سهام القحطاني
التأثير لعبة تسويق.
الكتابة خلود، لذا سعى الإنسان الأول إلى تخليد مخاوفه وتاريخه وعلومه من خلال الكتابة، وظل دوماً باحثاً عن وسائط تحتوي كتاباته تقاوم قوة الزمن وتحتفظ بتأثيره وهويته في ذاكرة التاريخ، بدءاً من الحجر وجدران الكهوف مروراً بالورق ثم التقنية التي وجد فيها مساحات غير متناهية من حفظ أفكاره وحروفه بكل الطرق.
ظلت الكتابة وستظل مهما تغيرت وسائطها وتطورت ذاكرة الشعوب والعصور لا تشيخ وشاهد عيان على تطورهما أو انحطاطهما، فلا أدب أو تاريخ أو علم دون كتابة.
وكل زمان له وسائطه الخاصة بالكتابة منذ إنسان الكهف حتى اليوم زمن إنسان الذكاء الاصطناعي.
وفي زمن التقنية بأنواعها ووسائطها المختلفة أصبحت الكتابة كمحتوى تأثيري سواء في صيغتها السطرية أو المحكيّة عند أطراف الجميع، وأصبحنا نقابل عبارة الجاحظ «المعاني مطروحة في الطريق» وإن كان الجاحظ رأى أن «الشأن هو معيار التقييم: فحتى هذا الشأن أصبح اليوم في المحتوى الرقمي لا قيمة له إلا بالترند؛ العلامة النقدية الممثلة لذلك الشأن.
وهذه الإتاحة المجانية بدأت في هدم الفكرة الشائعة «بنخبوية المحتوى التأثيري وصانعها»، وحوّلت النص في نسخته الرقمية عبر تلك المجانية الرقمية إلى سلعة شعبية وحق مكتسب للجميع دون قيد أو شرط.
يٌقصد بالمحتوى الرقمي؛ كل محتوى ناتج عن استخدام التقنية وبرمجياتها ووسائطها عبر جهاز الحاسوب سواء في علامات لغوية سطريّة أو صورة بصرية.
ولهذا المحتوى نوعان: المحتوى الرقمي المغلّق خارج مواكبة التفاعلية الحيّة وهو ما نسميه «رقمنّة كل منتج ثقافي أو معرفي من خلال وسائط التقنية وبرمجياتها».
وهنا نحن أمام اختلاف الوسيط الناقل لرسلة الموقف التواصلي أو التأثيري،وليس تجديداً لذات الرسالة، فخاصية التحول إلى الرقمي ليست الوسيلة إنما التزامنية والتفاعلية التي تحول النص الرقمي إلى نص حيّ بالمباشرة.
والنوع الثاني هو النوع المفتوح، وهو مقام الحديث هنا، وهو المحتوى الذي يستخدم كل المؤثرات السمعية والبصرية لصناعة الترفيهية الرقمية وقابل للتفاعل المباشر والحيّ والتزامنية المستمرة أو إمكانية حصول ذلك التفاعل والتزامن، والشراكة في توسيع تلك الترفيهية، أي تحول السطرية اللغوية إلى ترفيهية رقمية تترجم العلامات اللغوية إلى أسلوبية مسرحية من الضوء والصوت والحركة والتمثيل والتقليد.
ولحصد وجذب ذلك التفاعل ،كان لابد من إطار جديد لتلك الترفيهية الرقمية إطار يخلو من رزانة اللغة وجديّة المضمون وجماليات الأسلوب البلاغي، ويصنع لنفسه أسلوبية جديدة قائمة على إمكانيات الثورة الرقمية في إضافة الصوت والصورة والألوان والحركة، وأصبح مضمونه كل ما يُحكى بالشفهي يُنقل عبر الترفيهية الرقمية بعاميته وأخطائه اللغوية وشيوع أفكاره؛ وسبب ذلك أن تلك الترفيهية أتاحت للجميع الكتابة في صيغتها أو اللاسطريّة واقتحام المحجوب والمخصوص.
فأصبح كل من يملك حاسوباً يستطيع صناعة الرقمنّة الترفيهية والجميع في ذلك على قدم المساواة لا حواجز للسنّ أو العلم أو الثقافة أو الموهبة، فاختلط الحابل بالنابل في ميدان العالم الافتراضي وتساوت الرؤوس الفارغة مع الأجسام الراقصة.
والترفيهية الرقمية هي محتوى تأثيري تفاعلي مباشر بين صانعه والجمهور الافتراضي وهو ما يجعل هذا النص على قيّد حيّ على الدوام والانتشار من خلال استحداث «قيمة جديدة لمستوى التقييم والشهرة» وهي «الترنّد» الذي أصبح العلامة النقدية لقيمة تلك الترفيهية الرقمية.
إضافة إلى ذلك أن سيطرة الصورة والصوت على النص الرقمي جعلته في تماس مع واقع الجماهير الافتراضية، وحيناً مع واقعه المباشر، وبذلك أصبحت الصورة والصوت هي الأسلوبية الجديدة للنص الرقمي وهي أسلوبية تتناسب مع الجمهور الأساسي للوسائط الرقمية من الأطفال والمراهقين والشباب.
ومن عوامل جذب مئات الشباب إلى الترفيهية الرقمية وأسلوبيتها الجديدة؛ تحوله إلى سوق تجاري يقوم على الربحية، وهذه الربحية والتنافسية أصبحت تعتمد على «ترفيهيّة الصورة» وليس ثقافة المحتوى الفكري، الترفيهية في مضمونها الشكليّ.
هذا التنافس الذي صنع مافيا خفية خلف الترفيهية الرقمية وصنّاعه، لأهداف منها الواضح ومنها الخفي، لكنها تسعى إلى تغيير الأصول الثقافية للعقل الجمعي وزرع ثقافة مناهضة لأخلاقيات المجتمع وعقائده من خلال الترفيهية الرقمية التي تدعمها تلك المافيا الخفية من خلال سعيها إلى «تنجيم» كل مهرج يتقن لعبة الترفيهية الرقمية، وتحويل صنّاع المحتوى التهريجي والسخيف إلى «مؤثرين ومشاهير» أتباعهم بالملايين تُهرول إليهم شركات الإعلانات والداعمون لنجد أنفسنا أمام «أصنام رقمية» مصنوعة من الشوكولا وليس التمر.