هذا كتاب لطيف في منهجه وفي أسلوبه المشوق، وإن لم يهدف المؤلف حينما شرع في تأليفه أن يكون كتاب تراجم، مثل الذي نراه الآن من كتب التراجم التي تعتمد - في الغالب- على النقول و(العنعنة) دون أن تكون هناك علاقة مباشرة تربط المؤلف بالمترجم له، فكثرت في المكتبات كتب التراجم وازدادت أسعارها!
وقد أصدر الصحفي النابه الأستاذ طاهر الطناحي (1901-1967م) هذا الكتاب المهم - لم تذكر سنة الطبع- في طباعة حسنة ضمن سلسلة (مذاهب وشخصيات) التي كانت تصدر بمصر في حقبة الستينيات الميلادية، وكتب له الأستاذ عباس العقاد تقديمًا طريفًا نقتطف منه ما جاء في خاتمته : «والفضل لزميلنا المتفنن طاهر الطناحي، إنه استغنى عن الأقفاص مفتوحة وغير مفتوحة، وأطلق نسوره وعقبانه، وعصافيره وتماسيحه، بين سماء عالية وبحار مترامية، ونقلها من عنوان حديقة الحيوان إلى عنوان يطلق على محفل الإنسان في أرفع مكان».
والكتاب في الأصل مجموعة مقالات قديمة كان ينشرها الطناحي شهريا في مجلة الهلال، ثم رأى جمعها في هذا الكتاب القيم، الذي نال استحسان القراء في حينها.
وظل الكتاب نادرا ونسخه شحيحة، ولا يوجد إلا عند القلة من المثقفين والقراء، حتى أعادت طباعته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2010م - بعد 43 عاما على وفاة المؤلف- ضمن سلسلة «أدباء القرن العشرين» وطرحته للبيع بمبلغ زهيد، فأصبح متاحا للجميع.
وهي تشكر كثيرا على هذه البادرة الطيبة؛ لأنها ذكّرت الناس بأحد أعلام الصحافة المصرية، بعد أن طواه النسيان منذ عقود، ولم تعد تذكره الأجيال الجديدة!
ولكن هيئة الكتاب حذفت الرسوم البديعة التي كانت تضفي جمالا لصفحات الكتاب، ولو أعادت طباعته - صورة طبق الأصل- لكن أقل تكلفة مالية وأقل عناء في الصف والمراجعة، وأفضل للقارئ من هذا الحذف الذي لم يتنبه له إلا من اطلع على طبعة الكتاب القديمة، التي كانت أكثر جمالا من حيث تصميم الغلاف وحجم الكتاب، وسماكة الورق، وتلك الرسوم الجميلة التي أبدع في رسمها بريشته الفنان (فائق)، وهو رسام تركي هرب من تركيا أيام حكم مصطفى أتاتورك، وجاء إلى مصر ليعمل رساما في مطبوعات دار الهلال.
وأضيفت إلى الطبعة الثانية ترجمة قصيرة للأستاذ الطناحي في آخر الكتاب، فهو من مواليد محافظة دمياط، وعمل مبكرا في بلاط صاحبة الجلالة، وكانت البداية في صحيفة الأهرام، ثم انتقل إلى دار الهلال وتدرج في العمل الصحفي، ثم صار مشرفا على مجلات الدار الأسبوعية، حتى عين مديرا لتحرير مجلة الهلال ورئيسا لتحريرها سنوات طويلة دون أن يظهر اسمه عليها!
وقد عمل في دار الهلال نحو 40 عاما، وحقق انتصارات صحفية كبيرة، وأجرى لقاءات مهمة، وربطته علاقات جيدة بكل أدباء ومثقفي عصره، فلقد كان يألف الأدباء ويألفونه، ويحبهم ويحبونه من أمثال: العقاد والمازني وأحمد أمين ومي زيادة وأحمد لطفي السيد ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن صدقي وفكري أباظة وغيرهم.
وحينما تعرضت الأديبة مي زيادة لحملة شرسة من أقاربها، وشككوا في قواها العقلية، ودخلت على إثر ذلك مستشفى العصفورية، سافر الطناحي بنفسه إلى لبنان والتقى هناك بمي، واستمع منها لما حدث لها من أقاربها من ظلم ودسائس، ثم أصدرت دار الهلال في عهد الشاعر صالح جودت كتيبه الصغير «أطياف من حياة مي»، الذي طبع بعد وفاته.
لقد كان الطناحي مثالا للصحفي الصادق والنزيه والحريص على سمعة الدار التي ينتمي إليها، ولم يحاول الانتقال إلى مطبوعة أخرى رغم كثرة الإغراءات، مع أنه تعرض لبعض المضايقات من أصحاب دار الهلال، كما جاء في مقال د. محمد رجب البيومي (هلال سبتمبر 1989م).
وقد أصدرت مجلة الهلال ملفا خاصا عن الطناحي- أبريل 2008م- احتوى على عدد من المقالات والتحقيقات، وازدان بعدد من الصور التذكارية النادرة.
يقع كتاب «حديقة الأدباء» في 200 صفحة تقريبا، ويضم 21 شخصية، ما بين أديب وشاعر وطبيب وعالم وفنان وصحفية، وكل شخصية من هذه الشخصيات المشهورة رمز لها برسم (كاريكاتيري) لحيوان أو طائر، فأحمد لطفي السيد نسر، والعقاد عقاب، وأحمد أمين مالك الحزين، والشاعر عزيز أباظة بلبل، وميخائيل نعيمه طاووس، ومحمود تيمور هدهد، وأحمد رامي فراشة، وإبراهيم ناجي سنجاب!
وليته أضاف إلى هؤلاء الدكاترة زكي مبارك، فصفاته أقرب إلى صفات الطاووس منها إلى صفات نعيمه، الذي عاش حياة طويلة وهادئة، ولم تكن صاخبة مثل حياة مبارك القصيرة نسبيا!
ونرى الطناحي يتحدث بإسهاب عن صفات كل شخصية ومميزاتها، ذاكرا وجه الشبه أو الاختلاف بينها وبين هذا الحيوان أو ذلك الطائر، فالعقاد مثلا يختلف عن العقاب بأنه لا يرحل كثيرا ولا يسافر كثيرا، ويشتركان في طول العمر، إذ يعيش العقاب أكثر من 70 عاما
ووجه الشبه بين العالم والأديب د. أحمد زكي والديك أنهما يصحوان كل يوم قبل السحر في موعد ثابت لا يتغير، حيث الهدوء التام وصفاء الذهن والناس نيام.
ولكي يدلل على أن أستاذه أحمد أمين كان حزينا مثل مالك الحزين- طائر طويل العنق والساقين ويعيش في السواحل- راح يسرد لنا بعض القصص الحزينة والمآسي التي تعرض لها أحمد أمين في حياته، مكثرا من النقول من كتاب «حياتي»!
ويبدو إعجاب الطناحي بالدكتور طه حسين كبيرا، وهو يعدد ما حققه من أمجاد أدبية، وما ناله من مناصب رفيعة في الجامعة والوزارة؛ تقديرا لكفاءته وشجاعته، ومستعرضا في الوقت نفسه أبرز مؤلفاته، وما نشره من بواكير شعره في صباه.
وقد رمز له بطائر الكروان الجميل ذي الصوت الصادح؛ إذ يشتركان في جمال الصوت، ولكنه لم يذكر وجه الاختلاف بينهما! ولعل خير ما نختتم به هذه الجولة مع كتاب (حديقة الأدباء) تلك الرسالة النادرة التي بعثها ميخائيل نعيمه إلى الطناحي بعد أن قرأ مقاله في الهلال: «ولكنك يا أخي كنت لبقا غاية اللباقة، بل كنت فنانا فيما تخيلت ودبجت، فأنصفت الطاووس كل الإنصاف، وأكرمتني فوق ما أستحق، فالشكر لك والسلام عليك».
** **
- سعد بن عايض العتيبي