تَظَلُّ التجارِبُ المعرفيَّةَ متجدِّدةً خاضِعَةً للتطويرِ، بِوصْفِها صِناعةً عَقليّةً، واجتِهادًا بَشَريًّا ماثِلًا للنظَرِ. فَهي مُنكَشِفَةٌ للعُقولِ المسْتَبصِرةِ، تَتَناوَلهُا بِما يُناسِبُ رُؤيَتَها، وَيُثري ثَقَافَتَها. وَنَظَريّاتُ القِراءَةِ في مِضْمارِ النقْدِ مُتعَدّدَةُ الاتّجاهاتِ، مُختَلِفَةُ التَكْوينِ والأَبعادِ. وَمنْ يَتَأمَّلُ تَاريخَ أيِّ نَظَريَّةٍ يَجدُها مَرَّتْ بِمرَاحِلَ عِدَّةٍ مِن النشْأةِ والتطَوُّرِ والاكْتِمالِ، وقَدْ تَكونُ تَنَقَّلَتْ بَينَ أَكثَرَ مِنْ ثَقَافةٍ وَلُغَةٍ حِتَّى اكْتَمَلَتْ في صُورَتها النهائيّةِ.
ونَظريَّةُ الشفَاهيّةُ والكِتابيّةُ إحْدَى نَظَريّاتِ قِراءةِ النصِّ التي دَخلتْ إلى مَيدانِ النقدِ مُنتقلةً من ثقافةٍ أُخرى بِطريقِ الترجَمةِ. ولكنَّ فَنَّيْ المشافَهةِ والكتابةِ لم يَكونَا غَريبينِ على التُراثِ العَربيِّ في مَساراتِه الإبداعيَّةِ والفِكريّةِ والتاريخيّةِ. فَتناقُلُ الشعرِ الجاهليِّ، والشاعرُ الراويةُ لشعرِ أُستاذِه، والارتجالُ شِعرٍا وخَطابةً، وتناشُدُ الأشعارِ في أسْواقِ العربِ كُلّ أولئِك مُكوِّنٌ كَبيرٌ في أدَبِ العربيّةِ وثقَافتِها.
وقدْ أقامِ النادِيْ الثقافيُّ الأدبيُّ بجُدّةَ منذ مدَّةٍ قَريبةٍ مُلتقَى قِراءةِ النصِّ الحاديْ والعشرينَ، وكان موضُوعُه: «التاريخُ الأدبيُّ والثقافيُّ في المملكةِ العربيِّةِ السعوديّةِ بينَ الشَّفاهيَّةِ والكِتابيّةِ». وهو عُنوانٌ يَلتفتُ بِكُلّيَّتهِ إلى النظريّةِ المذكُورةِ، ويَتأكّدُ ذلكَ حينَ اختارَ البَينيّةَ للجمعِ بينَ الفنّينِ، فالتَحقَ العنوانُ بتلك َالنظريّةِ القرائيّةِ، ولو كانَ العنوانُ: «الشفهيّةُ والكتابيّةُ في التاريخِ الأدبيِّ في المملكةِ العربيّةِ السعوديّةِ» لكانَ مُوحيًا بأنّ القراءةَ سَتكونُ عن توثيقِ النصِّ التاريخيِّ الأدبيّ شفهيّا وكتابيّا، بغَيرِ نظَرٍ إلى النظريّةِ القِرائيّةِ. ولكنّ واقعَ الأوراقِ المقَدّمَة للمُلتقَى يُلامسُ النظريّةَ من جِهاتٍ ويُفارِقُها من جِهاتٍ أُخرَى، فَوجهةُ الأوراقُ في عُمومِها تتَّكئُ على بُعدِ ثَقافيٍّ، ورُؤيةٍ مَعرفيّةٍ نَشأ عليها الأَدبُ الشَّفهيُّ العربيُّ في عُصورِه المختَلفةِ.
وتقومُ نَظريّةُ «الشفاهيّةُ والكتابيّةُ» في جانِب كبيرٍ من مَنهجِها عَلى الدراسةِ التقابُليّةِ، وأهمُّ ركائزِها النصُّ إبداعيًّا أو غيرَ إبداعيٍّ، وقراءتُه في مَرحلَتي المشافَهةِ والتدوينِ، والتحوُّلاتُ التي تَطرأُ على النصَّ بينَ مَرحلتيهِ الشفهيّةِ والكتابيّةِ. سواءٌ أكان شعرًا مُرتَجلًا، أم خطبةً مُرتجلةً تَحوّلا إلى قصيدةٍ مكتوبةٍ، أو نصٍّ مكتوبٍ. والفرقُ بين النصِّ الشفهيِّ الذي لا يَخضعُ لشروطِ الكتابةِ والتدوينِ، وبين النصِّ الشفهيِّالممثّلِ لصورةِ الكتابةِ أنَّ الأوّلَ ذهنيٌّ ارتجاليٌّ، والآخرُ خاضعٌ لشروطِ الكتابةِ، وما تقتَضيهِ من رَويَّةٍ وتَنقيحٍ. فالنصُّ الكتابيُّ حينَ يَظهرُ في صُورةِ الشفهيِّ ليسَ سِوَى اسْتظهارٍ للمحفوظِ. أمَّا النصُّ الشفهيُّ حِينَ يَتحوّلُ إلى كتابيِّ فإنَّه يَتعرَّضُ لِتَغيّراتٍ بينَ حالتِيهِ الشفهيِّةِ المرتَجلةِ والكتابيّةِ المنضَبطةِ بشروطِ الكتابةِ. فالمكتُوبُ له خَصائصُ لا تَتحقَّقُ في النصِّ الشفَهيِّ. وقَد تَختلفُ الكتابةُ حِينَ تَكونُ واسطةً بينَ النصِّ الشفهيِّ الأصليِّ وبينَ المتلقِّي. ولكنَّها تُمثّلُ خُصوصيّةً حينَ تكونُ الكتابةُ هي مُنطَلقَ العملِ الإِبداعيِّ دُونَ أنْ يَمرَّ بِمرحَلةِ الشفَهيّةِ. وقدْ تَدْخُلُ فَوارقُ أُخرَى بينَ أثرِ النصوصِ الشفهيّةِ والكتابيّةِ من جِهةِ الِإنشاءِ وبينَ أثرِها مِن جِهةِ طِريقةِ تِلقِّي كلٍّ مِنهُما، حتَّى إنَّه قدْ تُصبحُ اللفظةُ -وليسَ النصُّ فحَسبُ- في حَالِ كتابيِّتِها شَيئًا آخرَ عَنها في حَالِ شَفَهيّتِها بناءً على حالِ المتلقِّي لهما بلْه حالَ المبدِعِ. أمَّا الكاتِبُ فإنَّه يُراعي الاختِيارَ، والترتيبَ، والربطَ، والتسلسُلَ، والتنقيحَ. ولا يَتحقّقُ ذلك بالضرورةِ في المرتجِل عندَ المبدعِ إلّا بشروطِ القدرةِ النادرةِ. ويُضافُ إلى ذلكَ مَا مَرّتْ بِه البلاغةُ في الثقافاتِ الغَربيّةُ بِوصْفِها حَلَقةً مهمَّةً في نُشوءِ نِظريّةِ الشفاهيّةِ والكتابيّة؛ لأنّ البلاغةَ منذُ نشأتِها عندَ اليونانِ تَقومُ في الأصلِ علَى الشفهيّةِ والمخاطَبةِ المباشرةِ، وهو يُشبهُ تمامًا ما أَشرْنا إليهِ مِن الاختيارِ، والربطِ، والترتيبِ، والتنقيحِ، والتَسلْسُلِ، وما يَجعلُ البلاغةَ أَقربَ للشفاهيِّةِ مِن الكتابيِّةِ. فالبلاغةُ في تِلكَ الثقافةِ تَعني أكثَرَ ما تَعني الخَطابةَ، وربّما كانَ ذلكَ هو الِلَّةَ في سَرَيانِ مَفْهومِ الخَطابةِ على عِلمِ البلاغةِ. وانْتقَلَ هَذا المفْهُومُ الاصْطلاحيُّ انْتقالًا بِلا وَعْيٍ إلى الثقَافَةِ العَربيّةِ في بَعضِ الدراسَاتِ والبُحُوثِ المعنيّةِ بالبلاغةِ، وأَسهَمَ في تَرسِيخِ هَذا الانتِقالِ الخَالي عن الإنْصافِ ما عُرفتْ بِه البلاغةُ العربيّةُ من عنايَتِها بالإبلاغِ، والتأثيرِ، والإقْناعِ، وهُنَّ أَلصقُ بالخطابةِ هُناك، لكنّها ليستْ لازِمةً للبلاغةِ العربيَّة؛ لأنَّ هَذا المنظورَ الجُزئيَّ يُهمِّشُ الجَانبَ الجَماليَّ الذي يَدخُلُ في كلِّ عنصرٍ من عَناصرِ البلاغةِ العربيّةِ، وهُنالِكَ يُصبحُ الشِّعرُ أو مُعظَمُه بَعيدًا عن البلاغةِ، وهذا وهمٌ وقَعَ فيهِ من وقَعَ في خَطأ مفهُومِ المصطَلحِ المنقُولِ إلينا، وهو مُخْتَلفٌ عن حقيقةِ البلاغةِ في التراثِ العربيِّ.
وقدْ وُجِدَ في الخُطَبِ العربيّةِ والشِّعرِ كثيرٌ من تِلكَ الأُسُسِ مُتحقّقًا سَواءٌ كان ارتجالًا أمْ إِعدادًا في الذاكِرةِ، علَى أنَّ الثاني مِنهُما أَقرَبُ إلى الكتابيَّة منه إلى الشفَهيّةِ.
والواقعُ أنّ بعضًا من القِيَمِ المعرفيّةِ لهذه النظريّةِ -أعْني الشفاهيّةُ والكتابيّةُ- تَظهرُ في تَضاعيفِ القِراءةِ الفاحِصَةِ لمكوِّناتِ النصَّ وهُو في طَورِ الإنشاءِ والتخلُّقِ في ذاكرةِ المؤلِّفِ، وهذهِ يَكشِفُها للمُتلقّي الموقفُ الارتجاليُّ للنصِّ.
إنَّ العَقلَ العربيَّ الذي تَلقَّى الخَطابةَ، والشِّعرَ، عنْ خُطَباءَ العَربِ وَشُعَرائِهمْ فَأدَّاهُما كَمَا سَمعَهُما رَاجعٌ إلى نقاء فِطْرتِهِ الأدبيّةِ واللغويّةِ، ونهجِ الخطَابِ الجمعيِّ، وإلى خُصوصيَّةِ اللغَةَ العَربيّةِ التي تَتَراسلُ مُفرَداتُها لِسَبْكِ نَسِيجِ المعْنَى فَتَرتَسِمُ في ذِهْنِ مُنْشِئِ النصِّ خُطْبَةً كانتْ أو قَصيدةٍ، ثُمّ تجدُ خاطرٍا رَيِّضَ القَريحةِ مِنْ المتلقِّي. وبهذا الأسَاسِ المميَّزِ في العَقلِ العَربيِّ نجدُ مُنطلَقَ الاختلافِ وانبثاقَ رؤيةِ مختلفةٍ في نظريةِ الشفاهيّةُ والكتابيّةُ حِينَ تَرِدُ سُوقَنا الثقافيَّةِ عَنها في ثَقافَةِ أُخرَى.
ونَظَريَّةَ الشفاهيِّةُ والكتابيّةُ إذا نَقلتِ الشفهيَّ إلى الكِتابةِ، يُصبِحُ الكِتابُ أو المكتوبُ ناقِلًا آخرَ للمضْمونِ مُوازيًا للناقلِ الشَّفهيِّ وليسَ مماثلًا له تَمامًا. وهذهِ النُقطةُ الحرِجَةُ لا تكادُ تُوجَدُ في الشفهيَّةِ العربيّةِ؛ فالنصُّ الشفَهيُّ العربيُّ لا يَختلِفُ عن النصِّ الكتابيِّ في الإبداعِ والخَطابَةِ، أو لا يَكادُ يُوجَدُ. والفرقُ بينَ النصِّ في حَالتيهِ الشفهيَّةِ والكتابيَّةِ في النَظريّة أنَّ المكتوبَ نصٌّ صامِتٌ، والشفهيَّ نصٌّ ناطِقٌ مُتكلِّمٌ يُترجِمُ نَفسَهُ، مُتأثّرًا بِظَروفِ القَولِ المباشِرِ، وقد يصحُّ هَذا أو بعضُه في شيءٍ من الموروثِ العربيّ.
ومِن مَزايا النظريّةِ عندَ تَطبيقِها على النصِّ الإبداعيِّ في حالتيْهِ أنَّها تُبيِّنُ واقعَ الإبداعِ وهُو في مِهادِه الذي نَشَأ فيهَ، فإنَّه يَنشأُ في خَاطرِ المبدعِ، ثُمَّ يَتحوَّلُ إلى قولٍ شَفهيٍّ، ثُمَّ إلى نصٍّ مكتوبٍ بذاكرةِ المبدعِ نفسِه، ثمّ إلى نصٍّ مقروءٍ بنظرِ المتلقِّي ورؤيتِه. وأثناءَ هذه المراحلِ الأربعِ بين الشفهيّةِ والكتابةِ تَتَبيَّنُ تَحوّلاتُ النصِّ وخُضوعُه لعددٍ من التغيُّراتِ التي تُفرضُ عليهِ باختيارِ المبدعِ، أو بمراعَاتِه لما يَتحرَّاه المتلقِّي. والمرحَلةُ الثانيةُ من هذهِ المراحلِ الأربعِ لا تَعدُو أن تَكونَ صِيغةَ لَفظيةً للمرحلةِ الأُولَى التي يَنشأُ فيها النصُّ. لَكنَّ التَمييزَ بينَ المرحَلتينِ يَرجعُ في حَقيقتِه إلى القُدرةِ الإبداعيّةِ لدَى المبدِعِ في انتقالِ الفِكرةِ النفسيِّةِ والخاطرةِ اللحْظيَّةِ إلى صِياغةٍ لفظيَّةٍ شفهيّةٍ. وهِي التي تُميِّزُ مُبدعًا عنْ مُبدعٍ آخرَ. وتَعتمدُ علَى سُرعةِ البديهَةِ، وقوَّةِ الذاكرةِ، وبَراعَةِ الموهِبةِ. كَما في ارْتجالاتِ شُعراءِ العربيّةِ، ومن أشهَرِها ارتجالُ أبي تمِّامٍ لبيتينِ أَدخلَهُما في قَصيدتِه وهو يُنشدُها، ولمْ يَكونا في القصيدَةِ عندَ إنشائِها. وهُنا يَختلفُ الإنشادُ عن الإنشاءِ اختلافٍا جماليَّا يُضيفُ إلى أصْلِ الإبداعِ قيمةً مُستحسَنةٍ لا تَنقصُ الشفهيِّ شيئًا، بلْ تُضيفُ لَه ما يَزيدُ في حُسنِه وجمَالِه.
لقدْ رأيْنا في مُلتقَى قراءةِ النصِّ بِنادي جُدّةَ الأدبيِّ وُجهةً جَديدةَ في تَلقِّي نَظَريَّةِ الشفاهيَّةُ والكتابيَّةُ، في قراءةِ النصِّ الشفهيِّ والمكتوبِ، فلمْ تكنْ تلكَ الوجهةُ صورةً من النظريّةِ ولو عُدنا إلى الملتقَى بأوراقِهِ التي تجاوزتْ ثَلاثينَ ورقةً بحثيّةً يَتّضحُ لنا أنَّ تِلكَ الأوراقَ لم تَكنْ متقيّدة بالنظريّةِ كما تَصفُها المصادِرُ، وكما انتَهَتْ إليهِ على أَيديْ مؤسّسِيها، فَقدْ أخذتْ أوراقُ الملتقَى تَنهجُ طَريقةٍ جَمعتْ بين مَحاسنِ النظرِ في النصِّ الشفهيِّ وبينَ حالتيهِ المنطوقةِ والمكتوبةِ. معَ الالتفاتِ إلى خصوصيّةِ المنظورِ الثقافيِّ للشفهيّةِ والكتابيّةِ بوصفِها مَوروثًا ثقافيًّا. فقدْ كانتِ الروايةُ الشفهيّةُ أصلًا يَعتمدُ عليهِ الإبداعُ من قَبلِ عصرِ التدوينِ في الثقافةِ العربيّةِ. بل امتازتْ تلكَ الثقافةُ بأنَّ الشفهيّةَ تُعدُّ أحدَ مصادرِ المعرفةِ الأوليّةِ. فالشفهيّةُ في صُوَرِها المتعدِّدةُ ارتجالًا، وحكايةً، وروايةً، وحفظًا؛ كانتْ وسيلةً رئيسةً في حِفْظِ التراثِ العربيِّ، وتنوّعِ صِيغَهِ الجماليّةِ، وتخليدِ القيَمِ الأدبيّةِ فيهِ، فَضلًا عن حَملِ خَصائصِ العربيّةِ علَى امتدادِ قُرونٍ طَويلةٍ، وهذهِ إحْدَى وظائفِ النصِّ الجَماليِّ في اللغة العربيّةِ. وبذلكَ فالمدوَّنةُ التراثيّةُ العربيّةُ لهَا شِقَّانِ شَفهيٌّ وكتابيٌّ. ولا تَزالُ الشفهيّةُ رُكنًا في الثقافةِ العَربيّةِ. ولَن يَتخلَّى العربيُّ عَن ذاكِرتِه في الارتجَالِ والروايةِ المشافَهةِ.
وقدْ يَحسُنُ أنْ نُشيرَ إلى رَكيزةٍ في نَظريّة الشفاهيّةُ والكتابيّةُ وهي اشتمالُها على النظرِ في النصوصِ المقدَّسةِ في الثقَافاتِ الغربيّة، ولخصوصيّةِ هذا الجانبِ في الثقافةِ العربيّةِ فإنَّ هذه النظريّةَ أبعدُ ما تكونُ عن معالجةِ النصُوصِ الدينيّةِ في ثقافتِنا. لذلِكَ فَقدْ رَأيْنا شَطَحاتٍ عند بَعضِ المحسوبينَ على الفِكْرِ العربيِّ المنتمينَ إلى الثقافةِ العربيّةِ بوجهٍ أو بآخرَ، مِثلِ محمّد أركون حِينَ يَستدعِي هَذه النظريّةَ لقراءةَ النصوصِ الدينيّةِ في الثقافةِ العربيّةِ فأساءَ ولم يُحسنْ، ودَخل في غَيبوبَةِ التفكيرِ، وفَسادِ النظَر.
** **
- أ.د.ظافر العمريّ