكًا مطبوخًا مع الأرز)، فلبى طلبي الأول، فالثاني (أقداحًا من الللبن المروَّب).
وبعد ذلك مشيت عبر شارع قابل، قاصدًا معسكر الثلة، فأحسست بتعب أثقل قدمي، فجلست لأخذ قسط من الراحة، فنما القسط ليصبح أقساطًا أقعدتني عشرة أشهر تخللتها إصابتي بمرض التيفوئيد، كما نالت الأمراض من الجنود في المعسكر، فأصبح كل منا بحاجة إلى من يرأف به، وأما الناجي منهم فقد كان مشغولاً في الحرب مقاومًا لحصار الملك عبدالعزيز على جدة، وفي هذه الأثناء سخر لى المولى رجلاً يدعى: (أحمد بن عبدالرحمن العركي) قدم من بلاده السودان قاصدًا تأدية فريضة الحج، ولكنه بقي في جدة لعدم وجود مواصلات تقله إلى مكة، وقد نفعني ما ضره، فكان أحمد يتعاطى الطب العربي، واستطاع معالجتي والاهتمام بي خاصة بعد انتقالي من المعسكر إلى منزله حيث زوجته التي كانت خير معين له للاعتناء بي، لقد ازدادت رأفته بي وعطفته علي، فبت أناديه بأبي، وبات يناديني بابني.
قرر أبو عبدالرحمن العركي العودة إلى السودان، فاستصعب أن يتركني ويذهب، فبادلته نفس الشعور الذي حداني إلى قبول عرض سفري معه، وازددت إصرارًا على سفري معه بعد معارضة رفاقي؛ خوفًا عليّ من أن يبيعني في السودان بوصفي مملوكًا له خاصة مع حداثة سني إلا أنه السمة الأخيرة سهلت من إلحاقي بجواز أحمد كابن له باسم: (فؤاد أحمد عبدالرحمن)، فغادرت جدة بحرًا قاصدًا سواكن، وكان ذلك قبيل سقوط جدة بثلاثة أو أربعة أشهر.
ما إن وصلنا إلى سواكن حتى اتخذ مسؤولو الصحة فيها إجراءً احترازيًّا، وهو: أن يظل ركاب الباخرة في (الكرنتينة) عشرة أيام خوفًا من انتقال العدوى بين السكان، نعم لقد كنت السبب من حيث لا أقصد، فمنظري يلوح بمرضي لكل من يراني، فقد «كنت أحمل عظامًا نحيلة، هزيلة عارية مرة واحدة، لا من اللحم، بل، ومن الدم». وبعد انقضاء مدة الحجر انتقلنا إلى منزل أبي أحمد، فتنعمت بالعيش فيه، وشهدت تقدم أبي المالي بسبب إقبال الناس عليه لبراعته في مداواتهم بالطب العربي، وكنت ملازمًا له كملازمة الابن لأبيه.
«وفي خلال المدة التي قضيتها في سواكن بلغت الحلم، ومع بلوغي الحلم نما جسمي طولاً وعرضًا، واشتدَّ ساعدي وازداد وزن جسمي ضعفين، عما كان عليه، ولا عجب فقد كان الغذاء جيدًا، والمناخ جميلاً، إذا قيس بالبلاد التي مرضتُ بها، والعناية حسنة.. أمَا وقد انتهت فترة الطفولة، فإنه ليطيب لي أن أنتقل إلى ما بعدها، وهي فترة الفتوة الآتية في الجزء الثاني».
أريد أن أبلغكم بكل أسى أني سأتوقف عن روايتي حيث توقف صاحبها، وسأخبركم أنه شدني في روايته الكثير، وكنتُ قد أبحرت في بعض مؤلفاته، فلاحظت قوة أسلوبه ومنهجه وجلَده، ولم يخيل لي أن سيرة طفولته لعلعت بالبؤس والشقاء إلى هذه الدرجة بل إن ما رويتُه هو غيض من فيض البؤس والشقاء، وغيض من مقاومته بل محاربته لهما.
لقد كان دافعه لتدوين أول جزء من حياته (الطفولة) قول أحد أبنائه له: «إننا بحاجة إلى الرفاهية لأننا نعيش عيشة تقشف»، وقد بدأ في كتابته عام 1390هـ/1970م راجيًا أن يجد ابنه هذا وأبناؤه وبناته قدوة حسنة لهم.
إن الجزء الثاني ومايتبعه (مرحلة الشباب)، والجزء الرابع (مرحلة الرجولة)، ومايتبعه (مرحلة الكهولة)، قد اعتزم صاحبها على جمعها في مؤلف واحد بعنوان: (من الطفولة إلى الكهولة)، ولم يتم الوقوف على أي من هذه الأجزاء حتى الآن باستثناء أولها بواسطة الأستاذ الدكتور محمود بن إسماعيل عمار الذي أخرجه في كتاب بعنوان: (فهد المارك: سيرة الطفولة)، إن الحديث عن جهد الأستاذ محمود في إخراج هذه السيرة إلى الوجود لا يغني عنه سوى قراءتها، أما عن أهمية السيرة وما حوته من لمحات تاريخية وتراثية واجتماعية وثقافية، فيغني عنها أيضًا الرجوع إليها.
أما صاحب الرواية أو السيرة فهد المارك، فقد كُتب عنه الكثير كما كتب هو، وأرى أن أبرز من كتب عنه الأستاذ محمود في مؤلفه: (فهد المارك: ليل الساري ومصباح المثقف).
أعود إلى كتاب سيرة الطفولة لأنتهي منه كما بدأت، فأترك الأستاذ محمود يقول:» حين نستشرفُ المستقبل لهذه الشخصية نجد الظروف صنعت منه شخصية رائدة فذة، ذات طموح عال، وفكر راق، وعزم وثيق.. والاضطهاد الذي لقيه كان حافزًا له على التمرد والتجديد وبناء الشخصية.. والظلم جعل منه مثقفًا واعيًا، وأديبًا أصيلًا، ومؤلفًا غزيرًا .. والغربة النفسية التي عاشها صاغته سياسيًّا محنكًا، نفر إلى الدفاع عن فلسطين منذ نكبتها الأولى سنة 1948م، وظل منافحًا عن الحقّ فيها بدمه ولسانه وقلمه إلى آخر رمق من حياته، وقام بالكثير من المبادرات الاجتماعية والثقافية، وطرح العديد منها في كتبه ومؤلفاته، كان وطنيًّا غيورًا على بلده المملكة العربية السعودية، لا يألو جهدًا في خدمتها ورقيها وتقدمها وازدهارها، عمل في السلك الدبلوماسي لها في دمشق وصنعاء وطرابلس الغرب وأنقرة، وكان مثال العربي المخلص لعروبته وأمته، ملمًا بتفاصيل أحوال العالم العربي، داعيًا إلى الوحدة والتنسيق لخير العرب والمسلمين، وكان بحق أحد رجالات العصر، وقادة الفكر، ودعاة الحرية. خلَّف إلى جانب ذلك كمًّا كبيرًا من التراث الفكري متعدد الاتجاهات ما بين مطبوع ومخطوط، بدءًا من رصد زيارة ولي العهد الملك سعود لسوريا ولبنان في كتابين سنة 1372هـ، ومرورًا بموسوعته القصصية «من شيم العرب» في أربعة أجزاء سنة 1375هـ، و«هكذا نصلح أوضاعنا الاجتماعية» 1377هـ، و«بين الإفساد والإصلاح» 1377هـ، و«افتراها الصهاينة وصدقها مغفلو العرب» 1380هـ، و«الهدامون والبناؤون» 1382هـ، و«لمحات من التطور الفكري في جزيرة العرب» 1382هـ، و«سجل الشرف» 1385هـ، و«كيف ننتصر» 1385هـ، و«فهد بن سعد ومعرفة ثلاثين عامًا» في جزأين 1393هـ، و»من شيم الملك عبد العزيز» في ثلاثة أجزاء 1398هـ، ومثل ذلك تقريبًا من المخطوطات التي لم تحظَ بالنشر، بلغة متقنة وأسلوب عذب، وعبارة أدبية، ونماذج واستشهادات من عيون الشعر، وشواهد وروايات من وقائع التاريخ والفكر والثقافة».
** **
- مرام بنت عبدالإله بن هويدي