بداية سنفترض أن الذاكرة مكان، وأن الماضي أحداث، بعض الأماكن (الذواكر) ممتلئة بالماضي، وشيء من الماضي قد يكون بلا مكان، قد تضج الذاكرة بصور ذلك الماضي فيعييها حمله وتحمله والاحتفاظ به، فتلجأ إلى الحذف لكون ذلك الماضي مؤلما أوموحشا أوغير جدير بالذكر والتذكر.
وقد تكون تلك الذاكرة مثقوبة بفعل آفة النسيان التي يراها بعضهم نعمة لكونها تقتل ذلك الماضي وتمحو أثره وتأثيراته، فتصبح تلك الذاكرة تعمل شكلا ولكن بلا جدوى، مما يجعلها غير قادرة على أرشفة ذلك الماضي التليد واستدعائه متى ما طلب منها أن يحضر أو يستحضر.
نقول في لغتنا المحكية؛ (اللي ماله ماضي ماله حاضر) في إشارة ومفهوم يعكسان سلطة الماضي واستعماره للذاكرة ليكون مادتها الأولية ومنتجها الرئيس، ليس للفرد فحسب،ولكن لذاكرة مجتمعية تسترجع الماضي في مناسبة محددة وقد تعيش فيه لتلوذ بنفسها عن الواقع الذي قد يكون أقل من ذلك الماضي في شؤونه وشجونه، وهنا تصبح الذاكرة محبوسة في الماضي ويصبح الماضي سجانا لتلك الذاكرة.
يقول أحد المهتمين بالسياسة عندما كان يستعرض تأثير أمريكا على العالم يقول: «أمريكا جغرافيا بلا تاريخ»، وبمفهومنا هنا، مكان بلا تاريخ، ذاكرة بلا ماض بعيد ،وماض بلا ذاكرة تتكئ عليه، وهنا نحن أمام حالة غريبة لحاضر قوي بلا ماض، وذاكرة بدأت تتشكل من جديد لا لتتذكر، ولكن لتبدأ في البحث عن ذاتها وعن مخزون يبقيها حاضرة في مخيال أهلها لتقول ما يجب عليها قوله للإنسان الأخير في حاضره ومستقبله.
وعلى مستوى الفرد البسيط، تبقى الذاكرة مخزونا أصيلا لا يستغني عنه الإنسان في تشكيل وترميز القادم من مراحل وعيه ونضجه، مستخدمة ذلك الماضي التليد ليعود ومن خلالها في شكل دروس وعبر، فتقول تلك الذاكرة عندما يعود الماضي في صورة مأساوية جديدة؛ التاريخ يعيد نفسه، وعندما نستحضر فرادة شخص، تعيده تلك الذاكرة لماضيه الأقرب؛ والده،لتقول:- (هذا الشبل من ذاك الأسد)، وقد تحضر في ذات المقام لتقول قولا آخر بنفس المعنى؛ (من شابه أباه فما ظلم))!.
وعلى الصعيد الإنساني اليومي والبسيط جدًا، قد يعود الماضي مجسدًا في رائحة عطر أو رنة وتر أو منظر طبيعي لمكان كان ثم أصبح. إنها الذاكرة وما تختزنه من ذكريات كثيرة وما تختزله من صور عتيقة لا تلبث أن يحييها كل ما ذكر أعلاه. وقد يحييها ذكرى حبيب فقدناه أو ذكر صديق عشنا معه أزمانا، أوظرف دراسي كنا نود أن تطويه الأيام، والغريب أن الذاكرة عندما تفتش في قديمها فإن أول ما تجده هو تلك الأيام!.
مجنونة هذه الذاكرة عندما تعيد لنا تلك الأشياء، مغلفة بذلك الحنين الذي يجعلك تقول بعد زفرة من أعماق صدرك؛ ياهي كانت أيام….. وتلك الأيام!.
** **
- علي المطوع
@alaseery2