الثقافية - علي القحطاني:
يُعد الدكتور عبدالله المدني من أبرز الأكاديميين والباحثين في منطقة الخليج العربي، حيث أثرى المشهد الفكري والبحثي بمقالاته ودراساته التي تناولت العلاقات الدولية والشؤون الآسيوية، إلى جانب اهتمامه العميق بالتاريخ والثقافة والموسيقى. ولم تقتصر إسهاماته على الكتابة الصحفية، بل امتدت إلى البحث الأكاديمي والتأليف الروائي، إذ استطاع المزج بين تخصصه العلمي وشغفه بالتاريخ والفن، مما جعله نموذجًا للمثقف الموسوعي. ورغم التحولات التي شهدتها الصحافة التقليدية في العصر الرقمي، لا يزال الدكتور المدني يؤمن بدورها التوثيقي والمعرفي، متطلعًا إلى مستقبل يحفظ للصحافة رسالتها الجوهرية في نقل الحقيقة وصناعة الوعي.
في لقاء خاص مع «الثقافية»، استعرض الباحث والأكاديمي البحريني الدكتور عبدالله المدني محطات مسيرته الفكرية التي تميزت بالتنوع والانفتاح على مختلف المجالات. فمنذ نشأته في مدينة الخبر، وجد نفسه في بيئة مليئة بالتجارب والتحديات، ما جعله شاهدًا على التحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة، بدءًا من بدايات التنمية النفطية وصولًا إلى الطفرات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تبعتها. وأشار إلى الدور المحوري الذي لعبته دراسته في مدارس أرامكو بالخبر في تشكيل وعيه الفكري، حيث زودته بآفاق تعليمية متقدمة ساهمت في رسم ملامح مستقبله الأكاديمي. واصل رحلته العلمية متنقلًا بين الولايات المتحدة وبريطانيا، لينال درجة الدكتوراه من جامعة إكستر.
لم تقتصر إسهامات الدكتور المدني على المجال الأكاديمي فحسب، بل امتدت إلى الصحافة، التي بدأ مشواره فيها منذ السبعينيات، حيث كتب في العديد من الصحف الخليجية والعربية والدولية، متناولًا قضايا سياسية وتاريخية وثقافية. ولم يكن الأدب بعيدًا عن اهتماماته، فقد استوحى من تجربته في بيروت خلال السبعينيات أولى رواياته، مستلهمًا أفكارها من التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها جيلان خليجيان في بيئتين مختلفتين. وقد كان للراحل غازي القصيبي دور في توجيهه نحو توثيق هذه التحولات عبر الكتابة الروائية.
كما تناول الدكتور المدني خلال حديثه لـ»الثقافية» واقع الصحافة اليوم، مسلطًا الضوء على التحولات الجذرية التي طرأت عليها بفعل الثورة الرقمية، والتي أدت إلى تراجع الصحافة الورقية أمام الإعلام الإلكتروني. ورغم هذه التغيرات، أكد أن الصحافة لا تزال تحتفظ بدورها التوثيقي والمعرفي في بعض الأوساط، مشددًا على أهمية البحث والكتابة كأداتين أساسيتين لفهم العالم واستكشاف أبعاده المختلفة.
وفي ختام حديثه لـ»الثقافية» شدّد الدكتور عبدالله المدني على أن المعرفة الحقيقية تكمن في الانفتاح على مختلف المجالات بعيدًا عن القيود الأيديولوجية والخطابات الضيقة، معتبرًا أن المثقف الحقيقي هو من يبقى متجددًا، متحررًا من التعصب، ومواكبًا لمستجدات الفكر والثقافة بأسلوب نقدي واعٍ.
البداية
كيف أثرت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الخليج على تجربة الدكتور عبدالله المدني ورؤيته الفكرية؟
عبدالله المدني مجرد مواطن مسالم من الخليج العربي، سلاحه الوحيد الكلمة والقلم، وما أنعم الله به عليه من علم متواضع استقاه من مدارس مختلفة، وتجارب حياتية متنوعة تراكمت على مدى نصف قرن، ويفتخر أنه من أبناء الجيل الذهبي في الخليج الذي لن يتكرر، ممن قدر الله لهم أن يولدوا مع انتصاف القرن العشرين فعاصروا حقبة التعب والشقاء وقلة الحيلة في بدايات استثمار مداخيل النفط في التنمية والتغيير، وعاصروا حقبة الطفرة النفطية بكل ما أحدثته من انقلاب رهيب في مجمل القيم والمفاهيم والسلوكيات الاجتماعية، كما عاصروا الحقبة التالية بكل أزماتها مع انخفاض مداخيل النفط.
وكونه أحد أبناء ذلك الجيل فهو كغيره كان شاهدا على كل الأحداث الكبيرة والزلازل السياسية التي عصفت بالمنطقة والعالم بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية، وكان ممن سبحوا مع السابحين في لجج التيارات الفكرية العاتية المختلفة، لكن دون أن يتأثر بأي منها تأثيرا يجعله أسيرا لفكر ضيق واحد أو خاضعا لرؤية أيديولوجية محددة، ما جعله حرا طليقا يستفتي ضميره وعقله في الاختيار والمفاضلة، وبالتالي يبني لنفسه شخصية مستقلة، على خلاف الكثيرين من زملائه وأبناء زمنه ممن غرقوا في وحول الأيديولوجيا وتلوثوا بالشعارات الفارغة وانصرفوا عن تعليمهم والارتقاء بأحوالهم إلى السفسطة والجدل العقيم.
النشأة الأولى ومدارس أرامكو
حدثنا عن نشأتك في مدينة الخبر، وكيف أسهمت هذه البيئة في تشكيل مسيرتك الفكرية؟ بالإضافة إلى ذلك، كيف كانت تجربتك الدراسية في مدارس أرامكو، وما العوامل التي جعلتها متميزة عن غيرها من المدارس؟
كانت طفولتي بمدينة الخبر بصفة عامة سعيدة، إذ لم يكن ينقصني شيء من الضروريات، خصوصا بعد أن أنعم الله على والدي بخيراته ومكنه من تأسيس تجارته وبناء بيت حديث بوسط الخبر وتأثيثه بكل اللوازم. غير أني بسبب كوني الابن الأكبر لأبوين أميين، ثم بسبب عدم وجود أعمام وأخوال يقطنون معنا أو بجوارنا فقد عانيت من عدم وجود من يساعدني ويوجهني في بعض الواجبات المدرسية، الأمر الذي جعلني أعتمد كليا على نفسي في فك طلاسم المقررات. كذلك أعتمد على نفسي في تلبية احتياجاتي الكمالية من ملابس وكتب ومجلات، عن طريق الادخار من مصروفي المدرسي الضئيل. فعلى سبيل المثال كنت أقتصد كل يوم بضعة قروش، حتى إذا صارت عشرين قرشا (أي ريال سعودي واحد) مع نهاية الأسبوع انطلقت إلى أقرب مكتبة تجارية لشراء نسخة من إحدى المجلات المصرية او مجلة «العربي» الكويتية. ولا زلت أحتفظ بتلك المجلات إلى اليوم وأحاول ترميمها بعد أن فتك بها تقادم الزمن، لأني ارتشفت منها ثقافتي الأولى وعرفت منها ما كان يدور في العالم من أحداث ساخنة في سن مبكرة.
لقد كنت محظوظا، أولا لأني نشأت وعشت ووعيت في مدينة جميلة هادئة على ضفاف الخليج، كانت محدودة المساحة آنذاك وتسودها السكينة والأمان ويعيش على أرضها أناس قدموا من مختلف الدول والمناطق للاسترزاق، فعاشوا في بيئة نموذجية تعززها قيم التسامح والوفاق، وتزيدها جمالا بصمات أرامكو الحداثية في التطوير والتخطيط والانفتاح الاجتماعي، وكنت محظوظا ثانيا لأني من الطلبة الذين درسوا مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي بالمدارس التي بنتها شركة أرامكو بمدينة الخبر وتولت وزارة المعارف السعودية إدارتها. إذ كانت هذه المدارس تشبه الكليات الجامعية في الغرب لجهة التصميم الهندسي والمساحات الشاسعة الملحقة والأثاث المريح والأجهزة والأدوات المدرسية الحديثة والأنشطة المتنوعة، ناهيك عن أطقم معلميها الذين كانوا يحملون الدرجات الجامعية والعليا من رعايا الأردن والسودان والعراق ولبنان وانجلترا وجنوب أفريقيا وأستراليا والهند. أضف إلى ذلك أن تلك المدارس كانت تدرس مواد إضافية خارج نطاق المقررات الرسمية من أجل تنمية ثقافة الطالب والارتقاء بحسه الفني وتعليميه، يستفيد منها ماديا خلال عطلة المدارس الصيفية مثل الطباعة على الآلة الكاتبة التي كانت مطلوبة كثيرا في تلك الفترة من قبل البنوك والشركات. ولا أبالغ لو قلت أني عشت أجمل سنوات طفولتي وصباي في تلك الأجواء واستفدت منها كثيرا.
أما المرحلة الثانوية فقد درستها في المدرسة الثانوية الحكومية الوحيدة بالخبر من عام 1967 إلى 1970 لعدم وجود ثانوية من بناء شركة أرامكو. وفي هذه المدرسة كانت الأجواء مختلفة وكنا نفتقد أشياء كثيرة تعودنا عليها، لكننا صبرنا وتكيفنا مع مرور الوقت، خصوصا مع سعادتنا بتعلم اللغة الفرنسية ضمن المنهج الرسمي على ايدي مدرسين من تونس. وأتذكر أني صممت وحررت آنذاك أول صحيفة حائط مدرسية باللغة الفرنسية التي عشقتها وواصلت تعلمها لسنوات وأصبحت أجيدها، بل التي شكلت لي دافعا لتعلم لغات أجنبية أخرى عديدة كالألمانية والفارسية والهندية واليونانية.
شمولية المحتوى
الكتابة الصحفية ليست مجالك الوحيد، فأنت أيضاً كاتب ومؤرخ، كيف توفق بين هذه المجالات؟
الكتابة بالنسبة لي مداد حياتي والأوكسجين الذي أتنفس به، والمرآة التي أرى فيها روحي بوضوح، وبالتالي لا أتخيل نفسي يوما دون مزاولة الكتابة، مع ملاحظة أن الكتابة في مفهومي هي تلك الكتابة التي تضيف شيئا مفيدا للمتلقي أو تسعد حياته أو تبهجه .. أي الكتابة القائمة على البحث والتقصي والتنقيب بشغف، وليست الكتابة المعتمدة على رص العبارات الإنشائية في إطار مزخرف ورشه بالبهارات وصور البيان والبديع والجناس والطباق. وكما الكتابة، فإن القراءة هي رفيقي ومتنفسي ومجدد حياتي إلى درجة أني أشعر بفقدان التوازن إن مرّ علي يوم دون قراءة كتاب أو بحث أومطبوعة.
منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين كتبت في العديد من الصحف السعودية والخليجية والعربية والدولية باللغات العربية والانجليزية، وتنوعت هذه الكتابات ما بين السياسي والاقتصادي والأدبي والفني. ويهمني هنا أن أبين أن مجال تخصصي الأكاديمي هو العلاقات الدولية، مع تخصص فرعي في الشؤون الآسيوية. أما كتاباتي في التاريخ والموسيقى والسينما فهي من باب العشق والهواية ليس إلا. وأمارسها كنوع من التسلية في أوقات الفراغ وإدخال البهجة على المتلقي، وبالتالي فإني أرفض وصفي بالمؤرخ. فالتأريخ تخصص منفصل وله شروطه ومعاييره ورجالاته الذين لست منهم، وإنْ قيل أن العلوم الإنسانية متداخلة ومتشابكة.
رواية شقة الحرية
كيف أثرت نصيحة الدكتور غازي القصيبي على مسيرتك الأكاديمية؟
للراحل الكبير الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، رحمه الله، أفضال كثيرة علي. فهو الذي اقترح عليّ، حينما قابلته مصادفة في مدينة بوسطن الأمريكية زمن دراستي لمرحلة الماجستير، أن أنتقل إلى لندن لإكمال مرحلة الدكتوراه هناك، كي أتعرف على نظام التعليم البريطاني المتشدد والمختلف عن نظام التعليم الأمريكي المتساهل، وكي أعايش بيئة ثقافية أكثر تنوعا وتلونا. فعملت بنصيحته رحمه الله وسجلت في جامعة إكستر العريقة بجنوب انجلترا التي منحتني درجة الدكتوراه عن أطروحة غير مسبوقة بعنوان «أثر العامل الداخلي في رسم السياسات الخارجية، العلاقات والسياسات السعودية ــ الهندية نموذجا. ومن محاسن الصدف أن انتقالي من الولايات المتحدة إلى المملكة المتحدة تزامن مع تعيين معاليه سفيرا لخادم الحرمين الشريفين لدى بلاط السانت جيمس، فتوثقت علاقته بمعاليه أكثر وأكثر، وكنت أزوره في مقر السفارة وأتردد على مجلسه الأسبوعي، وكثيرا ما استرشدت بنصائحه وتوجيهاته حول اتمام رسالة الدكتوراه التي فرح بعنوانها وشجعني على الاستمرار فيها وتخطي العقبات الكثيرة التي واجهتني لجهة نقص المصادر والمراجع ذات الصلة.
ومن جهة أخرى، كان الراحل هو السبب في دخولي مجال الكتابة الروائية لأول مرة. فبعد أن علم بإعجابي بروايته الأولى «شقة الحرية»، قال لي الراحل: «أسلوبك في الكتابة جميل يا عبدالله، ولديك ملكة الكتابة والنفس القصصي، فلماذا لا تستغلها، وقت فراغك، في إثراء المكتبة العربية برواية تشبه رواية «شقة الحرية» لكن أحداثها تقع في بيروت حيث أكملت دراستك الجامعية الأولى؟. وكان رحمه الله يبتغي من وراء ذلك الإطلاع على ما واجهناه في بيروت السبعينات ومقارنته بما واجهه هو وزملاؤه في قاهرة الخمسينات (أي مقارنة أحوال وأفكار جيلين خليجيين في عاصمتين ثقافيتين عربيتين بينهما عقدان من الزمن). والحقيقة أن الفكرة أعجبتني لكني أجلتها إلى حين تفرغي من رسالة الدكتوراه.
أما الأمر المؤسف والمحزن حقا فهو أن أبا سهيل رحل دون أن يطلع على روايتي التي صدرت في بيروت تحت اسم «في شقتنا خادمة حامل»، فلم أحظ بشرف ملاحظاته، ذلك أن ظهور الرواية تزامن مع دخوله ــ رحمه الله ــ مرحلة الصراع مع المرض الخبيث. غير أنه من محاسن الصدف أن الرواية وقعت في يد الناقد المصري الكبير وأستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس الدكتور صلاح فضل الذي أنصفها، بل وشبهها، من حيث القيمة الفنية بعملين أثيرين في تاريخ الرواية العربية الحديثة هما «شقة الحرية» للدكتور غازي القصيبي و»في بيتنا رجل» لنجيب محفوظ.
الصحافة الورقية والتوثيق
كيف ترى واقع الصحافة اليوم مقارنةً بالماضي؟ وهل تعتقد أنها ما زالت محافظة على دورها التوثيقي؟ وما هو في رأيك مستقبل الصحافة الورقية؟
لقد تغير الزمن وتغير الناس، وتغيرت بالتالي علاقتهم بالصحف والمجلات، الأمر الذي أثر على شكل ومحتوى الصحافة اليوم مقارنة بالماضي. يكفي أن أقول أن جيلنا كان ينتظر صدور الصحف بفارغ الصبر كي يتلذذ بقراءتها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة ويستقطع منها الأخبار والصور والمقالات ويحتفظ بها في ملف كي يستخدمها كمرجع أو لكي يستخدمها في الاقتباس والنشر في صحف الحائط المدرسية أو في إذاعة طابور الصباح. أما الجيل الحالي، فلا يعرف لا صحف الحائط ولا الإذاعة المدرسية، ونادرا ما يقرأ الصحافة الورقية، كي لا نقول إنه يستهزئ بمن يقرأ جريدة ويعتبر قارئها متخلف تكنولوجيا. وفي اعتقادي أن الصحافة الورقية تحتضر اليوم بفعل الثورة التكنولوجية، لكنها ستبقى لسنوات أخرى، علمها عند الله، لأن هناك البعض ممن لا يستغني عن قراءة الجريدة مع قهوة الصباح، ويتلذذ وهو يطوي صفاحاتها صفحة بعد صفحة ويؤشر بالقلم الأحمر تحت سطورها.
** **
تويتر: (@ali_s_alq)