أ.د. محمد خير محمود البقاعي
يحرص البروفسور عبد الله محمد الغذامي على ارتياد الآفاق القصية في مسيرته العلمية، ويبدو ذلك جليًا لمن يراقب الحركية المنهجية لمؤلفاته في تالي كتابه (إشكالات النقد الثقافي، أسئلة في النظرية والتطبيق/2023م، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - المغرب). ويأتي هذا الكتاب تاليا كتاب (المرأة واللغة / 1996 م)، وكتاب (النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية / 2000 م)، وما بينهما من إبحار في لجّة النقد الثقافي حتى صدور الكتاب موضوع الحديث اليوم، وموضعه. يبدو أن هذا المسار أفرز إشكالات كان لا بد من الوقوف عندها في الكتاب الأخير، وأول ما يطرحه عنوان الكتاب الجديد هو غموض كلمة إشكالات؛ هل هي في النظرية، أم في الممارسة، أم في التلقي، أم في ذلك كله؛ مما استدعى هذا الكتاب؟ ولعل ما يسترعي الانتباه أن التطبيق سبق النظرية في عملية الخروج من الانسداد المعرفي؛ فكان كتاب «المرأة واللغة» مغامرة في توسيع الأفق، ثم جاء بناء النظرية ومصطلحاتها في النقد الثقافي، فبرزت إشكالات استدعت هذا التدخل المنهجي بعد زمن ليس بالقليل (23 سنة). إن المتتبع لما كتبه الدكتور الغذامي منذ الدعوة لمؤتمر «أبوظبي» يلحظ قلقًا منهجيًا كان يخشى معه أن يتكرر الانسداد المعرفي مرة أخرى. ولعلي أتقمّص شخصية «عرّاف نجد» إن قلت: إن الدكتور -مد الله في عمره- لن يكون النقد الثقافي آخر محطاته، فهو دائم الغوص في مكامن اللؤلؤ في أغواره البعيدة. إذن، إن الإشكالية في ثلاثية( المرأة، والنقد الثقافي والإشكالات) تنصب على إمبراطورية ميم؛ المادة والمنهج والمصطلح، ولعل مصدر الإشكالات أن يأتي التطبيق سابقًا للتنظير، وإن كان هذا الأخير كامنًا في كتاب المرأة واللغة، ووجد المؤلف ضرورة بيانه في النقد الثقافي إلا أن مرور الزمن والمراجعات اقتضى ما نحن بصدده اليوم. وأقول قبل الدخول في آفاق الكتاب: إن ملامح النقد الثقافي الذي انتهى إليه الغذامي منثورة في كل مراحل إنتاجه، فهو ناقد ثقافي كان كامنًا في كتبه عن جماليات الشعر وإجراءات النقد الأدبي البنيوية والتشريحية والسيمولوجية، بل إن عنوان كتابه الأشهر (الخطيئة والتكفير) هو أدخل في النقد الثقافي منه في أي مجال آخر؛ وإن كانت الممارسة سبقت التسمية، فإن ذلك، كما يبدو، سمة من سمات التفكير لديه. ولو أردت الوقوف عند جملة ما في الكتاب من عمل مصطلحي وفكري جليل لاتسع الأمر على المساحالمرصودة؛ لذا سأقف عند أول المصطلحات التي أعادتني إلى عمل مصطلحي شغلني مدة من الزمن كان البحث خلالها مضنيًا، وجعلتني ذكرياته أعيش الهم الفكري والمصطلحي الذي يعيشه مرتاد الآفاق. أقف عند مصطلح «الجملة الثقافية» الذي استهواني لعشق قديم سأعرض له بعد القول: إن إشكال المصطلحات المشغولة بحمولة تاريخية عندما تطرح من جديد، تحتاج من صاحب المصطلح أن يتدخل لإزالة اللبس، وهذا ما فعله أستاذنا عندما قال في أول سطر من حديثه عنها: (تختلف الجملة الثقافية اختلافًا نوعيًا عن الجملة النحوية، وعن الجملة الأدبية بكل أنواع الجمل الأدبية، ولو وقفنا مثلًا على ألف جملة فحتمًا ستكون هذه الألف ألف جملة نحوية كما هو مقتضى مصطلح الجملة الدالة، وقد نجد مئة جملة أدبية أو ذات مستوى أدبي، بينما السؤال هنا عن الجملة الثقافية؛ وهل سنجد بين الألف أية جملة ثقافية….). ويتتابع الحديث عن هذا التمييز بين المصطلحين، وهو تمييز تبدو فيه محددات الجملة النحوية والجملة الأدبية التي توصف بأنها جمالية مرة وبلاغية، مرة أخرى، ولا ضير. فقولنا (مات الرجل) يضعنا أمام جملة نحوية، ولو قلنا (قضى فلان نحبه) لكانت جملة جمالية بلاغية، ومحددات الأولى نحوية خالصة؛ (فعل وفاعل يسميه النحويون سلبيًا)، وفي الثانية (نحوي مجازي نقله من معيارية النحو إلى فضاء المجاز)، وهذا موروث مستقر. أما معيارية الجملة الثقافية فقصر فهمي عن إدراكها لاختلاطها الذري بمعياري النحو والجمال، وقد بدا لي أنها تندرج في مفهوم (الشعرنة)؛ لاحتواء الجمل التي ساقها الأستاذ على قيمة ثقافية خلقية في (اذهبوا فأنتم الطلقاء). ومجازية جمالية في جملة الحارث بن عباد (قرِّبا مربط النعامة مني). وما أخشاه أن ترتبط الجملة الثقافية بالمعيار الأخلاقي سلبًا أو إيجابًا؛ لتنوع هذه المعايير، ولأن الثقافات تختلف في القيم الأخلاقية في جملها الثقافية. إذن، هي موصوفة وغير ذات مكونات بل هي باعتراف أستاذنا ( زئبقية وماهرة في التخفي تمامًا كفعل النسق المضمر؛ حيث يتماثل مع الفيروس في مهارات التخفي والمراوغة وتبديل الجلد والتحول المستمر).
وعندما استكملت قراءة وصف الجملة الثقافية تبادر إلى ذهني سؤال طرحه رولان بارت منذ السبعينيات من القرن الماضي تعامل فيه مع ما سماه نصوص اللذة؛ فهل الجملة الثقافية نصُّ «لذّةٍ « أم نصُّ «متعة» ؟ هل هي نصّ ٌمستقل منفرد كما هي الأمثلة التي ساقها أستاذنا منفردة؛ لأنها بحد ذاتها نصوص، وهل الفرق بين الجملة الثقافية والنحوية والبلاغية هو فرق في الدرجة؟ وإن كانت الجملة الثقافية نصًّا في ذاتها فتخفيها حينئذ غير ممكن، أم هي كينونة ثقافية (نص متعة) في نص لذة يمكن أن يمارس التخفي والتحول بين آلاف الجمل النحوية والبلاغية التي يتحين القارئ الفرصة ليتجاوزها ما دام لا يجد رقيبًا يحصي عليه ما يقرأ؟ إن مصطلح الجملة في كتابتنا العربية مشغول بمفهوم مستقر نحويًا في الدرجة الأولى، ونقله إلى مفهوم آخر يحتاج براعة كبراعة أستاذنا في التجريد والتحول، وقد حصل هذا الأمر في اعتماد ما سميته في ترجمتي لائحة التحليل السيميائي التي اقترحها إيكو لتحليل النصوص الأدبية، عندما سميتها «لائحة المضطلعين» وسمتها الترجمات العربية «لوحة الفواعل» مقابل مصطلح
Les actants، الذي ترجموه بالفواعل ومفردها «فاعل، وهو في العربية مصطلح مشغول ثقافيًا ولغويًا عبر قرون، ويحتاج إخراجه من عرف المتلقي إلى جهد كبير، وهو ما قامت به الدراسات اللغوية الغربية الحديثة لإخراج مصطلحActant من مضائق القواعد إلى رحابة السيميائية؟ فهل أستاذنا ببراعته وآفاقه البعيدة الغور قادر على إخراج مصطلح (جملة) من التقاليد النحوية والبلاغية إلى فضاء الثقافة والمرجعية الثقافية؟ ذلك هو رهان النقد الثقافي في هذا المصطلح، وفي مصطلحات أخرى كالنسق المضمر والشعرنة والمجاز الكلي والمؤلف المزدوج والتورية الثقافية والجملة الثقافية في مفهوم النقد الثقافي، وكلها تحتاج إلى مراجعات جادة، ولو وقف المراجعون عند كل منها لاستغرق الأمر كتابًا موازيًا يسير بالنظرية التي رافقت أستاذنا منذ سنوات، وهي أعمال كانت ترهص بالمجال الفسيح الذي نحن بصدده اليوم. بارك الله في عمر أستاذنا أبي غادة، وفي علمه وأهله وصحته. أكتب هذا من معتزل عجزي تحية واحتفالًا بصدور هذا الكتاب، راجيًا لمؤلفه رائد التفكير والتطوير الثقافي كما عرفناه دوام السداد والصحة. والله من وراء القصد.