عبد الله سليمان الطليان
«الأرشيف المهاجر» migrated archive، هو خبيئة ضخمة تضم وثائق تتعلق بالحقبة الاستعمارية البريطانية، محفوظٌ في أماكن سرية في أرجاء المملكة المتحدة طوال عقود، حيث يجهل المؤرخون وجوده وينكره الموظفون المدنيون. ففي «هانسلوب بارك Hanslope Park في الميدلاندز» Midlands؛ وهي منشأة بحثية سرية تابعة للحكومة، كشفت نحو 1.2 مليون وثيقة تفاصيل نظام (خط الأنابيب) pipeline system الكيني الذي يقارنه المؤرخون بمعسكرات الاعتقال النازية. إذ كابد آلاف الرجال والنساء، بل الأطفال، الجلد والاغتصاب خلال عمليات الفرز والاستجواب. وقد تضمنت أساليب التعذيب الشائعة التجويع والصعق بالكهرباء والتشويه والاغتصاب وامتدت إلى جلد وحرق المعتقلين حتى الموت. واحتوت الملفات أيضاً على تفاصيل عن النشاطات الاستعمارية فيما لا يقل عن سبع وثلاثين دولة أخرى.
احتوى الأرشيف المهاجر أيضاً على دليل يؤكد أنه مجرد جزء صغير من تاريخ دفين أكبر بكثير، دمر في الأغلب، فإلى جانب الملفات المتبقية - التي لا يزال أغلبها لم يفرج عنه بعد ثمة آلاف من (شهادات الإتلاف) destruction certificates وهي سجلات غياب تشهد على برنامج شامل للتعتيم والمحو، فخلال سنوات احتضار الإمبراطورية البريطانية، صدرت تعليمات لمديري المستعمرات بجمع وتأمين جميع السجلات قدر الإمكان، ثم حرقها أو شحنها إلى لندن. وقد عرفت هذه العملية باسم «العملية ليغاسي» Operation Legacy، وكان الهدف منها ضمان تبييض التاريخ الاستعماري. وهكذا بادرت المكاتب الحكومية بمساعدة الاستخبارات العسكرية والقوات المسلحة الملكية البريطانية إلى بناء محارق، وحين أصبح الدخان شديد الوضوح بادرت إلى حشو تلك الوثائق داخل صناديق ثقيلة ثم إغراقها قبالة الشاطئ، وذلك بقصد الحيلولة دون وصول ما بها من أسرار إلى حكومات الدول المستقلة حديثاً، أو إلى المؤرخين في المستقبل.
لكن استمرار بقاء أدلة التجريم عدة عقود لا يعني أنها صارت بمأمن، فحتى العام 1993 كانت مجموعة تتألف من 170 صندوقاً من الوثائق التي طارت إلى بريطانيا كجزء من العملية ليغاسي لا تزال مخزونة في لندن، حيث صنفت على أنها سجلات (استقلال فائقة السرية من العام 1953 إلى العام 1963) ووفقاً للسجلات المتبقية فقد احتلت هذه الوثائق مساحة بلغت تسعةً وسبعين قدماً في القاعة الرقم (52A) داخل مبنى قوس الأميرالية Admiralty Arch، وضمت ملفات عن كينيا وسنغافورة ومالايا وفلسطين وأوغندا ومالطا وخمس عشرة مستعمرة أخرى. وتشير قائمة جرد نجا جزء منها إلى أن الملفات الكينية كانت تحتوي على وثائق عن إذلال المساجين وعن الحرب النفسية. وحملت إحدى الدفعات المعنونة باسم:( الموقف في كينيا: توظيف المكتب الاستعماري أطباء سحرة) تحذيراً يقول:( لا يتعامل مع هذا الملف أو يتسلمه إلا موظف إكليركي clerical ذكر). وفي العام 1992 أصدرت وزارة الخارجية أمراً بشحن آلاف الوثائق إلى «هانسلوب بارك». لقد دمرت الوثائق الوحيدة المتبقية في قلب العاصمة البريطانية. كانت الوحشية في كينيا: تذكيراً مؤلماً بالظروف التي كانت موجودة في ألمانيا النازية أو روسيا الشيوعية»، كما كتب المدعي العام بالمستعمرة للحاكم البريطاني في العام 1957، وعلى رغم ذلك، وافق على وضع تشريع جديد يبيح هذه الوحشية مادامت طي الكتمان. وأكد: (إن كان علينا أن نرتكب ذنوباً فينبغي أن نرتكبها في هدوء) كانت العملية ليغاسي محاولة مقصودة وواعية للتستر على العنف والعنت اللذين أفسحا مجالاً لهيمنة الإمبريالية، ويقف تلاعبها بالتاريخ حائلاً بيننا وبين الالتفات إلى إرث الإمبراطورية البريطانية المتعلق بالعنصرية والقوة الخفية واللامساواة اليوم. إضافة إلى ذلك، يسمح التعود على الكتمان الذي أدت إليه العملية باستمرار مساوئها حتى اليوم؛ ذلك أن أساليب التعذيب التي كانت متبعة في مستعمرة كينيا اختزلت إلى (أساليب التعذيب الخمسة) the five techniques التي استخدمها الجيش البريطاني في أيرلندا الشمالية، ثم إلى إرشادات الاستخبارات المركزية الأمريكية من أجل (الاستجواب المحسن) enhanced interrogation. وكان أرشيف الشرطة في مدينة كاريكفيرغس Carrickfergus الذي يضم دليلاً حيوياً على تصرفات الدولة البريطانية في أيرلندا الشمالية، قد تعرض للتدمير في العام 1990 من خلال حريق متعمد, بعد هذا كله هذه حقيقة البد الذي يدعي القيم المتحضرة وسجله الاستعماري المخزي.