يقوم الأدب بشتى فنونه وأجناسه بدور كبير وفاعل في المجتمع، فهو وسيلة من وسائل نشر الوعي الفكري داخل المجتمع، وله دور كبير في رفع وعي الناس وتوسيع مداركهم ومجالات أفكارهم، إِنْ شعرًا أو نثرًا أو خطابةً أو مَثَلًا أو حكمة أو حكايات أو غيرها.. ولطالما لجأ الحكماء والمفكرون للأدب في محاولة حلحلة قضايا المجتمع وتعقيداته، وعندها نرى الأدب يقوم بدور فعّال في نشر الوعي واتساع الإدراك وتهدئة النفوس وتقويم الضعف وتقويته واحتواء النفس البشرية بعواطفها وأحاسيسها وتسليتها.
ومن تلك التعقيدات والظروف الحياتية التي تطرأ على أفراد المجتمع: المشاكل أو المعضلات أو الضغوط الحياتية المختلفة، أو فقد عزيز أو قريب، فتظهر لنا عندئذٍ حاجتنا للأدب في معالجة وتخفيف آثار هذه المواقف المؤلمة الحزينة، وهو ما يُسمى: فن المواساة بالأدب.
لعب الأدب دورًا كبيرًا في فن المواساة، فبخلاف ما جاء به الذكر الحكيم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، تتجه الحاجة للأدب في المواساة والتعزية والتسلية، فظهرت لنا على مدى فترات العصور الأدبية الكثير من هذه المواساة الأدبية أو المواساة بالأدب، شعرًا ونثرًا، منذ عصر الجاهلية وحتى يومنا هذا.
ومن مختارات المواساة بالأدب وهي في الوقت ذاته من أشهر أشعار أدب المواساة، أبيات للإمام الشافعي يقول فيها:
دعِ الأيامَ تفعلُ ما تشاءُ
وَطِبْ نفسًا إذا حَكَمَ القضاءُ
ولا تجزعْ لحادِثَةِ الليالي
فما لحوادِثِ الدُّنيا بقاءُ
فهذه الأبيات تدعو للرضا بالقضاء والقدر وعدم الجزع، وهي أبيات تدعو للتسليم بالأقدار في هذه الدنيا التي ليس لها بقاء.
ومن القصص الشهيرة في المواساة الأدبية، عندما واسى بهاء الدين زهير المهلبي - وهو شاعر من العصر الأيوبي - أحد أصدقائه، وكانت قد غرقت سفينته وخسر كل ما فيها، ونجا هو من الغرق، فواساه البهاء زهير بقوله:
لا تَعْتِبِ الدهرَ في خَطْبٍ رماكَ بِهِ
إن استردَّ.. فَقِدْمًا طالَ مَا وَهَبَا
حاسِبْ زمانكَ في حَالَي تَصَرُّفِهِ
تجدهُ أعطاكَ أَضعافَ الذي سَلَبَا
واللهُ قد جعلَ الأيامَ دائرةً
فلا تَرَى راحةً تبقى ولا تَعَبَا
ورأسُ مالِكَ وهيَ الروحُ قد سَلِمَتْ
لا تأسَفَنَّ لشيءٍ بعدَهَا ذَهَبَا
ما كُنتُ أولَ مَمْنُوٍّ بِحَادِثَةٍ
كَذَا مَضَى الدَّهرُ لا بِدْعًا ولا عَجَبَا
وَرُبَّ مالٍ نَمَا مِن بَعدِ مَرْزِأَةٍ
أما ترى الشَّمْعَ بَعْدَ القَطِّ مُلْتَهِبَا
(القَطّ: القطع، أراد قطع الفتيلة).
وقال عبد الخالق الحفظي مواسيًا:
لا تبتئس يا صاح ما من كربةٍ
إلَّا ويكشفُهَا الإلهُ فتنجلي
ثِق بالحليمِ تهونُ كلُّ بليَّةٍ
فهو الذي يجلو البلاءَ ويبتلي
فالشاعر هنا يواسي من خلال استشراف التفاؤل، وكفى بالإنسان يقينًا وتفاؤلًا أن يكون مصدر تفاؤله هو الله سبحانه وتعالى.
وأما عن الرقة في المواساة فوجدت أثناء بحثي قبل سنوات في مرحلة الماجستير أبياتًا لشاعر المهجر إيليا أبي ماضي، يقول فيها مواسيًا صاحبًا له بكل رقة:
ويبكي صاحبي فأَخَالُ أنِي
أنا الجاني وإن لم يتَّهمني
فأمسحُ أدمُعًا في مُقلتيهِ
وإن حَكَتِ اللهيبَ وإن كَوَتنِي
لأنِّي كُلَّما رَفَّهْتُ عَنهُ
طَرِبتُ كَأَنَّنِي رَفَّهْتُ عَنِّي..!
ومن أروع أبيات المواساة قول الشاعر ماجد عبد الله:
وإن ضاقتْ بِكَ الأيامُ صبرًا
ستُولدُ بَعْدَ صبركَ ألفُ بُشرى
وتنهلُ من سرورٍ العُمرٍ حتى
كأنَّكَ لم تذُقْ بالأمسِ مُرَّا
ومن المواساة النثرية وصية لجبران خليل جبران يقول فيها:
«صدّقني..
لو فقدت ما فقدت..
لو كسّر الحرمان أضلاعك..
ستجتاز هذه الحياة كما يجتازها كل أحد..
فاختر الرضا.. يهُن عليك العبور».
ونختم موضوع الأدب وفن المواساة، بهذه المواساة الأدبية العجيبة، التي تجمع النثر والشعر: وهي أنه مات ابنٌ لسليمان بن علي العباسي فجزع عليه جزعًا شديدًا، وأمسك عن الطعام والشراب والكلام، فقال كاتبه للحاجب: ائذن للناس، وَقَعَدَ على طريقهم، فجعل يقول: عزُّوا الأمير وسلّوه، فكلٌ تكلَّم، فلم يُصغِ إلى أحد، إلى أن دخل عليه يحيى بن منصور فقال له: أصلح الله الأمير، عليكم نزل كتاب الله، وأنتم أعرف الناس بتأويله، وفيكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم أعلم الناس بسنّته، ولستَ مِمَّن يُعلَّمُ من جهل، ولا يُقَوَّمُ من عِوَج، ولكني أعزيك ببيت من الشعر. قال سليمان: هاته. قال:
وَهَوَّنَ ما أَلقَى مِنَ الوَجْدِ أَنَّنِي
أُسَاكِنُهُ في دَارِهِ اليومَ أو غَدَا...
فقال: يا غلام، الغداء.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد