د.عبدالله بن موسى الطاير
لم يستسلم المسلمون، وخاضوا معارك قانونية على مستوى المؤسسات التشريعية المحلية في أوروبا، وعلى مستوى الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف لتجريم الإسلاموفوبيا، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيدٍ، وبات للضغط السياسي من الدول الإسلامية، ومن الأقليات المسلمة، ولردود الفعل الشعبية حساباتها عند قوى تطبيق النظام في المجتمعات التي تشتهر بعداء بعض أفرادها أو تجمعاتها للإسلام والمسلمين. وأياً كان تقييمنا للنجاح في هذا المسعى، فعلينا أن ندرك أن الإرهاب الديني (الدينوفوبيا) متمكن في بعض المجتمعات وهو نتيجة خبرة تراكمية وتجارب تاريخية مأساوية في بيئة دينية أو بسبب سوء فهم للمعتقدات الدينية. لذلك ولعوامل أخرى يتشكل خوف، وقلق مفرط وغير عقلاني من الدين، أو الممارسات الدينية، أو الرموز الدينية، أو أماكن العبادة.
يعتبر البعض أن فقرات في حفل افتتاح أولمبياد باريس تجاوزت الحدود في تسفيه الدين المسيحي، ورسوله وشعائره، وتطرفت في تلويث المشهد الأخلاقي العام من خلال اللوحات المتعلقة بالشذوذ؛ إحدى اللوحات جسدت العشاء الأخير الذي يحتفل به المسيحيون في خميس العهد، وهو اليوم الذي يسبق الجمعة العظيمة وعيد الفصح، ولم تتوقف الإساءة عند حدود التشويه البصري، وإنما ظهر من قام بتمثيل دور المسيح مثلي يهودي، وفي ذلك إسقاط ورمزية؛ إذ خلال العشاء الأخير، تنبّأ المسيح عليه السلام بأن يهوذا الإسخريوطي، أحد تلاميذه، سوف يخونه ويسلمه للسلطات الرومانية. من نافلة القول التذكير بأن العشاء الأخير بالنسبة للمسيحيين أُسّس لسر التناول، وهو أحد الأسرار السبعة المقدسة في الكنيسة الكاثوليكية، والذي يعتبره المسيحيون وسيلة للتواصل مع المسيح عليه السلام وتذكّر تضحيته من أجلهم.
بلغ المتطرفون الليبراليون شأواً في كراهية الدين، وتجاوز حقدهم وحنقهم على الأديان حدّ المشاعر، إلى فرض ممارسات وأجندات تتعارض مع الذوق والطبيعة البشرية والأخلاق المتوافق عليها في جميع الثقافات على هذه الأرض. إنه صدام لا هوادة فيه مع الديانات جميعها ومع ما رشح عنها من منظومات أخلاقية وما تعارفت عليه المجتمعات الإنسانية من نواميس، ونوعين لا ثالث لهما للبشر؛ ذكر وأنثى، يلحق بهما شذوذ لا حكم له لندرته.
هناك جدل لا يمكن غض الطرف عنه حول مفهوم الأخلاق، وتعريفات الفضيلة، فالمتدينون في أي دين، والمحافظون في المجتمعات الإنسانية، لهم فهمهم المدعوم بأدلة دينية نقلية وعقلية، والملحدون بمن فيهم غلاة المتحررين لهم فهمهم الخاص لمنظومة الأخلاق. إلا أنه ليس من العدالة تهميش الأغلبية وفرض أجندة الأقلية عليهم على اعتبار حقوق الإنسان. من حق أي كائن حي أن تُحترم حقوقه الإنسانية في جميع شؤونه، مع عدم مصادمة الغالبية في عقائدهم، وما استقر في وعيهم من قيم وأخلاق وممارسات راسخة.
شكوى المجتمعات المتدينة والمحافظة أخلاقياً مريرة من محاولات إضعاف النسيج الاجتماعي، وتآكل القيم التقليدية، والبنى الأسرية، والتماسك الاجتماعي، والتي يُنظرون إليها على أنها ضرورية لمجتمع قوي ومستقر. وهم يتوجسون خيفة من تفشي الفساد الأخلاقي بسبب التعرض للمواد الإباحية، وقبول المثلية الجنسية التي تؤدي مع مرور الوقت إلى تطبيع السلوكيات التي يُنظر إليها على أنها غير أخلاقية أو ضارة، مما قد يؤدي إلى انحدار عام في المعايير الأخلاقية. بسبب الخوف من المآلات، يستشهد البعض بانهيار الإمبراطورية الرومانية، التي أسهم في سقوطها، إلى جانب عوامل أخرى، الانحلال الأخلاقي والتساهل الجنسي، والتركيز على الرفاهية، والسعي إلى المتعة باعتبارها عوامل ساهمت في إضعاف المجتمع وأودت بالإمبراطورية في نهاية المطاف. المحافظون في أمريكا وأوروبا يقارنون بين أطفال الصين الذين يقال إنهم يتدربون في مدارسهم على حمل السلاح، وبين أطفال الغرب الذين لا يعرفون أذكور هم أم إناث، وقياساً على هذه المقارنة يقرأون ما سيحدث لهم بسبب جيل يتربى على الرجولة في الصين، وآخر فاقد لهويته في الغرب.
في عام 2021، أقر البرلمان المجري قانوناً يحظر التوعية بالتوجّه الجنسي والهوية الجنسانية بين القُصَّر، ويقال إن هذا القانون مستوحى من قانون روسيا لعام 2013م المناهض للمثليين، والذي أعاد البرلمان الروسي التأكيد عليه في عام 2022م. وفي عام 2023م، أقرت أوغندا قانون مكافحة المثلية الجنسية، الذي يجرم هويات وسلوكيات الأشخاص من مجتمع الميم، ويفرض عقوبة السجن مدى الحياة على السلوك المثلي بالتراضي بين البالغين، وحتى عقوبة الإعدام في حالات استثنائية.
يبدو أن فرنسا قررت في حفل افتتاح أولمبياد باريس توجيه رسائل صادمة بعضها للدول التي تسن قوانين لحماية أطفالها، وللأديان التي تحرم المثلية وشيوع الفاحشة، والبعض الآخر مُوجّهٌ لاستفزاز اليمين الفرنسي، والمحافظين عموماً في أوروبا وأمريكا الذين يحققون انتصارات سياسية لا يُستهان بها.