سراب الصبيح
(أنس آكشن)
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، الروم: 7.
في محاولة ماتعة للتنقيب عن خصيصة الخلود الأبدي في الدنيا، في جانبيها النفسي والتجريبي، استعرض الكاتب أنس الشهري قراءة تاريخية لمحاولات البشر للظفر بهذا المرام، حصرها في أربعة حقب زمانية: الفراعنة، قوم عاد، ملحمة كلكامش، عصرنا الحديث؛ وفي هذا المقال سأقدم مناقشة لهذه الفكرة التي عرض إليها الكاتب: الخلود.
فأقول بداية: إن الله وهب الإنسان الخلود حقاً، فلا أدري علامَ سعيه الحثيث لأمر قد وهبه الله إياه! بيد أني أشير إلى أن هذه الهبة لا تبدأ في الحياة الآخرة؛ ذلك أن الآخرة هي امتداد للدنيا، ويتذكر الإنسان بها حياته الدنيوية كما ذكر القرآن ذلك، فالخلود الأخروي مرتبط بالدنيوي، أما سعي الذين عرض لهم الكاتب كان سعياً للخلود في الدنيا؛ لأجل ذلك استهللت المقال بالآية أعلاه.
ولتوضيح الفكرة أكثر أقول: إن مثل الموت كمثل النوم في استقطاع الوقت، فهؤلاء الساعون إلى الخلود لم يسعوا إلى مقاومة النوم كسعيهم إلى مقاومة الموت، فالنوم هو وقت يُستقطع من حياة الإنسان ثم يستأنف حياته حين استيقاظه، والموت هو وقت يُستقطع من حياة الإنسان ثم يستأنف حياته حين استيقاظه بعد نفخة إسرافيل - عليه السلام -، وهنا يستأنفها بخلود لا نوم بعده ولا موت. فالمماثلة بين النوم والموت هي استقطاع الوقت ومن ثم استئناف الخلود.
وسأتدرج إلى فكرة أشد تعقيداً في الفرق بينهما، فإن الله له صفاته العليا لا شريك له فيها، ولكنه حين خلق الإنسان أودعه شيئاً من هذه الصفات على مقدار حجمه، فكل صفة من صفات الله هي معرفة بأل التعريف، وفي الناس تكون نكرة، فعلى سبيل المثال الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحيم بأمته، لكن الله هو «الرحيم» وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «قوي»، لكن الله هو «القوي»، ولقمان «حكيم» لكن الله هو «الحكيم»؛ فهذه الصفات في الناس تكون مجزوءة، لكنها في الله كاملة وتامة به. أقول هذا الكلام لأقول إن «الخلود» من صفات الله التامة به اللائقة بجلاله، ولما وهب الله الإنسان «الخلود» في الآخرة، على غرار هبته إياه الصفات أعلاه، كان لا بد من مروره بفترة وقتية يستقطع بها تمام الخلود؛ وهو الموت، ثم يستأنف خلوده بعد بعثه؛ أقول يستأنف لأنه حياته في الآخرة هي امتداد للدنيا كما ذكرت آنفاً.
وكما أني قلت في طليعة المقال إن الكاتب أنس الشهري عرض خصيصة الخلود في جانبيها النفسي والتجريبي، فإني أناقش الآن ما ذكره، فأول الحقب في الترتيب الزماني لها هي إما حقبة قوم عاد، أو كلكامش، (لا أدري تاريخياً أيهما أسبق) ثم تليهما الفراعنة. وسأذكر الفرق بين كلكامش والفراعنة والعصر الحديث؛ وهو أن الأول سعى للخلود الروحي داخل الجسد، فعشبة الحياة التي استمات للظفر بها دون جدوى، أراد أن يأكلها لتحقق له الحياة التي يكون عليها أي إنسان حي، حياة الروح داخل الجسد، وهي وإن كانت أسطورة قد لا تمثل شخصاً حقيقياً، لكن مما لا ريب فيه أنها عكست الوعي الحياتي للناس في ذلك الزمان: أهمية حياة الروح لا الجسد فحسب، وهذا الوعي انعكس على كاتب هذه الملحمة: ملحمة كلكامش.
أما الفراعنة ومحاولات تجارب العصر الحديث، فإنها لم تشد قبضتها على الروح، وكانت محاولاتها في تخليد الجسد، فالفريق الأول حنط، والفريق الثاني كانت له تجارب في تجميد الإنسان بالأنابيب، على طريقة - وإن اختلفت تقنياتها قليلاً - شبيهة بالتحنيط.
وإذْ قلنا إن كلكامش سابق عليهما، فهذا يعني أن وعي الإنسان بدأ بالتحول نحو حقيقة الخلود، من الاكتراث للخلود الروحي، إلى الاكتراث للخلود المادي المتمثل في الجسد. ولا أقول هنا إن محطة التحول كانت في حقبة الفراعنة؛ ذلك أنها قد تكون أقدم ما وصلنا في هذا الشأن، لكن لا ريب أن هناك مراحل زمانية لم يصلنا عنها شيء مر بها هذا التحول من عصر كاتب ملحمة كلكامش حتى عصر الفراعنة، والممتد حتى عصرنا هذا، تحول من حياة الروح إلى حياة الجسد.
هذا على صعيد الجانب التجريبي، أما الجانب النفسي فيعرض الكاتب قصص هذه الأقوام مع أنبيائهم، مسلطاً الضوء على الأسباب النفسية التي تدفعهم للتشبث بالخلود؛ ذلك أنهم لم يستجيبوا للرسالة مما أبقاهم على إنكارهم إكمال الحياة في الآخرة؛ وهذا ما دفعهم إلى الحرص على الحياة ليتشبعوا من التنعم بلذتها، فما الوسائل التجريبية للخلود إلا استجابة للدوافع النفسية التي تشكلت من المعتقد الذهني، فمتى آمن الإنسان باستئناف حياته بعد استقطاع وقت يسير في الموت، علم أن الموت كالنوم كل منهما يؤدي وظيفته في حياة الإنسان التي بدأت من قبل ميلاده، في عالم الذر أو في أي وقت يعلمه الله ونجهله، وصولاً إلى خلوده إما في الجنة أو في النار.
أحيي أنساً على هذا الجهد الطيب الذي بذله في الكتاب، وعلى شجاعته على البحث في فكرة لافتة وجديدة على البحث في آن؛ فيندر بها المصادر ويصعب بها إجابة التساؤلات البحثية، وأيضاً على إخلاصه قدر المستطاع لمناقشة الفكرة.
أختم هذا المقال بعبارة كتبتها قبل وقت من الزمان: كل الذين وضعوا مصطلح الموت وضعوه قبل أن يبلغوه، من يدري مِنّا إذا كان حياة؟!.