مشعل الحارثي
استكمالا لما بدأناه في الجزء الأول من هذه الدراسة عن السخرية في أدب معالي الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- أقول:
تتجلى أهم القضايا والمضامين الرئيسة التي آمن بها واستشعرها غازي القصيبي طوال حياته ولم يحيد عنها، بل دافع عنها بكل قوة وجسارة وانطلق منها ووظفها في معظم أعماله وإبداعاته الأدبية شعرا ونثرا في المضامين والمحاور التالية:
1- الوطنية: وهي قضية متأصلة في شخصية غازي القصيبي فقد عاش مخلصا متفانيا وفيا لدينه وقيادته، واهبا حياته لخدمة الوطن وإعلاء رايته ومكانته في مختلف المحافل والمجالات، واستطاع أن يحول كل ما درسه من علوم إلى واقع ملموس من خلال أعماله وترؤسه لعدة إدارات ووزارات ذات تأثير كبير ومباشر بالمجتمع فسخر كل وقته لإنجاز مهامه ومسؤولياته تجاه مواطنيه ومجتمعه بتميز وإتقان وفي نزاهة ونظافة كف، وخط خلال مسيرته صفحة ناصعة البياض في تواضعه وتعامله مع الآخرين بروح متسامحة مفعمة بالحب والبذل والعطاء، وكان حريصا كل الحرص على شباب الوطن فقدم لهم النصح والتوجيه وحصيلة تجاربه وخبراته وشجع المبدعين منهم وحفزهم على مواصلة العطاء والإبداع، يقول القصيبي حول هذا الشأن: (لقد حاولت في كل موقع شغلته أن أخدم مواطني بكل طاقتي، خدمت أبناء هذا الجيل ـ أما أبناء الأجيال المقبلة الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم فلا استطيع أن أقدم لهم شيئا سوى قصة هذه الخدمة مصحوبة بكثير من المحبة وكثير من الدعاء) (1)
2- الروح القومية والاهتمام بقضايا الأمة: والمتفحص لمعظم أعمال وإبداعات غازي القصيبي يجد أنها مكتنزة بقضايا وهموم الأمة الإقليمية والعربية والإسلامية وبالواقع الصعب والظروف الأليمة والتحديات العصيبة التي مر بها الإنسان العربي بدءا من قضية فلسطين قضية العرب الأولى وما تبعها بعد ذلك من نكسات وانكسارات وخيبات وكان من الطبيعي أن يتناول القصيبي تلك القضايا بأسلوبه الجاد تارة وبروحه الساخرة تارة أخرى.
والقصيبي ظل طوال عمره كأحد المنادين بأهمية الوحدة العربية التي يرى أنها تحتل مكانا أثيرا في قلب كل عربي وأحلامه من المحيط إلى الخليج ذلك أنها تمثل جوع القطع المشتتة إلى الالتحام في كيان واحد، وظمأ الحدود الكثيرة إلى الاقتراب من بعضها البعض، وشهوة الأرض الضعيفة الفقيرة المتخلفة إلى أن تصبح أرضا غنية متطورة. من هنا احتلت الوحدة العربية مكانا رئيسا في الفكر السياسي العربي وفي الكفاح السياسي العربي وظلت موضوع اليوم وموضوع الساعة، كل يوم وكل ساعة في الحاضر والمستقبل (2).
3- الحرية: والتي ينظر لها الأغلبية بأنها مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر ومن مجتمع أو جماعة إلى أخرى، إلا أنها تظل مطلبا مهما لتقدم الشعوب وتطورها، ولها علاقتها القوية بالأدب الساخر من خلال ذلك الارتباط الوثيق والعلاقة العكسية ما بينهما، ومؤداها أنه كلما زادت مساحة الحرية قلت مساحة السخرية والعكس صحيح.
ولا خلاف على أن غازي القصيبي أحد الذين حملوا مشاعل الحرية والتنوير في المملكة العربية السعودية بعد أن أغوته الحرية منذ إدراكه لأهميتها ومعانيها الحقيقية وكونها مصدر الإبداع والتفوق في العلوم والفنون، ونقصد بالحرية هنا بمعناها الأخلاقي المنضبط لا المنفلت والتي تهتم بحرية الكلمة والرأي والرأي الآخر، وحرية النقد المسؤول، وعدم الوصاية والحجر على الفكر وتكميم الأفواه، وكانت الحرية لدى القصيبي لها منظورها الخاص وأبعادها والتي يحددها هو في قوله: (ليس للتخلف علاج سوى الحرية) وقوله: (الحرية ليست حجابا يرمى، ولا دين يشتم، ولا أخلاق تخلع، هي رقي فكر، بل احترام عقل، وبناء مستقبل جميل، وعقيدة تتمسك وتعتز بها).
4- العدالة: لقد عاش القصيبي ينشد العدل والمساواة بين الناس ويرفض الطبقية والتعالي عليهم ولم تطغه السلطة أو ما تتمتع به عائلته من غنى في النظر إليهم بفوقية، بل كان متواضعا حريصا كل الحرص على توفير الحياة الكريمة للمواطنين وتعزيز الحقوق والإنصاف للجميع.
5- الحب: كان دافع غازي القصيبي الأول والأخير في كل أعماله وعطائه هو حب الحياة وكل ما يغذيها ويجعلها تشرق دوما بوجهها الجميل الأصيل النقي من الشوائب.
مجالات أدب القصيبي الساخر:
لقد انتظمت السخرية كخط إبداعي في معظم نتاج وأعمال غازي القصيبي النثرية وقليل من أعماله الشعرية التي أجاد فيها وفي نقده الاجتماعي والسياسي واستثمر فيها طاقات اللغة وثقافته المتنوعة، وتعددت وتنوعت مجالات وأساليب الأدب الساخر لديه والتي تكشف في مجملها عن رؤيته للحياة وكيف ينظر لها.
يقول عنه الأديب المصري محمود السعدني أحد رواد الكتابة الساخرة في الوطن العربي: (لم يترك غازي القصيبي شكلا من أشكال المعالجة إلا واستخدمه لإثبات موهبته في السرد والسخرية، كتب المقالة واستخدم المقامات كعمنا الحريري، وكتب الحديث الصحافي الوهمي هو السائل والمسؤول ليكشف من خلال الأسئلة والأجوبة عن موقفه من الحياة والناس واستخدم الشعر كثيرا من المتنبي إلى شوقي ولم ينس العبقري صلاح جاهين.
وعليه فقد تمثلت أهم وجوه ومجالات السخرية لدى غازي القصيبي والتي استلهمها من جذور التراث العربي القديم ومعطيات العصر الحديث في الجوانب التالية:
أولا - الشعر الساخر: وقد تمثل بشكل أكبر في شعر الإخوانيات، وشعر الجانب الإداري بحكم ممارسته للعمل الإداري وتجربته الثرية في هذا الجانب وتوليه عديد من المناصب والوزارات والأجهزة العامة بالمملكة.
1- شعر الإخوانيــات:
وهو فن من فنون الأدب المعروفة منذ القدم وشاعت وانتشرت في العصر العباسي الثاني وما لحقه من أدوار تاريخية، ويغلب على شعر الإخوانيات طابع الطرافة والفكاهة فيما يتناوله من موضوعات من خلال المراسلات والمداعبات الشعرية بين الأدباء والشعراء وعده البعض ضربا من ضروب الملهاة ويحمل صورا شتى من الجد والهزل.
والقصيبي يطلق على هذا الفن والأسلوب من السخرية تارة مسمى (الممازحات الفكاهية) وتارة أخرى باسم (الحلمنتيشيات العابرة) ويرى أن هذا الشعر أقرب إلى المزاح العابر وأنه ابن وقته ولحظته، ولذلك لم يحظ هذا الشعر بالاهتمام الكافي بحفظه عند كثير من قائليه لاعتقادهم أنه يحمل شيئا من الخصوصية والذاتية، إضافة إلى أنه لم يلق من النقاد أيضا ذلك الاهتمام بدراسته وإيضاح سماته وصفاته وكشف جوانب من جمالياته الساخرة وذكاء أصحابها وما يتمتعون به من سرعة البديهة وحسن الإجابة، يقول الأديب والناقد البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري: (إنه على صعيد شعر غازي القصيبي له قصائد ومقطوعات تدخل فيما يسميه بشعر الإخوانيات والمداعبات، والمؤسف أن شاعرنا عد هذا النوع من الشعر من قبيل العبث الذي لا ينبثق عن تجربة حقيقية ولا يستحق الحياة لذلك لم يهتم بحفظه وجمعه(3)
يقول الدكتور عبدالعزيز الخويطر عن روح وطبيعة غازي القصيبي وممازحاته الفكاهية: (إنه وزملاءه كانوا يستأنسون برأيه في كل اجتماع وكنا ننتظر حتى يفرغ الاجتماع لأخذ الورقة التي كانت أمام غازي وكنا نجدها إما رسما لأحد منا أو شعرا يصف فيه أحداث الاجتماع بكل تفاصيله وبشكل فكاهي). (4)
2- المقـالة الساخرة:
المتتبع لسلسلة مقالات غازي القصيبي الشهيرة إبان حرب الخليج الثانية التي نشرت في جريدة الشرق الأوسط في الفترة من 20 اغسطس 1990م - 14 يوليو 1991م تحت عنوان (في عين العاصفة) والتي تحول مسماها فيما بعد ومع حرب التحرير إلى (بعد هبوب العاصفة) ثم بعد التحرير إلى (نار هادئة) وانتهاء بمقالته الأخيرة التي تحمل عنوان (حتى نلتقي) يرى أنها كانت تمثل جبهة عسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية وكانت عينا نافذة للمواطن العربي بما تحمله من بعد نظر وتحليل رصين، ويلمس من خلالها مدى ما تحمله من طابع ساخر تهكمي لاذع للأوضاع العربية، وتحول عدد من الرؤساء العرب لمعاداة المملكة العربية السعودية ومناصرة العراق ما جعل القصيبي يصب سهام قلمه على قادة تلك الدول العربية وكبار المسؤولين فيها بأسلوب علمي منهجي راقٍ قارع فيه الحجة بالحجة ولم يعمد فيه للسباب والشتائم رغم ما شنته عليه عدد من أجهزة الإعلام في هذه الدول ورموز التيار الإخواني بالسعودية الذين عرفوا بمسمى (الصحويين) من شتائم وكلمات جارحة، وقد جمعت هذه المقالات في كتاب يحمل نفس مسمى الزاوية (في عين العاصفة) وقدم له الصحافي الأستاذ عثمان العمير رئيس تحرير الشرق الأوسط آنذاك.
3- الروايـــة الساخرة:
أحدثت أول رواية صدرت لغازي القصيبي (شقة الحرية) انقلابا إن جاز الوصف في مسيرة الرواية السعودية بعد أن أخرجها من ثوبها التقليدي البسيط لينتقل بها إلى مصاف الروايات العالمية فجدد في مضمونها ومعالجاتها وأسلوبها وأثرى نصوصها بأساليب النقد الاجتماعي والهجاء السياسي وتفحص الحال العربية فحظيت باهتمام وعناية النقاد والدارسين العرب وكتبوا عنها عديدا من الدراسات والبحوث والمقالات لتنتظم بعدها سلسلة رواياته الأخرى التي أصبحت تجذب قارئها بأفكاره وتدعوه في شغف ونهم للاسترسال في قراءتها حتى يأتي على آخر صفحاتها أمثال رواية (العصفورية)، و(أبو شلاخ البرماوي)، و(دنسكو)، و(الجنية) و(سبعة)، و(الزهيمر)، ولعل أكبر دليل على ذلك تصدر مبيعات كتبه ورواياته على مستوى العالم العربي في عام 1424هـ.
وتقول: الباحثة أسماء محمد سعد في دراستها لروايات القصيبي تحت عنوان (اللغة الساخرة في روايات غازي القصيبي- العصفورية - أبو شلاخ البرماوي- دنسكو)، برزت السخرية كتقنية فنية وسمة مميزة واستراتيجية مهمة في المتن الروائي للمدونة موضوع الدراسة عند غازي القصيبي يستمد معانيها من أحداث خاصة ذاتية، أو من الواقع الاجتماعي أو السياسي ليصنع منها نصا إبداعيا يشكل بها مادته، ويلجأ إليها كما يلجأ الأدباء المصلحون لنقد مجتمعهم على مر العصور، ويشق بها الطريق لمن خلفه من الروائيين السعوديين لتكون أسلوبا ناقدا وإصلاحا متحررا من التابوهات، عبر أسلوب فني جمالي يحقق أهدافه ويثبت معانيه ويؤكد رؤيته الجادة عن طريق خطاب مضاد هازل.
4- العبارة والمقولة الساخرة:
عرف عن غازي القصيبي روح التعليقات المرحة وتأتي مداعبات ومقولات وتعليقاته على الكثير من الأحداث والقضايا مبينة ما يتحلى به من حكمة وفلسفة غذتها حنكته وتجاربه الكبيرة ونظرته للحياة والأحياء.
ولعل خير مثال ناطق على تلك المقولات الساخرة كتابه المعنون بـ(100 من أقوالي غير المأثورة) الذي أهداه إلى صديقه عبدالعزيز الخويطر وكتب في تقديمه: (هذه مجموعة من الأقوال وقد نسبتها إلى نفسي لأني أعتقد أني أول من قالها، وأضفت بأنها غير مأثورة لأني لم أسمع أحدا يرددها غيري).
وقد اختار الباحث الدكتور عبدالله رمضان أقوال القصيبي ضمن نماذج دراسته لمرحلة الدكتوراه في نطاق الجزيرة العربية والخليج العربي، وفي تبريره لهذا الاختيار قال: إنه يعدها من النماذج التي تندرج تحت ما يسمى بفن (الإيبجراما) (5) وتعبر تعبيرا مثاليا وتكشف عن روحه الأدبية الخفيفة الظل التي تشربت بحكمة السنين وخبرة الأيام والمسؤوليات وأنها تحقق أكثر سمات هذا الفن.
5- القصيبي وفن الكاريكاتير:
فن الرسوم الكاريكاتورية هو وجه آخرمن وجوه السخرية والتي استأثرت ونافست بقوة أدب النثر الساخر في العصر الحديث لشأنها ودورها المهم كلغة تعبير مشتركة بين الأمم ولذلك فقد وصفها أحد الكتاب العرب بأنها أصبحت اليوم هي المتن بينما تراجعت الكلمة الساخرة لتحتل الهامش على عكس ما كانت عليه في عهدها السابق لسرعة تأثيرها ووصولها للمتلقي بشكل أسرع من مئات المقالات الساخرة.
وأهمية هذا الضيف القادم بقوة في عالم السخرية لم تغب عن فكر واهتمامات غازي القصيبي الذي يعد فن الكاريكاتير سلاحا فعالا حاسما ومؤثرا في عدة مجالات فحرص على أن يوظفه التوظيف الصحيح وأتضح ذلك من خلال شاهدين:
* الأول: اهتمامه بدعم وتطعيم كتابه (100 من أقوالي غير المأثورة) الذي أشرنا إليه سابقا بعدد كبير من الرسوم الكاريكاتورية وهو ما يشير إلى إدراكه لأهمية فن الرسوم الكاريكاتورية وتضامنها مع مقولاته الساخرة تلك ليعطي لها بعدا آخر أكثر تأثيرا في إيصال رسالته للمتلقي.
* الثاني: جعل القصيبي من نفسه ووزارته (وزارة العمل) آنذاك التي كان يرأسها القدوة في التعامل مع الرسوم الكاريكاتورية عندما أتاح لرساميها الفرصة الواسعة لانتقاد وزارته، وعمل على تشجيع المبدعين فيها ليقينه التام أنها تحقق بعضا من توجهاته وتقع مع كتاباته الساخرة في خندق واحد في بث الهموم وكشف معاناة الناس وإثارة الضحك والبكاء في آن واحد.
ولو استعرضنا الكثير من النماذج من أدب القصيبي والتي لا يتسع المجال هنا لسردها بالتفصيل ومن خلال المحاور السابقة لاتضحت أبعاد وفنون الأدب الساخر وتغلغلها في إبداع ونتاج غازي القصيبي على اختلاف أنواعه.
وختاما وبعد أن ودعنا غازي القصيبي ورحل الشخص وبقي النص ناطقا على باعه الطويل في الفكر والآدب والثقافة والإدارة والسياسة، وبعد أن حظي بالإجماع على تميزه وتألقه الفريد من مختلف الأطياف الثقافية المحلية والعربية والعالمية فلا أملك إلا أن أردد مع الشاعر اليوناني هوميروس وأقول وبتصرف: (لن تصمت يا غازي فالقيثارة الخالدة لا تزال بيدك.. والقلوب هي القلوب فدع أوتارها تملأ الدنيا رنينا.. فقد أوسعتنا هذه الدنيا أنينا.. ورنينك العذب أذهب لأنين الشاكين ولوعة الباكين)، رحم الله غازي القصيبي رحمة الأبرار وجزاه عما قدم لوطنه ومواطنيه ولأمته خير الجزاء.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) غازي القصيبي - حياة في الإدارة مرجع سابق – ص308.
(2) غازي القصيبي - في رأيي المتواضع - تهامة للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية جدة - 1404هـ - 1983م.
(3) مجلة العربي الكويتية - مرجع سابق..
(4) من حديث الخويطر في الندوة التي اقامها مركز حمد الجاسر الثقافي بعد مرور عام على رحيل غازي القصيبي رحمه الله.
(5) الإيبجراما: فن مأخوذ من الكلمة اليونانية (إيميوجراما) وهي مقطوعة من الشعر يراوح طولها ما بين بيتين أو خمسة عشر بيتا تقريبا تكون للمدح أو الرثاء أو الإعلان عن شيء ما.