** ** **
محمد الرميحي.. ومسيرة التنوير الثقافي
مازالت رائحة حبر صفحات مجلة العربي عالقةً في ذهني، فهي النافذة الثقافية التي وَعيتُ وأعدادها تشغل مساحات واسعة من أرفف مكتبة سيدي الوالد الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل -حفظه الله- الذي كان يحتفظ بأغلب أعدادها، فكنت كلما فرغت من قراءة كتابٍ من كتب مكتبته العامرة التي تربو على ستة آلاف كتاب اتجهت إلى عددٍ من أعداد المجلة التي كنت أُُرَوّح عن نفسي بها بعد قراءة أمهات الكتب، التي أنفق عليها الوقت والجهد، فلا أنفك عن مناقشة والدي عمَّا يرد فيها من أخبار وموضوعات متنوعة تتصل بالتاريخ والأدب واللغة، وكانت لي طريقة خاصة في القراءة، ربما تختلف عمَّا اعتاد عليه محبو الكتب، فكلما أشكل عليّ فهم بيت شعري، أو استيعاب نصٍّ نثري، دونت تعليقي عليه في ورقة خارجية حفاظًا على الكتاب واحترامًا لمقامه وتقيدًا بتعليمات والدي بعدم العبث بصفحات أي كتاب أدرسه، وكنت أراجع والدي وأناقشه في هذه التعليقات فأستفيد من علمه ورؤيته حيالها، وأدون تعليقه عليها.
عندما أتصفح صفحات مجلة العربي -آنذاك- لأطلع على محتواها الثقافي كنت أستغرب من جرأة الطرح فيها! ومن تطرقها لبعض الموضوعات التي لم نعتد على قراءتها في المجلات المحلية -آنذاك- وكنت أدون تعليقاتي على بعض ما يرد فيها؛ يدفعني لذلك عشقي للصحافة وتعلقي بها منذ صغري، فكان هذا السلوك الثقافي للمجلة يثير تساؤلاً عميقًا لدي وهو في آلية الموازنة بين الإثارة والثقافة وموقعهما من العمل الإعلامي؟ فمرت الأيام والسنون حتى تعرفّت على الأستاذ الدكتور: محمد بن غانم الرميحي، الذي كان يرأس تحرير هذه المجلة العريقة التي برزت مهمتها الفعّالة في صياغة كوامن الفكر، وإيقاظ السؤال الثقافي الذي اعتدنا على أن يكون زمامه مناطًا بالمجلات الثقافية في مصر ولبنان.
لقد استطاع محمد الرميحي أن يبني حالةً ثقافية خاصة، ليس في دولة الكويت الشقيقة وحدها التي تربطها بالمملكة روابط اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وعرقية، بل في عموم دول الخليج العربي، التي تعيش حالة فكرية متقاربة، وهذه المجتمعات الواعية جديرة بمن يُغذيها، ويشبع نهمها نحو الثقافة؛ ليُمَثِّل الرميحي ظاهرة ثقافية عامة في الكويت، وحالة فكرية منفردة على الصعيد العربي.
لقد كان أحد أبرز أسباب نجاح الرميحي في الجانبين الثقافي والاجتماعي قاعدته الأكاديمية العلمية، التي أكسبت إدارته الثقافية والإعلامية بُعدًا إيجابيًا، فهو أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الكويت، فكانت محطته الأبرز عمله أمينًا عامًا لمجلس الشؤون الثقافية في الكويت، ولا تخفى أهمية الجانب العلمي في العمل الإعلامي وتـأثيره المباشر على ما يطرح في هذه الباحة المتغيرة.
قبل سنوات ومضَ في ذهني سؤال حول تصور قيادات العمل الثقافي لمفهوم (الثقافة)، وكنت قد رصدت تباينًا جزئيًا في النظرة لهذا المفهوم بين قيادات الإعلام الثقافي وأساطينه؛ حيث يرى بعض الأدباء أن الثقافة أكثر اتصالاً بالأدب منها إلى الشؤون الأخرى، وهذه كانت رؤية الدكتور: غازي القصيبي -رحمه الله- عندما سألته عن هذا المفهوم، بينما يرى الرميحي أنها قاطرة التنمية، وأنه لا يمكن أن توجد خطة تنموية في أي بلد من البلدان إلا وبجانبها خطة ثقافية، ومن خلال إجابته على تساؤلي أدركت أنه يفهم الثقافة بمعناها الواسع لتكون قرينة الوعي! وحديثه عن الثقافة فسّر لي أيضًا الآلية التي كان يدير بها مجلة العربي؛ مما كشف لي سبب نجاح هذه المنظومة الفكرية وتسنّمها للثقافة في الكويت، وقدرتها على التأثير في العالم العربي، فكانت ومازالت منارة ثقافية مضيئة.
نحتفي في هذا العدد من الجزيرة الثقافية بشخصية الأستاذ الدكتور: محمد بن غانم الرميحي، لنرصد شيئًا من إنجازاته الفكرية والثقافية، وهذا جزء من مسؤولية الإعلام الثقافي، وقد بذل زملائي جهدًا مباركًا في الإعداد لهذا الملف، وأخص منهم زميلي وأخي أ.علي القحطاني، وفي هذا المقام أشكر أستاذنا وربان سفينتنا أ.خالد المالك، فهو الداعم والمشجع، لكل إنجاز ثقافي تقوم به الثقافية.
** ** **
مداخلات لغوية
من أمثلة التأدب في اللغة وقواعدها
من أوضح أمثلة هذا الأمر تقريرهم أن أسماء الله وصفاته لا تصغر، فأنكروا قول من قال (مُهَيْمِن) مصغر؛ إذ «لما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَبًا هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه: أنِ اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله تعالى لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم، شَرْعًا»(1).
ومن ذلك تفضيلهم (يعلم، والعالم) على (يعقل والعاقل)، قال السهيلي «وكذلك قولهم (سبحان ما يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)، لأنَّ الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، فالمسبَّح به لا محالة أعظم، واستحقاقه للتسبيح من حيثُ سبّحته العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم. ولا نقول: (يعقل) في هذا الموضع، تأدبًا وتأسِّيًا بالشريعة»(2). وقال الأُشموني «(الَّذِي) للمفرد المذكر، عاقلًا كان أو غيره»(3)، فعلق الصبان «قوله: (عاقلًا كان) الأولى (عالِمًا) لإطلاقه عليه تعالى بخلاف العاقل»(4).
ويتحرج السهيلي من إطلاق لفظ النعت، قال «وأما صفات الباري سبحانه فلا نرى أن نسميها نعوتًا، تحرُّجًا من إطلاق هذا اللفظ، لعدم وجوده في الكتاب والسنة. وقد وجدنا لفظ الصفة في الصحيح، حتى قال عليه السلام للرجل الذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة: لم تفعل؟ فقال: أحبها لأنها صفة الرحمن»(5).
ومن ذلك تسمية فعل الدعاء، قال ابن هشام «فعلُ الأمرِ إذا كانَ مِن العبد إلى الله تعالى؛ سُمِّيَ فعلَ دعاءٍ؛ تأدُّبًا مع اللهِ؛ إذ لا يَتوجَّهُ الأمرُ مِنَ العبدِ إلى خالقِه عز وجل»(6).
والمبني للمفعول يحذف له الفاعل ومن علل الحذف تجنب اجتماع الفاعل والمفعول، قال الزركشي «وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا} فَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ وَأَضَافُوا إِرَادَةَ الرَّشَدِ إِلَيْهِ» (7).
ومن ذلك أنهم يعبرون عند الإعراب بقولهم (لفظ الجلالة)، قال أبو حيان عن إعراب (نشدتك اللهَ): «ولفظ الجلالة منصوب على إسقاط الخافض، ولذلك يجوز التصريح بالخافض تقول: نشدتك بالله أي سألتك بالله، وليس منصوبًا على المفعول»(8). وقال ابن هشام «وَمثله {لَكِن هُوَ الله رَبِّي} إِذْ الأَصْل لَكِن أَنا هُوَ الله رَبِّي، فَفِيهَا أَيْضا ثَلَاثَة مبتدآت إِذا لم يقدر هُوَ ضميرًا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَفظ الْجَلالَة بدل مِنْهُ أَو عطف بَيَان عَلَيْهِ»(9). قال ناظر الجيش «تعميرَكَ اللهَ، انتصب (تعميرَكَ) ولفظَ الجلالة على أنهما مفعولان، أي: سألت اللهَ تعميرَك، وقيل: (تعميرك) منصوب بـ(أسألك) ولفظ الجلالة منصوب بالمصدر وهو (عمر) بمعنى: تعمير»(10). وقال الأُشموني «فالحاصل أن الحرف [حرف النداء] يلزم في سبعة مواضع: المندوب، والمستغاث، والمتعجب منه، والمنادى البعيد، والمضمر، ولفظ الجلالة، واسم الجنس غير المعين»(11).
ويدخل في ذلك تفسير استعمال الفعل مسندًا إلى واحد وهو يقتضي فاعلين، قال القرطبي «و(قول جابر رضي الله عنه: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام). كذا صحَّت الرواية: (حرَّم) مُسندًا إلى ضمير الواحد. وكان أصله: حَرَّما؛ لأنه تقدَّم اثنان، لكن تأدَّب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لأن هذا من نوع ما ردَّه على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: (بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص اللهَ ورسولَه)»(12).
يعود ضمير الغَيبة إلى لفظ مصرّح به، وقد يستغنى عن اللفظ بحضور ما يدل عليه، ومثّل ابن مالك لذلك بقوله تعالى {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}. قال أبو حيّان «وليس كما مثل به؛ لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما، فالضمير في (قال) عائد على (يوسف)، والضمير في (هي) عائد على قوله {بِأَهْلِكَ سُوَءًا}، ولما كنّتْ عن نفسها بقوله {بِأَهْلِكَ} ولم تقل (بي)، كنّى هو عنها بضمير الغَيبة في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي}، ولم يخاطبها بقوله (أنت راودتني)، ولا أشار إليها بقوله (هذه راودتنى). وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء من الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء، فأبرز الاسم في صورة الضمير الغائب تأدبًا مع الملك وحياءً منه»(13).
ومن ذلك تفسير الشرط في قول معلوم تحققه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. قال الثعلبي «وقال ابن كيسان: قوله {لَتَدْخُلُنَّ} من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله تعالى، عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه قال ذلك، ولهذا استثنى تأدّبًا بأدب الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(14).
العربية لغة علم وأدب.
______________
(1) الدر المصون للسمين الحلبي،4/ 288.
(2) نتائج الفكر للسهيلي، ص 183.
(3) شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 1/ 127.
(4) حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 1/ 214.
(5) نتائج الفكر في النحو للسهيلي، ص: 205.
(6) قواعد الإعراب ونزهة الطلاب لابن هشام، ص50.
(7) البرهان في علوم القرآن للزركشي، 4/ 61.
(8) ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 4/ 1794.
(9) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام، ص: 497.
(10) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش، 6/ 3078.
(11)شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 3/ 20-21.
(12) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 4/ 461.
(13) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 2/ 253.
** ** **
من فوائت المعاجم: الشلفاء بمعنى السكّين
الشلفاء السكين الصغيرة كالخنجر. معروفة في بلاد المنبع اللغوي اليوم، ممدودة، وتقصر فيقال: الشلفَى، ولم ترد في المعاجم، لا ممدودة ولا مقصورة، وجذر شلف فقير جداً، فيه نصف سطر في العباب، وهو مهمل في العين والجمهرة والبارع والتهذيب والصحاح والمقاييس والمحكم واللسان.
وفي خاطريات ابن جنّي نصّ عزيز جاء في حديثه عن أسماء السّكّين قال: «الشلفاء: فعلاء، من شَلَفه بالقَرْط إذا أبحر فيه وبَضَعَ جِلده وتلك حال السّكين في بَضْعِها وأثرها» (الخاطريات ص 49 رسالة ماجستير، تحقيق د. سعيد القرني، جامعة أم القرى عام 1417هـ) وذكر مع الشلفاء المدية والخَيْفة والرَّميض والصَّلت والفالية.
وفي تكملة المعاجم للمستشرق دوزي: «شَلْفَة: نوع من الرماح، وقد وصفها بيرتون (2: 106).
وقال أحد الباحثين في مجلة لغة العرب العراقية (هو عبداللطيف ثنيان): «الشلفة حديدة عريضة محددة تكون في موضع السنان، وهي من الآرمية (شلفا) بمعناها، ويراد بها أيضًا الحربة والنصل والسكين والمدية وكل شفرة بلا مقبض. بل والشفرة نفسها. أو من (شلفتا) وهي الشفرة التي لها حدّان».
ووجدت في المعاجم: الشلقاء، بالقاف، ذكرها الأزهري، قال: «الشِّلْقَاءُ: السِّكِّين بوَزْن الحِرباء»، وذكرها الصغاني وابن منظور والفيروزي والزبيدي في مادة شلق، ومعاجمنا كالقطار، يتبع بعضها بعضاً، فأخشى أن تكون تصحيفًا للشلفاء، فإني وجدت المعاجم تذكر الشلاّفة بالفاء، والشلّاقة بالقاف، وهي المرأة الزانية، وأحسب أن إحداهما تصحيفٌ. فإن كانت الشلقاء بالقاف لغة فهي من باب الزحلوفة والزحلوقة، وتؤيّدها من جهة التحليل الجذوري نظريةُ الثنائية، فالأصل: شلْ/ شلّ، ومنه فُكّت ثلاثيات: شلخ، شلع، شلف، شلق، ومعنى القطع ظاهر فيها جميعاً.
وفي خلاصة هذا أقول: إن الشلفاء - بالفاء - فائت ينبغي أن يستدرك على معاجمنا العراقية، وهو مؤيّد من أربعة أوجه:
1 - لهجات المنبعيين.
2 - ما قاله ابن جني في الخاطريات.
3 - لغة الشلقاء فيها، إن صحّت ولم تكن تصحيفًا، فتكون من باب زحلوفة وزحلوقة.
4 - نظرية ثنائية الجذر، وهي أقوي الأدلة عندي.
5 - الاستئناس بما في اللغة الآرامية، فالساميات أخوات، وفيهنّ بقايا من اللغة الأم.
** ** **
سوانح سيرذاتية
إدراج الصور في السيرة الذاتية المكتوبة
الصور المدرجة في بعض السيرة الذاتية المكتوبة يمكن أن تقرأ وتفسر بطرق مختلفة، بعضها قد يتوافق مع ما أراد الكاتب أن يوصله للقارىء، من أبعاد إيجابية بطبيعة الحال. ومن هذه الإيجابيات أن الصور إذا ما أحسن توظيفها في السيرة الذاتية قد تكون بمثابة تمثيل بصري للأحداث والمواقع والشخصيات وغيرها، تجعل المتلقي أكثر تفاعلا مع قصة حياة المؤلف، كما يمكن للصور أن تضفي على السيرة الذاتية وأحداثها مصداقية أكبر، وتؤكد الأبعاد الواقعية في السيرة، ويمكن للصور كذلك أن تجعل القارىء أكثر تفهما وتعاطفا مع كاتبها ومع أحداث ووقائع سيرته التي أوردها مكتوبة. ومن الإيجابيات الأخرى لإدراج الصور في السيرة الذاتية أن الصور قد تختزن في بعض الأحيان بعض اللحظات المهمة في حياة كاتبها، وبالتالي تساعده على تذكر بعض أحداث حياته وتجاربه التي بدونها ربما كان مآلها الضياع والنسيان. وأخيرا يمكن للصور أن تبرز أحداث حياة الكاتب وتجاربه بصورة أكثر حميمية مما قد يجد في النص المكتوب وبالتالي تقرب القارىء من السيرة وكاتبها.
وإذا كنا قد أشرنا فيما سبق إلى بعض الجوانب الإيجابية لإدراج الصور في السيرة الذاتبة، فإننا في هذا الجزء الثاني من المقال سنورد بعض السلبيات المحتملة والمتوقعة من القيام بهذا العمل. فمن ذاك عل سبيل المثال أن القارىء قد يسيء فهم الصور وتفسيرها، وبالتالي يكون تلقيه لها مخالفا لما أراد الكاتب أو على الأقل مربكا له. وقد يقرأ القارىء هذه الصور بطريقة لا يرغبها الكاتب، وذلك عندما تظهر هذه الصور للقارىء بعض التناقضات بين ما هو مكتوب وما يظهر في هذه الصور، وتفسد بالتالي النص المكتوب الذي أريد لهذه الصور أن تقويه ابتداء. ومن السلبيات الأخرى أن الصور قد تتضمن الإشارة إلى أشخاص آخرين لا يرغبون في ظهور صورهم على الملأ أمام القراء، مما قد يسبب بعض الأضرار عليهم وعلى الكاتب نفسه أيضا، إذا ما أبدى هؤلاء الأشخاص احتجاجا شخصيا أو قانونيا. ويطول بنا المقام إذا ما رمنا سرد كل السلبيات المحتملة من إدراج الصور في السير الذاتية، ولكنا نختم هذا المقال بالتأكيد على ضرورة أن يراجع كاتب السيرة الذاتية الصور التي يرغب في إدراجها مراجعة دقيقة، ولا بأس من عرضها على بعض القراء قبل نشرها لقياس ردود أفعالهم تجاهها، ولأخذ موافقتهم إن كانوا حاضرين فيها. كما نود أن نؤكد على ضرورة الاقتصاد في إدراج الصور في السيرة الذاتية، واستعمالها في أضيق الحدود الممكنة وذلك لتقليل ورود مثل هذه السلبيات المحتملة.
** ** **
خلطة الرميحي النادرة!
لم يكن الأستاذ الدكتور محمد الرميحي أكاديميًا متخصصًا في علم الاجتماع بقدر ما كان مفكرًا فذًا ومثقفًا فخمًا نادر المثال. لا يمكن قياس عطاء الدكتور الرميحي من خلال ما قدمه من كتب وأبحاث ومقالات فحسب، بل يجب النظر بعمق إلى إصراره الشديد على تبني المواهب الواعدة من الطلبة والباحثين طوال مسيرته الأكاديمية. ولعلني شخصيًا أحد هؤلاء المحظوظين الذين كان للأستاذ «أبو غانم» الفضل في تحفيزهم لمواصلة الدراسات العليا والعودة إلى الجامعة كزملاء له. حبنا له يعود أيضًا إلى دوره في توجيهنا ونقدنا بأسلوب ملهم من خلال ابتساماته المشجعة، مما دفعنا لنكون أفضل سواء على مستوى التدريس أو التفكير أو كتابة الأبحاث وغيرها.
البروفيسور محمد الرميحي يمثل خلطة نادرة من المفكر والمثقف. إن ما قدمه للفكر والثقافة طوال حياته، وخصوصًا خلال فترة ترؤسه للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كان انعكاسًا لمرحلة تاريخية مهمة من التطور الثقافي في دولة الكويت خلال تسعينيات القرن الماضي. لقد غزت منشورات المجلس الوطني الشارع العربي بجودتها الفكرية والثقافية المتميزة، وكانت تنفد كمياتها في الساعات الأولى من نزولها إلى الأسواق. لا تزال كلمات عالم الاجتماع المصري الراحل الأستاذ الدكتور محمود عودة تتردد في ذهني، حين أشار إلى تلك المنشورات وسرعة نفادها قائلاً: «هذه هي الكويت، وهذا هو سر تأثيرها على النخب المثقفة». ويعود الفضل في ذلك إلى جهود العديد من المفكرين الكويتيين، وعلى رأسهم الدكتور الرميحي.
لم يتوقف الدكتور الرميحي عند هذا الحد؛ بل استمر في إبهارنا بمقالاته الرشيقة في مفرداتها والعميقة في تحليلاتها، التي نشرت في الصحف المحلية الكويتية والخليجية والعربية. كانت هذه المقالات تعالج، بفطنة تحليلية فريدة، قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وتربوية. كما تناولت كتاباته قضايا المستقبل، خاصة انعكاس التطورات التكنولوجية الهائلة على الفرد والمجتمع. باختصار، نحن أمام مفكر شمولي (Holistic Thinker) سخَّر السوسيولوجيا لخدمة قضايا المجتمع الخليجي خاصة، والمجتمع العربي عامة.
** **
أ.د. علي الزعبي - عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت
dr.alzuabi@gmail.com
** ** **
محمد الرميحي: حكيم الخليج
يتبوأ الأستاذ الدكتور محمد الرميحي مكانة مرموقة خاصة في الكويت وفي منطقة الخليج العربي والعالم العربي عمومًا. وأهَّله لتبوء هذه المكانة تاريخُه الغني في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية على مدى ستة عقود كان فيها أحد أبرز الناشطين العرب في هذه المجالات.
وليس بمقدور هذه النبذة تلخيص ما أنجزه حكيم الخليج في أيٍّ من هذه المجالات المتعددة الشاسعة؛ وربما تكفي الإشارة هنا إلى بعض منجزاته فيها. ومن أهم تلك المنجزات مؤلفاته العديدة في علم الاجتماع خاصة التي عُنيَت بدراسة التركيب الاجتماعي للكويت والأسس الاجتماعية لكثير من الظواهر الدافعة والمثبطة للتنمية في الكويت وفي البلاد العربية عمومًا. كما أثرى المكتبة العربية بدراساته الكثيرة عن الشأنين السياسي والاقتصادي في الكويت وفي العالم العربي كذلك.
ومن أهم نشاطات الدكتور الرميحي المرموقة إسهاماته البارزة في إدارة الشأن الثقافي في الكويت لعقود. فقد أسهم في تأسيس كثير من الإدارات التي تعنى بالشأن الثقافي وتأسيس بعض المجلات الأدبية والفنية وإدارتها مما كان لكل ذلك من أثر واضح في التنمية الثقافية لا في الكويت فقط؛ بل في العالم العربي أيضًا. وشغل الدكتور الرميحي، في ذلك السياق، أمانة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لسنوات عدة؛ تلك المنصة الثقافية العربية الفريدة التي أثرت بمطبوعاتها الكثيرة تأليفًا وترجمة الثقافةَ العربية لعقود عدة.
ومن أبرز إسهاماته ضمن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب رئاسته لسنوات عدة مجلة العربي المرموقة التي تثقَّف عليها القراء العرب، وأنا أحدهم، لأكثر من ستة عقود. وكان من أبرز ما تفرَّدت به مجلة العربي أنها كانت، ولا تزال، نافذة للقراء العرب ليتعرفوا في كل عدد منها على مدينة أو منطقة عربية من خلال تقرير معلوماتيٍّ وافٍ مزيّنٍ بالصور الملوَّنة الجميلة ويزيِّن غلاف كل عدد منها وجه عربي جميل! وكانت افتتاحية مجلة العربي التي كان يكتبها الدكتور الرميحي إبان رئاسته تحريرَها نموذجًا لأبحاثه الجادة ومثالاً لثاقب فكره في تناول القضايا التي تشغل الرأي العام العربي ودرسًا في المنهجية والدقة والتعبير عن التطلع القومي العربي للنهضة والتنمية.
وكان الدكتور الرميحي، ومازال، فاعلاً بارزًا في المجال السياسي في الكويت من حيث عضويته في كثير من مراكز القرار والمشورة. وكان من أبرز الأصوات الكويتية أثناء احتلال نظام صدام حسين للكويت؛ فقد جنَّد نفسه للدفاع عن بلاده بمشاركاته العديدة في الندوات العربية الكثيرة التي كانت تعقد أيام الاحتلال الكئيب، وكان يجادل بقوة وبلاغة بعضَ الأصوات العربية التي لم تكن تجد بأسًا في انتهاك دولة عربية استقلالَ دولة عربية أخرى، بل كانت تعده خطوة كان يجب اتخاذها مبكِّرًا لتحقيق الوحدة العربية! وأسهم كذلك بكتاباته المتواصلة في الصحف العربية التي كانت تناقش ذلك العدوان من بين مؤيد للباطل ومعارض له. كما أنشأ أثناء الاحتلال صحيفة «الكويت»، ومجلة New Arabia اللتين كانتا منبرين فاعلين في فضح الجريمة الصدامية وفي الدفاع عن الكويت واستقلالها ومكتسباتها.
وللأستاذ الدكتور الرميحي حضور بارز في النشاطات الثقافية والسياسية في العالم العربي؛ فهو يتصدر قائمة المدعوين في كل مؤتمر ثقافي أو اجتماعي أو سياسي تقريبًا، ويثري برأيه تلك المؤتمرات بخبراته الواسعة وبوعيه النافذ.
ومن أهم نشاطات الدكتور الرميحي مشاركاته الفعالة في الكتابة الصحفية في عدد من الصحف الكويتية والعربية، ومازال. وأخص بالذكر المقال الأسبوعي الذي تنشره له صحيفة الشرق الأوسط صباح كل سبت، ويتناول فيه القضايا العربية والدولية بكفاءة وإلمام فائقين. ويعد مقاله الأسبوعي هذا إطلالة نافذة على إحدى القضايا التي تشغل القارئ في ذلك الأسبوع. ويلخص الدكتور الرميحي في مقاله بكفاءة تلك القضية ويعرض رأيه بشأنها مما يضيء للقارئ بعض أطراف تلك القضية التي ربما لم يكن واعيًا بها. ومن لوازم مقاله الأسبوعي الجميلة ما يكتبه في آخر المقال بعنوان: «آخر الكلام»؛ وهو لا يزيد عن جملتين يعبِّر فيهما فلسفيًّا عن رأيه في تلك القضية فيما وراء المعلومات ووجهات النظر التي تناولها في المقال.
بقي أن أقول: لقد سعدت كثيرًا بالتعرف على الأستاذ الدكتور محمد الرميحي في أثناء حضوري لفعاليات ثقافية عدة كان أحد حضورها البارزين، وأعدُّ معرفتي به عن قرب من مكاسب الحياة. وهو الأجدر بأن يلقب بــ «حكيم الخليج» لما يتمتع به من مزايا كثيرة لا تتوفر إلا في الحكماء.
** ** **
مع محمد الرميحي المفكر والصديق
- أول ما عرفت الرميحي من خلال أطروحته عن البحرين. ثم من مقالاته الرائعة والاستشرافية بمجلة العربي وفي الصحف السيارة على مدى عقود. وصرنا نقصده عندما ترأس مجلس الفنون والآداب بالكويت. وهو من ذلك الجيل من الكويتيين الذين أسهموا من مواقع متقدمة في صنع المؤسسات الثقافية الكبيرة، وفي استقطاب المثقفين العرب الكبار على مدى عقود للكويت في أجواء من الحرية والإبداع والتنوير الفكري.
- منذ حوالي أربعين عاماً أقرأ للصديق الرميحي رؤاه وآراءه سواء في المجال العربي أو الدولي، واستراتيجيات التغيير. وعندما ألقاه أستمع إليه فأفيد من ثقافته الواسعة، واختيارات الفكرية، وبصيرته ذات الأبعاد المستقبلية.
- وإلى المثقف والمفكر البارز، خبرتُ الرميحي الصديق. وما كان يجمعنا نحن المثقفين على اختلاف فئاتنا بالكويت فقط؛ بل وفي بيروت أيضاً. هو يمتلك آراء وتوجهات ورؤى للإصلاح لكنه في صداقته ومودته لا يستثني أحداً حتى عندما كان يتولى مهامّ أكاديمية ثقافية عامة تتطلب الاختصاص وتتطلب القدرة على إنتاج الجديد والمتقدم. عرفته حافظاً للصداقة، كريماً في التعامل، وقد ظلَّ إنسانياً حتى مع من تنكروا للكويت في أزمتها الشهيرة مع عراق صدّام. وهو بسبب عقلية الحداثة والكفاءة العالية عنده ما اعتبر نفسه ولا عمله الدؤوب مركز قوةٍ أو تفرقةٍ وتمييز. وقد شهدتُه في أحلك الظروف يتضامن مع من يعرف ومن لا يعرف من الزملاء على اختلاف الآراء والأخلاق والأمزجة.
- بعد خمسين عاماً ونيفاً في عمل محمد الرميحي الفكري والاجتماعي والتنموي والسياسي أردتُ بهذه السطور الموجزة أن أكتب شهادةً في الرميحي أحد أعلام الفكر العربي المعاصر، وفي محمد الرميحي صانع السياسات الثقافية والإستراتيجية، وأولاً وآخراً في محمد الرميحي الأخ والصديق والإنسان الكبير.
- قبل ثلاثة أسابيع تحدث إليّ الأستاذ الرميحي حديثَ العارف والواثق بقدرتنا رغم الحصارات المتعددة والمتكاثرة على الخروج من مآزق العجز وسياسات الاستهداف، وإنجاح تجربة الدولة الوطنية العربية المتجددة. كتب الرميحي يوم 30/11/2024 في جريدة «الشرق الأوسط» متفائلاً بالقمة الخليجية القادمة التي تبشر بالجدي وصانع المستقبل الواعد. فليبق هذا الفكر الوقّاد وهذه العزيمة التي لا تتردد، وهذه النفس المشرقة بالأمل والكبيرة بالعمل.
** **
محمد الرميحي رئيس تحرير أقدم مجلة عربية في الخليج لـ«الجزيرة الثقافية»: ستون عاما من التنوير الثقافي
الثقافية - علي القحطاني:
تشهد المجلات الثقافية في العالم العربي والخليجي اليوم مرحلة متباينة في ظل التحديات الرقمية التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم. فعلى الرغم من أن الصحافة بدأت في الأساس بوجه ثقافي بحت، من خلال مشروعات صحافية رائدة مثل صحيفة الجزيرة التي أسسها الشيخ عبدالله بن خميس وغيرها من الصحف المحلية وفي الخليج العربي إلا أن التحولات الرقمية اليوم أصبحت عاملا مؤثرا في انتشار وتنوع المحتوى الثقافي.
يقدم الدكتور محمد الرميحي في لقاء لـ «الثقافية» أحد أبرز رموز الفكر والثقافة في العالم العربي، قراءة عميقة في واقع المجلات الثقافية ودورها المتجدد في مواجهة التحديات الرقمية التي تهدد هذا المجال. كما يتناول الرميحي، الذي ترأس مجلة العربي لقرابة عقدين، أهمية الصحافة الثقافية كوسيلة لنشر الفكر وتوعية الأجيال، مسلطا الضوء على تجربة الكويت الرائدة في تأسيس هذه المجلات، ومؤكدا على الحاجة المستمرة لتطوير هذا المجال لمواكبة العصر الرقمي. كما تحدث د.محمد الرميحي عن نقد الموروث ودور الثقافة في التنمية الخليجية.
واقع المجلات الثقافية
* في البداية، كيف تقرأ واقع المجلات الثقافية في العالم العربي والخليجي على وجه الخصوص؟ وما استشرافك لمستقبلها في ظل التحديات الرقمية المعاصرة، ولا سيما إذا علمنا أن نشأة الصحافة كانت ثقافية بحتة عندما أسس الشيخ عبدالله بن خميس صحيفة الجزيرة، والشيخ حمد الجاسر صحيفة الرياض؟
- الصحافة والمجلات الثقافية بخير، وهي في الظروف الحالية نوعان: نوع واكب التغير ولا يزال منتشرا، ونوع آخر تخلف عن التطور فذبل أو تراجع توزيعه. لو ضربنا مثالا بظروف اليوم، فأنا ما زلت أقرأ مجلة القافلة التي تصدرها أرامكو، وأتابع مجلة الجغرافيا الدولية (التي تصدر من أبوظبي)، كما أتابع الملاحق الثقافية في الجرائد اليومية، كجريدتكم وملحقها المتميز، وأحيانا تصدر جريدة القبس الكويتية ملحقا ثقافيا متميزا أيضا. وكما ذكرت، نشأت الصحافة في الأغلب في حضن الثقافة بشكل عام، ونذكر على سبيل المثال مجلة الهلال المصرية أو الرسالة، التي صدرت ثم توقفت بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في مصر. هنا الموضوع يرتبط بالمحتوى وحريات الصحافة؛ فإن وجد المحتوى الجيد والقيادة الجيدة للعمل الثقافي، أقبل عليها الناس أو القارئ. صحيح أنها تواجه تحديات من انتشار الرقمنة اليوم، إلا أن القراءة الجادة لها جمهورها أيضا.
العربي: الصوت المستنير
* منذ ما يقارب الستين عاما، تسعى دولة الكويت من خلال إصدارها لمجلة العربي لإيصال صوتها التنويري الثقافي إلى كل بيت عربي مع مطلع كل شهر. ليتك تحدثنا عن مراحل نشأتها، ورؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها، ومشاهير الإعلام والثقافة والأدب الذين كتبوا فيها؟
- مجلة العربي هي واحدة من منارات الثقافة العربية، وقد تأسست بناء على رغبة دولة الكويت في نهاية الخمسينيات، حين كانت مقبلة على الاستقلال، ليكون لها صوت عربي في أجواء العصر العروبي السائد آنذاك. وفقت المجلة في عدة عناصر: أولا، السخاء المادي الذي توفر لها، ما جذب أفضل الأساتذة في العمل الثقافي والصحافي؛ وثانيا، سقف الحريات في الكويت؛ وثالثا، القيادة المستنيرة. فقد وفق من سعى لإصدارها، وهما ثلاثة أشخاص: المرحوم صباح الأحمد، الذي كان مسؤولا في الإدارة الحكومية؛ والمرحوم أحمد السقاف، المثقف الذي عمل وعاش في الكويت وأصبح مواطنا تفخر به الكويت؛ والمرحوم بدر خالد البدر، من عائلة الجناعات المعروفة، وكان مثقفا ومهتما بالعلم. الاثنان، السقاف والبدر، لهما إنتاج ثقافي مميز، وقد سعيا للبحث عن هيئة تحرير بتكليف من الشيخ صباح الأحمد، ونجحا في استقطاب الأستاذ المرحوم أحمد زكي، الذي كان من أبرز المثقفين المصريين، وعمل وزيرا ورئيسا لتحرير الهلال (من بين أعمال أخرى)، وكان متخصصا في العلوم البحتة ومثقفا واسع الأفق. في عهد ه، أخذت العربي شكلها المعروف وأبوابها المشهورة في تعريف العرب ببعضهم.
في عام 1975م أسندت مهمة رئاسة التحرير إلى المرحوم أحمد بهاء الدين بعد وفاة أحمد زكي، واستمر حتى عام 1982 م عندما انشغل كثيرا مع الرئيس السادات. بعد ذلك، طلب مني الشيخ صباح الأحمد (وكان حينها وزير الخارجية ووزير الإعلام بالوكالة) أن أتولى المهمة، وقد قضيت فيها نحو ثمانية عشر عاما. لقد كانت العربي في تلك الفترة «مشروع دولة» اهتمت به القيادة العليا للكويت، وكانت الذراع الناعمة للقوة الكويتية.
رئاسة التحرير
* قضيت ما يقارب العقدين في رئاسة تحرير مجلة «العربي»، وقد كشفت لـ»الثقافية» أن هناك مفاوضات بين المجلس الوطني، المسؤول الأعلى عن مجلة العربي، وبين مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لتحويل جميع أعداد مجلة «العربي» إلى صيغة رقمية حديثة على شبكة الإنترنت، بحيث يستطيع أي قارئ الاطلاع عليها بسهولة. إلى أين وصل الأمر؟
- لم تكن مفاوضات، بل كان قرارا اتخذته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لتحويل هذا الكنز الثقافي إلى صيغة رقمية حديثة تتيح للأجيال القادمة الوصول إليه. وقد طرحت علي الفكرة، وشجعتها، لكن للأسف، واجه المشروع معوقات بيروقراطية حالت دون تنفيذه رغم أهميته الحضارية والثقافية الكبيرة.
مصطلح «الثقافة»
* مصطلح «الثقافة» في مفهومها العام يمثل شكلا هلاميا، وله علاقة بمجمل حياتنا لأنها غذاء للعقل. نتساءل عن ماهية الثقافة ومن هو المثقف؟
- الثقافة، كما تفضلت، لها عدد من المفاهيم الكثيرة، ولكن إن ربطناها بالحياة يتضح أهميتها؛ فالشعب المثقف تقل لديه حوادث المرور (لأن المرور بجانب منه ثقافة) والشعب المثقف يقل عنده استهلاك الأدوية (لأن العناية بالصحة ثقافة) والشعب المثقف نشط اقتصاديا (لأن الادخار ثقافة) والشعب المثقف تقل فيه الصراعات لأن العمل السياسي ثقافة، وهكذا. بجانب ذلك، فهي تقوم بترقية الذوق وفهم الآخر وإشاعة التسامح في المجتمع الواحد وبين المجتمعات، إذا عرفنا أن التعدد صفة إنسانية. والمجتمع المثقف تقل فيه عاهة التعصب الديني والمذهبي والعرقي، كما أن الثقافة مدرة اقتصاديا؛ فأكبر ما يصدر الآن من الدول الكبرى هو في شكل ثقافة (السينما والمسرح والفنون التشكيلية إلى آخره) من النشاطات، بما فيها ما يعرف اليوم بـ(السوفت وير) أي برامج الكمبيوتر.
الصحافة الورقية
* كيف ينظر د. محمد الرميحي إلى من يقول إن «الصحافة الورقية» سوف تندثر، وأن الصحافة الإلكترونية سوف تبقى؟ والدليل على ذلك عندما ننظر إلى المطبوعات المتميزة في العالم مثل مجلة «ناشيونال جيوغرافيك»، التي تصدر منذ أكثر من قرن! وتنشر بثماني لغات منها العربية، وهذه المجلة تزداد انتشارا وتتوسع؟
- أعتقد أن القول بأن الصحافة الورقية سوف تندثر قول مبالغ فيه كثيرا؛ فقد قيل إن الراديو سوف يندثر بعد اتساع استخدام التلفاز، ولم يحدث. والآن لدينا صحافة ورقية ناجحة بل مزدهرة؛ مثلا مجلة الإيكونوميست البريطانية زاد توزيعها، وأيضا مجلة الفورين أفيرز الأمريكية، والتي أصبح لها قرنان من الزمان. كما أن هناك صحافة مزدهرة في الهند وجنوب شرق آسيا واليابان. الموضوع هنا يتعلق بجودة المنتج وانسجامه مع المتغيرات. الصحافة اليوم تغيرت مما كان يعرف بـnews paper إلى views paper، أي من أخبار إلى عرض تحليل الأخبار، وبهذا تجد أن الصحافة الناجحة اليوم تحمل من التحليلات أكثر من الأخبار، أي ما وراء الخبر.
الرقابة والمجتمعات المغلقة
في المجتمعات الحديثة من حق الأفراد أن يعتقدوا بما يريدون، ولكن ليس من حقهم فرض قناعاتهم في شكل تشريع على الجميع، وتزداد سلطة «الرقيب» في المجتمعات المغلقة. كيف لنا أن نتجاوز تلك العقبات والفئات في ممارسة سلطتها ووصايتها على الجميع؟
- لا أعتقد أن سلطة الرقيب في عصرنا الحالي هي المطلوبة؛ المطلوب هو المناعة الفكرية والثقافية، أي تدريب الأجيال على استخدام عقولهم، فليس كل ما يكتب صحيح، وأيضا تدريبهم على البحث والتقصي. تنتشر أفكار التضليل في المجتمعات التي هي ناقصة المناعة الفكرية، ولذلك فإن تدريب الناشئين على التفكر والتساؤل هو المهم. كما يجب على السلطات أن تواكب الثورة الرقمية من خلال التعامل السريع مع ما ينشر من أخبار كاذبة؛ فإن لم يكن هناك أخبار، تنتشر الأخبار الكاذبة. «No information brings misinformation» كما يقول المثل الإنجليزي.
مناصب كثيرة والمهمة واحدة
* شغلت عددا من المناصب المهمة في رئاسة تحرير مجلة العربي، وأمانة المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت، كما رأست تحرير مجلة حوار العرب التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي من بيروت لمدة عامين، وعملت مستشارا لمركز البابطين للترجمة الذي يصدر كتبا مترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية وبالعكس، وأستاذا في علم الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. أيهم أقرب إلى نفسك، وهل الأعمال والمناصب الإدارية تشغل الأستاذ الجامعي عن مهامه وأبحاثه الجامعية الأساسية؟
- في رأي كثيرين، وأنا منهم، أن الأستاذ الجامعي يجب أن يمارس بعض الأعمال الثقافية خارج التدريس، فهي تقدم له خبرة جديدة واطلاعا جديدا. الأكاديمي عادة نظري وربما أكثر من اللازم، أما العمل في القطاعات الأخرى التي تختلط فيها الثقافة بالبيروقراطية يؤسس لأن ينظر من خارج الصندوق المغلق. لقد كانت تجربتي ثرية في تثقيفي وزيادة معرفتي، وأرى أن الإنسان متى ما أحب عمله (واختلطت الهواية بالعمل) كلما أجاد؛ لأن العمل مع الآخرين يكسب الإنسان مهارة التشبيك الاجتماعي، وهي مهمة ربما حتى أكثر من الشهادة العلمية.
نقد الموروث
* طرحت في أكثر من مقالة حول نقد الموروث، وهل نحن في حاجة إلى قراءة التراث الديني بصورة مختلفة عما يقدم حتى الآن؟
- نعم، نحن في حاجة وحاجة ماسة لنقد الموروث، خاصة أن ذلك الموروث قد تغطى بطبقات من الأهواء على مر السنين الطويلة، تكاد أن تخفي جوهر الرسالة المحمدية الكريمة. فهناك اجتهادات دخلت على صحيح الدعوة، وأهمها التسييس، وأصبح هناك خلط بين قواعد الإسلام وبين ممارسات البعض، كما اختفى فهم تغير الأزمنة. وأنا مع أن الثابت هو العقيدة والعبادات، وكل ما عداها، كما قال أهل مدرسة المصلحة، هو معاملات ننظر إليه بتمعن؛ فإن توافق مع المصلحة كان بها، وإلا يهجر على أنه قول لزمانه وليس لزماننا. وأرى أنه ليس هناك «عالم دين» بهذا المعنى، بل هناك فقيه في الدين (إنسان يخطئ ويصيب). ولنا في سيرة الإمام الشافعي، الذي غير رأيه في بعض المسائل من المدينة إلى بغداد إلى القاهرة!! أما اليوم فهناك اختطاف للتراث من أهل السياسة، الذي أسميه «الإسلام الحركي»، وهو تنظيم بأشكال مختلفة همه القفز على السلطة، وقد فشل فشلا ذريعا في السودان وفي تونس وفي مصر (لوقت قصير)، وهو يتبنى مقولات قريبة من الشعوذة!
فواتح مجلة العربي
* يصارحك البعض بأن ما كنت تكتبه في فواتح مجلة العربي إبان رئاستك لتحريرها مقالات مطولة، وليس لديهم وقت لقراءة المطولات! لماذا لا تختصر تلك المطولات بحيث لا تتعدى ألف كلمة أو أقل؟ لماذا ينفد صبر البعض في القراءة؟
- الذي ينتقد الكتابات المطولة أتفهم دوافعه، ولكن لا أوافق عليها، لأن القراءة الجادة تحتاج إلى تفسير قد يطول نسبيا، فلماذا نقدم الكتب لطلابنا ولماذا نقوم بطباعة الكتب وإقامة المعارض؟ أنا من الناس المقتنعين بالحكمة القديمة الجدية والقائلة إن «من سوف يحكم العالم هم من يقرؤون». القراءة تقود إلى المعرفة، ولم يتقدم شعب دون قراءة جادة. نحن نقرأ القرآن ولا نختصره، حتى نتدبر حكمته وحتى نفهمه، وفيه آيات طوال. فالاعتقاد بقصر المقالات يجب ألا يروج له في نظري، فحتى أجيب على أسئلتك هذه أخذت مني وقتا وجهدا. ولا ترتقي ثقافة شعب دون أن يقرأ في مجالات كثيرة ومتعددة.
السلاسل الثقافية
* «عالم المعرفة» من أهم إصدارات المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، وهي تعنى بالسلسلة المعرفية الثقافية الجادة، وكان يقف خلفها الأستاذ عبدالعزيز الحسن، وكان يسلمها كل شهر للشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت رحمه الله. حدثنا عن تلك السلسلة العلمية الجادة وليتنا نأخذ لمحة حول شخصية ومترجمات عبدالعزيز الحسين؟
- عالم المعرفة بحد ذاتها «جامعة مفتوحة»، وقد كنت محظوظا بالعمل فيها لسنين طويلة، وهي هدية أخرى من هدايا الكويت الثقافية ومنجم للثقافة. وقد حرصنا على أن تكون في أغلبها مترجمة من كتب بلغات مختلفة لإغناء الثقافة العربية. وكانت من بناة أفكار عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني، وقام بالعمل فيها الدكتور فؤاد زكريا، وهو من المثقفين المصريين الذين حضروا إلى الكويت في سبعينيات القرن الماضي. أما الأستاذ المرحوم عبدالعزيز حسين فلم يخلف لنا إلا مطبوعا واحدا هو «المجتمع العربي» كما أذكر. لقد كان بدرجة كبيرة مثقفا، فهو والعدواني من خريجي الأزهر في وقت كان منارة للفكر العربي.
أهمية الثقافة الشاملة
* توجد دراسة لك عن أهمية «الثقافة» الشاملة، وتفتح آفاقا للحاصلين على جائزة نوبل، وتتناول دراسة من عام 1901م حتى 2005م، حيث إن حظوظهم في الحصول على الجائزة تفوق نظراءهم غير المهتمين بالفنون والموسيقى والرسم والقصة القصيرة والرواية والثقافة. ليتك توجز لنا هذه الدراسة؟
- نعم، ذلك صحيح. فتلك دراسة لافتة، فالمهتم بالثقافة، كما جاء في ذلك المقال الذي أشرت إليه، من العلماء حظه أكبر من الآخرين الذين ليس لهم اهتمام بالثقافة، وهي دراسة علمية نشرت ومتوافرة. وأعني «مهتمين بالثقافة»، أي لهم علاقة بالفن والرسم والنحت والمسرح بجانب اهتمامهم بالعلوم البحتة. وهذا يؤكد أن العلوم الاجتماعية مهمة جدا لدارسي العلوم البحتة والتطبيقية.
** **
@ali_s_alq
** ** **
الدكتور محمد الرميحي.. ومعضلة الثقافة العربية
مكانة ثقافية
يحتل محمد الرميحي موقعاً متميزاً في المجتمع الثقافي الخليجي والعربي. وهو مشارك مثابر في مداخلاته الثقافية عبر الصحافة والإعلام المرئي والندوات المتخصصة في العديد من البلدان العربية والأجنبية. قُدِّر للدكتور محمد الرميحي الذي حصل على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع السياسي من جامعة Durham ، درهام ، في إنجلترا عام 1973 وعمل أستاذاً في جامعة الكويت، قُدر له أن يواجه الحياة الثقافية العربية وتطوراتها على مدى العقود الخمسة المنصرمة.
لا شك أن البيئة الثقافية في العالم العربي توترت واهتزت بعد هزيمة، أو نكسة، حزيران 1967والتي ساهمت في تراجع القيم التي سادت قبلها ودفعت أعدادا كبيرة من المواطنين العرب، ومنهم العديد من المثقفين، إلى تبني طروحات وأيديولوجيات محافظة أو رجعية وتبني المفاهيم الدينية المتزمتة. رأى الكثير من هؤلاء أن الخلاص من تداعيات الهزيمة والتصدي لإسرائيل ومن ورائها الغرب يتطلب العودة إلى القيم الدينية بحدودها المتزمتة ورفض كل المفاهيم ذات الصبغة الليبرالية أو العقلانية. في ذات الوقت ظل كثيرون ممن سبق لهم تبني الأيديولوجيات القومية أو اليسارية في مواقعهم ومؤكدين أهمية الالتزام بما أمنوا به وبأن الحتمية التاريخية سوف تنتصر لهم أجلاً أو عاجلاً.
معضلة المفاهيم
لكن هذه المفاهيم والقيم لم تسعف الحياة العربية وأدت إلى هزائم سياسية جديدة ونشوب حروب ونزاعات أهلية مدمرة. كانت الحرب اللبنانية التي بدأت في أبريل، نيسان،1975وانتهت في عام 1990 من أهم النزاعات الأهلية والتي أودت بحياة مئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين ودمرت الحياة السياسية في لبنان، ومكنت إسرائيل من احتلال الجنوب اللبناني لفترة طويلة امتدت حتى عام 2000. لم تكن تلك الحرب الأهلية هي المصيبة العربية الوحيدة بعد هزيمة 1967 بل تلتها الحرب العراقية الإيرانية، بعد انتصار الثورة الإيرانية في عام 1979. الحرب العراقية الإيرانية دفعت إلى استقاطبات سياسية ومذهبية وزادت من حدة النزاع بين عدد من الدول العربية ودفعت الكثير من المثقفين العرب إلى الانحياز إلى طرف ضد آخر في تلك الحرب التعيسة والتي امتدت من 1980 إلى 1988. بطبيعة الحال أدت الحرب واستمرارها لأمد طويل إلى بروز النزعات الطائفية والتي كانت كامنة إلى حد ما قبل ذلك.
إيران وحكامها
أثار الدكتور محمد الرميحي مسألة الحرب العراقية الإيرانية وأكد بأن هناك أخطاء وخطايا ارتكبت من قبل الطرفين، العراقي والإيراني، لكن التقييم الموضوعي لا يًقبل من أنظمة ديكتاتورية أو شمولية، وكذلك لا يقبل من المساندين من مثقفين وأشباههم. كانت الحرب العراقية الإيرانية تمثل خطراً كبيراً على دول الخليج العربية سواء من إيران أو العراق أو من مخاطر نشوب نزاعات محلية في أي من هذه الدول نتيجة للتركيبات الديمغرافية فيها والتنوع الطائفي، ناهيك عن استعداد أحزاب الإسلام السياسي لاستثمار الاستقطابات السياسية والطائفية. الأخطار ظلت قائمة حتى بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس ، آب ، 1988 حيث استمر النظام الإيراني يحذر أنظمة الخليج ويؤكد خططه لتصدير الثورة المغلفة بنزعاتها الطائفية.
أثار الدكتور محمد الرميحي مسألة المخاطر التي يمثلها النظام الإيراني في مقال نشر في مجلة « أراء حول الخليج « والتي تصدر من مركز الخليج للأبحاث في العدد الصادر في 7 يونيو ، حزيران ، 2016. أكد أن إيران تمثل « تهديداً حقيقياً لدول الخليج». خصوصاً بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق ونشوب الحرب الأهلية في سوريا وامتداد النفوذ الإيراني في البلدين. النظام الإيراني جند مئات الآلاف من الأفراد في العراق في الحشد الشعبي الذي تأسس أثر قيام تنظيم داعش الإرهابي، باحتلال الموصل وعدد من المدن العراقية في عام 2014. يضاف إلى ذلك جند النظام الإيراني عشرات الآلاف من الأفغان والباكستانيين وغيرهم من مجموعات عسكرية للحرب في سوريا ومؤازرة النظام الحاكم هناك. كذلك وظفت إيران جماعة الحوثي لمحاربة الشرعية اليمنية وتعطيل المصالحة الوطنية هناك بالإضافة إلى توظيف هذه الجماعة للاعتداء على السعودية والإمارات بالمسيرات والصواريخ. وفي الآونة الأخيرة وبعد نشوب النزاع المرير في غزة لاستهداف الملاحة البحرية في البحر الأحمر والبحر العربي.
محنة الفلسطينيين
في مقال مجلة « آراء « نشر بتاريخ 6 ، يونيو ، حزيران ، 2024 يشير الدكتور محمد الرميحي إلى تورط إيران في الصراع في غزة حيث يبين بأن إسماعيل قاني ، قائد الحرس الثوري الإيراني بين بأن « على الفلسطينيين أن يستعدوا لقيادة بلادهم بعد زوال إسرائيل «. يؤكد الدكتور محمد الرميحي بأن الإيرانيين يحاولون من خلال تصريحاتهم « إغراق الساحة بسراب من المخادعة والوهم» بما يؤدي إلى رفع الأمال لدى الجماهير العربية المحبطة. لاشك أن الدكتور محمد الرميحي تمكن من قراءة الأيدولوجية الحاكمة في إيران بشكل موضوعي بما مكنه من متابعة التصريحات والتدخلات الإيرانية في البلدان المستهدفة، العراق ، سوريا ، اليمن ، لبنان ، بشكل متميز بما مكن من التنبؤ بالمواقف القادمة.
مواجهة الأوهام
من المفيد التأكيد على أن الدكتور محمد الرميحي تمكن من إثارة المواقف الإيرانية ومحدودية تأثيراتها حيث أكد بأن هذه التدخلات والتي تسعى إلى إقامة أنظمة ملائمة لنظام ولاية الفقيه في إيران لم ينتج عنها سوى الفوضى وإشاعة عدم الاستقرار في البلدان العربية، العراق وسوريا ولبنان واليمن. أوضح في ذات المقال في مجلة « أراء « بأن « التدخل، على درجاته المختلفة، قد فجر الدولة المتدخل فيها من الداخل ، سوريا ، لم تعد فيها سلطة الدولة سلطة باسطة على كل أراضيها. لبنان غارق في انهيار اقتصادي مخيف. وكذلك العراق واليمن في أزمة وتبقى طهران ملزمة بتعويم أذرعها مالياً على حساب الشعب الإيراني «.
لا شك أن الكاتب يرى بأن هناك روحا لمقاومة النفوذ الإيراني ومقاومة أدواته في مختلف البلدان المستهدفة. في هذا الصدد لابد من التذكير بأن العديد من المثقفين العرب الموالين لإيران لا يهتمون بروح المقاومة السائدة في البلدان العربية وأهم من ذلك لا يعيرون اهتماماً لتطلعات الشعب الإيراني والمعاناة المعيشية والسياسية التي يواجهها. أين الخلل في المنظومة الثقافية والفكرية التي يعتمدها هؤلاء العرب؟ لا بد أن مفاهيم مقاومة إسرائيل والاستعمار ومحاربة النفوذ الغربي والتيارات الليبرالية قد طغت على عقول أنصار الممانعة؛ حيث أصبح أمراً مقبولاً الولاء لنظام استبدادي ورجعي وغارق في القيم الطائفية عندما يكون معادياً للغرب.
الإسلام السياسي
في السياق ذاته يرى الرميحي بأن تيار الإسلام السياسي يعاني ، أيضا ، من الجمود الفكري بل أن هذا التيار مستعد لتطبيق حدود الردة وتنفيذ عمليات اغتيال جسدية للمفكرين الذين يعارضون طروحاته، كما حدث للمفكر المصري الراحل فرج فودة. يضاف إلى ذلك هناك عمليات اغتيال معنوية جرت لعدد من المفكرين مثل ما جرى للمرحوم نصر حامد أبو زيد. لاشك أن المواقف التي اعتمدتها أحزاب الإسلام السياسي عطلت التحضر والتقدم الثقافي في بلدان أساسية في المنطقة، مثل إيران والعراق ولبنان وسوريا ومصر وليبيا واليمن ، وجرت محاولات لتكريس المفاهيم المتزمتة في تونس والمغرب والجزائر وبلدان الخليج. التصدي الذي قامت حكومات مصر وحكومات في شمال أفريقيا وبلدان الخليج عززت القدرة على المواجهة، وإن ظل لهذا التيار نفوذ في مواقع متنوعة في هذه البلدان، خصوصاً في قطاع التعليم والإعلام ومواقع المؤسسات الدينية مثل وزارات الأوقاف. بالرغم من محاربة عدد من الحكومات العربية لهيمنة قوى الإسلام السياسي إلا إنها مازالت عاجزة عن الحد من نفوذها في المواقع التي تؤدي إلى صناعة الوعي والثقافة ومنظومة القيم الاجتماعية والدينية.
كارثة احتلال الكويت
عندما حدث الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس ، آب ، 1990 أصدرت الحكومة الكويتية في الطائف جريدة « صوت الكويت « في لندن وعين الدكتور محمد الرميحي رئيساً لتحريرها. صوت الكويت تصدت إعلامياً للدعايات المغرضة التي تبناها نظام صدام حسين وأزلامه والمناصرون له آنذاك. تمكن الدكتور الرميحي من استقطاب عدد جيد من المثقفين العرب ومكنهم من طرح وجهات نظرهم الموضوعية من خلال جريدة « صوت الكويت « . اعتمدت الجريدة على نقل الأخبار الحقيقية عن الكويت تحت الاحتلال وبينت عمليات انتهاك حقوق الإنسان في الكويت من قبل قوات الاحتلال العراقية. كذلك طرحت مقالات ودراسات عن الواقع الكويتي من خلال الجريدة. لاشك أن الدكتور محمد الرميحي واجه مصاعب وعراقيل في جهوده الصحفية آنذاك وتعرض لمواقف صعبة من قبل العديد من المناصرين لصدام حسين المقيمين في لندن وبريطانيا. تابع الدكتور محمد الرميحي الأحداث بعد الغزو العراقي للكويت واحتلالها وبذل كل امكانياته الثقافية للتصدي للطروحات الخرافية التي روجها رهط من « المثقفين « العرب من خلال قنواتهم الإعلامية ووسائطهم الصحفية. كانت المعركة الفكرية شرسة ويمكن أن تضاهي وقائع الاحتلال المادية المريرة التي عانى منها الكويتيون على مدى سبعة أشهر عجاف داخل الكويت وفي المنافي المختلفة.
موقف الفلسطينيين
أبرز الدكتور محمد الرميحي مسألة الموقف الفلسطيني من احتلال الكويت والتباساته. لم يكن هناك أي من الكويتيين يتوقع أن تقف قيادة منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات موقفاً معادياً للحق الكويتي بعد محنة الاحتلال. الكويت منذ عام النكبة 1948 احتضنت جالية فلسطينية كبيرة تمتعت بحقوق كادت تلامس حقوق المواطنين. كان عدد الفلسطينيين في الكويت عشية الاحتلال في أغسطس، آب، 1990 يزيد عن 350 ألف بموجب الإحصاءات الرسمية. تمكن الكثير من هؤلاء الفلسطينيين من تكوين ثروات مناسبة من خلال أعمالهم وأنشطتهم وحيويتهم في مختلف القطاعات، وشارك الكثير منهم الكويتيين في تكوين الشركات العاملة في مختلف المجالات والأنشطة. كما أن العديد من الفلسطينيين عملوا في القطاع الحكومي في التدريس والطبابة والأعمال الهندسية ورعوا النشاط الزراعي بخبراتهم ومهنيتهم. في الكويت تأسست منظمة فتح في عام 1965 ورعت الحكومة الكويتية النشاط الفدائي ومكنت المنظمات الفلسطينية من جمع الأموال وفرضت ضرائب رمزية على تذاكر السينما لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، كما قررت خصم ما يقارب خمسة في المئة من رواتب الفلسطينين العاملين في الكويت لصالح منظمة التحرير. لذلك يمكن للمراقب المحايد أن يؤكد بأن هناك تلاحما بين الكويتيين والفلسطينيين ودعما كويتيا راسخا للقضية الفلسطينية.
توثيق موضوعي
حياة الفلسطينيين في الكويت على مدى خمسة عقود من الزمن وثقها الكاتب الفلسطيني المرحوم توفيق أبو بكر في كتاب متميز «الفلسطينيون في الكويت وأزمة الخليج» 1936 _ 1990 «صدر الكتاب في عام 2000 عن مركز جنين للدراسات الاستراتيجية في عمان ـ الأردن. توفيق أبو بكر الذي ولد في يعبد في فلسطين عام 1942 وتوفى عام 2004 حصل على تعليمه الجامعي في جامعة دمشق التي تخرج منها عام 1966. عمل لفترة طويلة في الكويت وغادرها في عام 1990، عام الغزو. نشط في العمل الفلسطيني وكان كادراً قيادياً في الجبهة الشعبية الديمقراطية الفلسطينية. تمكن من خلق علاقات متميزة مع النخبة الكويتية وأصبح متفهماً للحياة السياسية في الكويت، واتخذ موقفاً جريئاً داعماً للحقوق الكويتية ومناهضاً لموقف منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد صدور الكتاب وجد الدكتور محمد الرميحي أن ((البيان الإماراتية 8 فبراير، شباط، 2000)) الكتاب يمكًن من تفسير «طرق التفكير السياسي للعرب». في مقال البيان أوضح الدكتور محمد الرميحي بأن توفيق أبو بكر، رحمه الله، ذكر في الكتاب ما يلي: «يجب أن نكون أوفياء ونعترف بأن الكويت وفرت للفلسطينيين وغيرهم من المقيمين على أرضها الاستقرار والأمن والحرية. ووفرت لهم حياة كريمة حيث عاشوا آمنين مطمئنين. وعلموا أبناءهم في أرقى الجامعات وتمكنوا من إعالة مئات الآلاف من العائلات في الأردن والأرض المحتلة. وفتحت الصحافة الكويتية كل الأبواب لاحتضان القضية الفلسطينية حتى تحولت إلى صحافة فلسطينية أكثر منها كويتية». لاشك أن متابعة الدكتور محمد الرميحي مكنت الكثير من المتابعين في الخليج من قراءة هذه الدراسة المهمة للمرحوم توفيق أبو بكر.
نظرية المؤامرة
كتب الدكتور محمد الرميحي على حسابه في تويتر ( x ) وجهة نظره حول ما يطرح بشأن الحرب الروسية الأوكرانية. ذكر ما يلي «عجيب أمر نظرية المؤامرة التي تتفشى لتفسير أحداث روسيا وإنها تتم بإتقان بين بوتين ومجموعة المرتزقة. إنه تفسير عقلاني . لكنه يجد قبولاً عند البعض من أكثر من فضاء ثقافي شرقي وغربي. لا أفهم كيف يفكر هؤلاء؟ « طروحات نظرية المؤامرة متفشية في المجتمع الثقافي العربي. فسر العديد من المثقفين والكتاب العرب غزو العراق للكويت بالمؤامرة المتفق عليها بين صدام والولايات المتحدة، وبأن صدام ما كان سوى عميل للمخابرات الأمريكية وأن الهدف هو تدمير العراق. أيضا فسر الكثير من العرب عملية 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن عام 2001 بالمؤامرة الصهيونية الهادفة لإلصاق التهم بالعرب والمسلمين ومن ثم شن الحروب عليهم وإذلالهم. بطبيعة الحال لم يكن العرب هم الوحيدون الذين اقتنعوا بنظرية المؤامرة فهناك العديد من الكتاب في أوربا وأمريكا الذين تبنوا مقولات ذات صلة.
الدكتور محمد الرميحي تصدى لمسألة «نظرية المؤامرة» في مقال نشره على منصة «إيلاف» بتاريخ 21 مارس 2020 تحت عنوان «كنا هناك من قبل». تساءل من أين جاءتنا نظرية المؤامرة ؟ «من الجهل أو من التسييس»؟. ذكر بأنه أجرى استطلاعاً على حسابه بشأن الموضوع وجاءت الردود بنسبة 77 في المئة بإنها نتاج الجهل والتسييس في حين لم يوافق 17 في المئة وذكر 6 في المئة بأنهم لا يملكون رأياً. في ذلك الحين عام 2020 كان العالم يعيش أزمة وباء كرونا (Covid19) حيث بين الدكتور الرميحي بأن هناك من روج بأن «كرونا» هي نتاج مؤامرة أمريكية «لإضعاف الاقتصاد الصيني وإبطاء نموه» وبين البعض بأن أمريكا تملك الدواء ولكنها ستظهره بعد حين. مقابل ذلك كان هناك من يعتقد بأن الصينيين هم المتآمرون من أجل إخافة الأمريكيين والغرب عموماً واخراجهم من استثماراتهم في الصين. لابد أن نؤكد بأن هذه النظرية ليست منتشرة بين العرب فقط بل هناك أمريكيون وأوروبيون وغيرهم ممن روج لمثل هذه الأفكار أو الخرافات حيث لم يتم التحكم بالوباء ومعالجة أثاره إلا بالعلم والمعرفة حيث وظفت الولايات المتحدة وألمانيا علومها كما فعل عدد آخر من الدول الغربية. مهما يكن من أمر فإن نظرية المؤامرة مازالت منتشرة في المجتمعات العربية وبين المثقفين العرب بشكل خاص.
محمد الرميحي والتعليم
حدد الدكتور محمد الرميحي وجهة نظره بشأن التعليم منذ زمن طويل. أكد بأن النهوض بالتعليم « سواء من حيث المناهج أو اسلوب التعليم أو الإدارة في الكويت يتطلب إعادة نظر». أكد مراراً بأن هناك أهمية لمعالجة القصور البين في عملية التعليم الأساسي وضروة أن يواكب هذا التعليم التطورات الجارية في البلدان المتقدمة في أنظمة التعليم الأساسي.
معلوم أن التعليم الأساسي في الكويت وعدد من الدول العربية تراجع بشكل واضح خلال العقود الماضية وهناك ظاهرة الأمية الأبجدية والثقافية بين خريجي المدارس الثانوية. كما أن تسرب وعدم تمكن العديد من هؤلاء الخريجين من الثانوية العامة من اكمال دراساتهم الجامعية تمثل تحديات هامة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان وتعيق تطوير سوق العمل ومده بالمهارات المهنية الملائمة. كان الدكتور محمد الرميحي يطمح بأن يتولى المسؤولون عن التعليم من صياغة استراتيجية للتنمية البشرية تمكن من انخراط الكويت والبلدان العربية في مسيرة الحضارة الإنسانية وتمكن من استيعاب التطورات التكنولوجية المتسارعة.
يرى الدكتور محمد الرميحي بأن التعليم أدى إلى ركود الثقافة العربية وتعطل الذهن عن الفرز بين الحقيقة والخرافة. ويضيف بأن القيود السياسية واحتكار الدولة لوسائل الإعلام عطلت التفكير الحر والتفكير النقدي.
* *
عامر ذياب التميمي - مستشار وباحث اقتصادي كويتي
Email: ameraltameemi@gmail.com
** ** **
دولة الكويت والقوّة الناعمة للثقافة
يمكن لي الزعم أن منتجات الثقافة الكويتية رافقت كلّ مراحل حياتي وحياة أبناء جيلي، إبتداءً من البرنامج التلفزيوني الهائل «افتح يا سمسم»، الذي كانت تنتجه مؤسسة الانتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، وكان مقرّ المؤسسة في دولة الكويت، لما كانت تحتويه من بيئة حاضنة للطاقات الابداعية العربية، ومنهم المبدعون العراقيون، وعلى رأسهم، الشريك في تأليف هذا البرنامج الكاتب والشاعر العراقي زهير الدجيلي، بالاضافة الى الشاعر فلاح شاكر، الذي شارك في تأليف الأغاني وتلحينها. وأسماء أخرى من ممثلين وفنيّين.
كنّا نتابع مطبوعات مثل مجلة «العربي الصغير» التي كانت تدخل بنسخ محدودة الى العراق، وكانت مثيرة للاهتمام في تلك الأوقات برفقة المجلات العراقية المعتادة المخصّصة للأطفال والمراهقين مثل مجلة «مجلتي» و«المزمار».
وفي بدايات المراهقة ومع اقتنائي لأول جهاز راديو ترانزستور صغير صرت مدمناً على إذاعة الكويت، وبالذات التمثيليات الاذاعية باللغة العربية الفصحى المعدّة عن قصص وروايات عربية وعالمية، وأيضاً برنامج «شاهد على العصر»، الذي طالعت من خلاله صوراً مختصرة عن أحداث ووقائع وحكايات من أرجاء العالم، ويتم تقديمها بطريقة درامية، وبأصوات أشهر الممثلين الكويتيين والعرب.
كانت لحظة درامية بالغة بالنسبة لي، صبيحة يوم الثاني من آب/أغسطس 1990 حين صحوت من نومي وفتحت الراديو وبقيت أحرّك مؤشّر البحث ولم أعثر على إذاعة الكويت. بقيت لبعض الوقت منشغلاً بالبحث عن الإذاعة حتى فتح بعض أفراد العائلة التلفزيون وطالعنا البيان الحكومي الذي يعلن عن احتلال الكويت. كان الحدث صادماً للجميع ومبعث قلق كبير، وكان محزناً أيضاً، وإن بشكل أقل وطأة، لأن إذاعتي الأثيرة قد اختفت.
كانت هذه الإذاعة مصدراً ثقافياً غنياً لمراهق متعطّش للمعرفة وليس مجرد اذاعة تبث الأخبار والأغاني، ولا أظنّ أن اذاعة عربية أخرى كانت توازيها في هذا المجال، والسبب أن العاملين عليها استقطبوا أهم الطاقات الابداعية العربية في الكتابة والتحرير وأجمل الأصوات الاذاعية وكوادر ممثلين محترفين.
في فترة العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق بدأ الكثير من المثقفين والأكاديميين يبيعون أجزاء من مكتباتهم على أرصفة شارع المتنبي في بغداد، في محاولة لمواجهة العوز والفاقة، وقد تبيع بعض الأسر كامل المكتبة بعد وفاة صاحبها، ومن بين تلك الكتب كانت تظهر الاصدارات القديمة (ما قبل آب 1990) من سلسلة عالم المعرفة.
إنتقلت تلك النسخ الى أيدي مقتنين جدد، اشتروها بسعر زهيد، لأنها قديمة ومستعملة، وصارت أغلب مكتبات جيل المثقفين الشباب تحتوي على أعداد من هذه السلسلة الهامّة، وما زلت أتذكر أنني حصلت على الجزء الأول من كتاب (أدب أميركا اللاتينية: قضايا ومشكلات) من ذات السلسلة، من تحرير سيزار فرناندث مورينو وترجمة أحمد حسان عبد الواحد، وهو من اصدارات العام 1987، وبقيت أشهراً طويلة أنقّب بين تلول الكتب على أرصفة شارع المتنبي بحثاً عن الجزء الثاني، حتى حصلت عليه في نهاية المطاف.
لقد كانت لأغلب البلدان العربية ومؤسساتها الثقافية الرسمية والخاصّة أدواراً مهمة في تنمية وتطوير الثقافة العربية ولا شكّ، ولكن الكويت أخذت حصّة كبيرة، أكبر من حدودها الجغرافية، وتحوّلت الثقافة بمختلف صنوفها ومجالاتها الى قوّة ناعمة مدّت الأواصر مع فئات كثيرة من الاجيال المتعلمة في العالم العربي، وتلك التي غدت لاحقاً جزءاً من صناعة الثقافة والابداع. وهو دورٌ أتمنى شخصياً أن تستمر الكويت في تأديته وتطويره، لأن الاستثمار في الثقافة ليس فيه خسارة أبداً.
* *
- أحمد سعداوي
** ** **
الرميحي: أستاذي ولو لم تجمعني به قاعات الدراسة
معرفتي بالأستاذ الدكتور محمد الرميحي تعود إلى عام 1976، حين شاركت في إحدى اللجان التنظيمية للإعداد لمؤتمر مصادر تاريخ الجزيرة العربية الذي استضافته حينها كلية الآداب بجامعة الملك سعود. التقيته بالمصادفة على هامش إحدى جلسات المؤتمر، ودار بيننا حديث عابر حول المفاضلة بين بريطانيا وأمريكا للدراسات العليا. وتكرر اللقاء بعد أربع سنوات حين حضرت محاضرة قيمة له على جمع من الطلبة العرب في جامعة ولاية متشجن تناولت بعض من القضايا السياسية التي تمر بها المنطقة العربية بشكل عام، وملاحظات ومقترحات حول البحث العلمي والمنهجيات التي تحتاجها دراسات الظواهر الاجتماعية في دول الخليج العربي.
وتكرر اللقاء للمرة الثالثة في عام 1988 حين تصادفت زيارته للرياض مع وجودي في المملكة لجمع المعلومات والبيانات لرسالة الدكتوراه عن التاريخ الاجتماعي للتلفزيون في ثلاث دول خليجية (السعودية - الكويت - البحرين). وكانت لنا جلسة مطولة تناولت الكثير من الاعتبارات التي يجب أخذها في الحسبان لفهم آليات اتخاذ القرار في السياق السياسي والاجتماعي في دول الخليج والتداعيات المحتملة له، مع شواهد حاضرة من الواقع الثقافي والإعلامي في هذه الدول الثلاث.
على الرغم مما يبدو من تباعد وتقطع بين هذه اللقاءات الثلاثة، إلا أن أثرها تعزز بالقراءة لعدد من كتبه التي حرصت على الاستفادة منها لما لها من ارتباط وثيق باهتمامي بسيسيولوجيا الإعلام بشكل عام، وفي دول الخليج بشكل خاص. كما تعزز أثرها بعد اللقاءات السنوية التي جمعتنا في منتدى التنمية الخليجي التي داومت على حضورها طيلة الثلاثين عاماً الماضية. كان ولا يزال للدكتور الرميحي حضور واضح فيها إما متحدثاً أو مشاركاً. وتعمّقت العلاقة بيننا بعد أن سعدت وشرفت بالعمل معه، ومجموعة مميزة من الأخوات والإخوة الأفاضل في إدارة المنتدى خلال العشر السنوات الماضية.
أتيت بهذا السرد لتاريخ تشرّفي بمعرفة الدكتور الرميحي ليتضح أن ما أذكره من ثناء في ثنايا هذه المقالة ليس من باب المجاملة، ولم يكن من لحظات عابرة، بل من لقاءات اتسمت بقدر عال من البعد الأكاديمي والثقافي، مما يشفع لي الادعاء بأنه بمثابة أستاذ لي.
الأستاذ الدكتور محمد الرميحي ليس بحاجة لثناء مني، فهو قامة أكاديمية وفكرية وثقافية، وتؤكد ذلك الجوائز التقديرية التي استحقها؛ بدءاً من الجائزة التقديرية من مؤسسة التقدم العلمي في الكويت، ومروراً بجائزة ابن سيناء من منظمة اليونسكو، وجائزة سلطان العويس، ووسام الشرف من درجة فارس في الثقافة من فرنسا، وجائزة الكويت التقديرية (أعلى جائزة تمنحها الكويت)، ومؤخراً -ومؤكد أنه لن يكون أخيراً - جائزة شخصية العام الإعلامية من منتدى الإعلام العربي في دبي عام 2023 .
الإنتاج الأكاديمي للدكتور الرميحي شاهد بارز على المكانة العلمية التي يحظى بها كأحد أبرز المتخصصين في علم الاجتماعي السياسي في العالم العربي، حيث اتسمت مؤلفاته بالقراءات النقدية والمقاربات النظريات التي لها إسهامات وإضافات قيمة للمكتبة العربية بدراسات تناولت القضايا والظواهر في سياقاتها الاجتماعية والسياسية سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي.
وكتاباته الصحفية في عدد من الصحف العربية شاهد بارز على مكانته في المشهد الثقافي العربي، حيث يتناول في مقالاته الأسبوعية قضايا راهنة بكل أبعادها ومحاورها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبأسلوب يتجاوز الكتابة الإنشائية التقليدية المعهودة، وثري بالأدلة والاستشهادات المنطقية تتناسب مع تتطلبه الكتابة الصحفية بأسلوب السهل الممتنع.
لم أسمع ذكراً لاسمه بين الأصدقاء والزملاء، إلا ويكون الثناء والتقدير والاحترام حاضراً.
متعه الله بالصحة والعافية ليستمر في مسيرة العطاء والإنجاز.
* *
أ.د. إبراهيم عبدالعزيز البعيز - أستاذ الإعلام ورئيس قسمه الأسبق بجامعة الملك سعود
** ** **
منارة فكرية منذ خمسينيات القرن الماضي
مثَّلت مجلة العربي الكويتية منذ صدروها أواخر خمسينات القرن الماضي منارة علمية أضاءت ردهات العالم العربي والعالم كله، فهي مجلة رائدة على المستوى الزمنى من جهة عندما ظهرت في مرحلة زمنية مبكرة، ومن جهة أخرى على مستوى الفكر والثقافة والمعرفة الرصينة الهادئة خاصة في سنواتها الأولى حين كان العالم العربي يضطرم بالشعارات بينما استمرت العربي محافظة على خط ثقافي متزن لم يفقد بوصلته التي اتجهت دائمًا لهموم العالم العربي الثقافية والمعرفية والفكرية.
إن قدرة القائمين على العربي بمختلف مراحلها الزمنية على مقاربة ما يعني الإنسان العربي بشكل مباشر والتركيز عليه وفق إستراتيجية واضحة المعالم جعلت منها المجلة العربية الأولى سنوات طويلة ولا تزال إذْ لا تخلو ذاكرة الإنسان العربي البسيط فضلاً عن المعني بالثقافة والفكر من مجلة العربي عبر قضية أدبية تراثية أو حديثة أو قصيدة عذبة أو قصة قصيرة أو قراءة نقدية أو تعريف بمدينة عربية أو كتاب وغير ذلك، ويتكرس هذا الحضور ويزداد كثافة بانشغال الصحافة العربية إجمالًا وربما غرقها بالصراعات والمشاحنات التي تبدأ ولا تنتهي ما نفر القارئ العربي وصرف نظره ومتابعته.
يقال إن العرب اتفقوا على ألا يتفقوا، أو على الأقل العرب نادرًا ما اتفقوا، لكن المفارقة أنهم اتفقوا على مجلة العربي فباتت مجلة العرب فعلًا وعلى أرض الواقع حيث لا تكاد تذهب إلى دولة عربية ولا تجد مجلة العربي في مكتباتها وجامعاتها وبين أيدي أبنائها. ومع مرور الزمن تماهى القائمون على العربي مع المتغيرات ونشطوا في نشر المجلة في أوعية إليكترونية تسهل وصولها للقراء والمحبين.
* *
- د. محمد ن خليفة الخزّي
** ** **
«مجلة العربي: نافذتي الأولى إلى عوالم الفكر والثقافة»
على المستوى الشخصي، كنت من المعجبين بمجلة العربي والحريصين على اقتنائها وقراءتها منذ أيام الدراسة الأولى في المرحلة المتوسطة. من خلالها، عرفت الكثير عن مناطق ومدن عديدة على امتداد الوطن العربي، وتابعت ما كان يكتبه رئيس تحريرها الأسبق أحمد زكي، ثم الرميحي، وهكذا حتى بدأت في البحث عن أعدادها الأولى التي سبقتني. كوّنت مكتبة تضم أعدادًا من مجلة العربي، إلى جانب مجلات أخرى مثل الفيصل، والعرب، والمجلة العربية، وغيرها.
حقيقةً، كانت الإصدارات التي تصلنا من الكويت، وفي مقدمتها مجلة العربي، والنهضة، وغيرهما، تشكل نافذة ثقافية لرواد المعرفة والأدباء والشعراء المتابعين لها، خاصة أن كثيرًا منهم -وأنا أحدهم- تتلمذنا على تلك الطروحات الأدبية والأقلام الجادة التي ظهرت في هذه المجلات، وعكست مختلف التيارات الفكرية والثقافية في بلدانها، سواء في الخليج العربي، أو مصر، أو شمال أفريقيا، أو الشام، أو العراق، وحتى في المهاجر التي تضم أصواتًا شعرية وأدبية عربية المنشأ.
لقد تأثرت بمجلة العربي خصيصًا، وكتبت لها خاطرة نُشرت لي عام 1970م، حين كنت في الصف الأول الثانوي.
** ** **
مجلة العربي: نافذة العرب إلى الفكر والثقافة
تُعَدُّ مجلة «العربي» الكويتية من أبرز المنارات الثقافية والفكرية في العالم العربي، حيث قدمت منذ تأسيسها مزيجًا متميزًا من الأدب والعلم والفكر. شكّلت افتتاحيات الدكتور أحمد زكي، أول رئيس تحرير لها، حجر الأساس لهذا النهج الفريد، بأسلوبه الذي دمج بين الرصانة العلمية والجمال الأدبي. وإلى جانبه، أسهم كتّاب مرموقون مثل زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا في ترسيخ مكانة المجلة كمنصة ثقافية شاملة.
تميزت مجلة «العربي» بتغطية الأحداث الكبرى في العالم العربي، حيث سلطت الضوء على القضية الفلسطينية بعد نكسة 1967، وتناولت تأثير انتصار العرب في حرب 1973. كما أبدعت في استكشاف المدن العربية من المحيط إلى الخليج من خلال استطلاعات ميدانية أعدّها سليم زبال وأوسكار متري، مما كشف النقاب عن جوانب خفية في بلدان الوطن العربي. هذا بجانب نشر قصص مترجمة وأعمال لكتّاب عرب بارزين مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس، مما أضاف بُعدًا أدبيًا راقيًا.
خلال فترة رئاسة الأستاذ أحمد بهاء الدين (1976-1982)، شهدت المجلة نقلة نوعية بتوجهها نحو الفكر السياسي الحديث، مع توسيع دائرة كُتّابها وتقديم حوارات عميقة مع رموز الفكر العربي. أما في عهد الدكتور محمد الرميحي (1982-1999)، فقد ارتقت المجلة إلى مستويات جديدة من التميز، حيث تناولت موضوعات فكرية وسياسية عالمية وطرحت تحليلات معمقة لأبرز الكتب الأجنبية، مع تنوع في الكُتّاب من مختلف أقطار العالم العربي.
واجهت المجلة تحديات العصر الرقمي في فترة رئاسة الدكتور سليمان العسكر، إلا أنها تمكنت من الحفاظ على تألقها عبر تقديم محتوى ثقافي وفكري متجدد. ومع دخولها عالم النشر الإلكتروني بقيادة الأستاذ إبراهيم المليفي، باتت المجلة أكثر قربًا من قرائها وسهولة في الوصول.
لا يمكن الحديث عن مجلة «العربي» دون الإشادة بالدور الرائد للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، الذي أثرى الساحة الثقافية بإصدارات متميزة مثل «عالم المعرفة»، و»عالم الفكر»، و»الثقافة العالمية». هذه الإصدارات قدمت زخمًا ثقافيًا متنوعًا في الأدب والعلوم والفكر، ما جعلها مرجعًا للمثقفين العرب.
ختامًا، تظل «العربي» ذاكرة الأجيال ومنبرًا ثقافيًا خالدًا. واستمرار الكويت في دعمها للمجلة يعكس التزامها الراسخ بتعزيز الفكر العربي وترسيخ مكانتها كمنارة للثقافة والتنوير.
** ** **
الذاكرة الثقافية
ترتبط الذاكرة ببدايات الاهتمام بالقراءة، ومن ذلك بعض المجلات العربية الخالدة بتاريخها وبمن قام عليها من الأدباء والمثقفين والمفكرين. كانت المجلة في فترة ماضية عبارة عن كتاب رصين، مليء بالجواهر والدرر، وذلك للعناية الفائقة التي كانت تجدها تلك المجلات الرائدة.
ولا شك أن دولة الكويت الشقيقة تُعد من الدول الرائدة في مجال الثقافة، ولعبت دوراً حيوياً في إثراء الفكر الخليجي والعربي. حينما نذكر الكويت، نستحضر حضور مجلة العربي والمسرح العالمي والثقافة العالمية. وأجزم تأكيداً أنه لا يخلو بيت أو مكتبة من هذه الإصدارات، التي شكلت دوراً مهماً في إثراء الميدان الثقافي، وما زالت تشكل جزءاً من التغذية الثقافية التي استمرت على مدى تاريخ طويل.
إن الدور الثقافي الذي لعبته الإصدارات الثقافية في دولة الكويت الشقيقة هو دور بالغ الأهمية في جميع المجالات. وهي مرحلة تاريخية مهمة في التاريخ الثقافي العربي، الذي ننظر إليه بعظيم الاحترام والتقدير، ونلمس أثره على الساحة الثقافية على مدى تاريخ طويل.
والالتفاتة من قبلكم لتسليط الضوء على هذا التاريخ هو وفاء يُسطّر بامتنان وتقدير واعتزاز.
* *
- عبد الله السحيمي
** ** **
مجلة العربي: ديوان الثقافة العربية
المتتبع للبيئة الثقافية التي صدرت فيها مجلة العربي الكويتية عام 1958، يجد هيمنة ثقافية لبعض الدول العربية، وكانت الأجواء السياسية مشحونة؛ حيث وُقّعت اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا، وسقطت الملكية في العراق في ذلك العام، وارتفع صوت القومية العربية، في ظل تراجع تأثير الصحف الخليجية، التي كانت تواجه فكرًا ثقافيًا يمكن وصفه -دون مبالغة- بأنه إقصائي إلى حد ما. كانت تلك الصحف غير مؤثّرة وفي بداياتها آنذاك؛ وربما كان هذا الجو السياسي الذي نشأت فيه مجلة العربي هو ما دفع مؤسسيها إلى اتخاذ شعار: «يكتبها عرب ليقرأها كل العرب».
ومنذ صدورها عام 1958م، قبل حوالي 66 عامًا وحتى اليوم، شكّلت مجلة العربي الكويتية رمزًا ثقافيًا عربيًا متميزًا، ومنبرًا معرفيًا شعبيًا في زمن ما قبل الإنترنت. فقد رسمت هوية جديدة لمعنى المجلة الثقافية، بعيدًا عن الأيديولوجيات السياسية. يظهر ذلك في أن رؤساء تحريرها الأوائل كانوا من مصر والعراق، كما شارك في كتابة مقالاتها أبرز الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، مثل طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، ونزار قباني، وفاروق شوشة... وغيرهم من وجوه الثقافة العربية القدامى والمعاصرين.
العربي ليست مجرد مجلة؛ بل كانت مسرحًا مصورًا للترويج للثقافة بمفهومها الواسع، عبر إصداراتها الفصلية، ومجلة الطفل، والندوات الثقافية، والمسابقات، والأبواب الصحفية المتنوعة. كما كانت «هدية العدد»، التي تُعلّق على الجدران في معظم البيوت العربية، علامة مميزة. ساهمت المجلة في تشكيل المثقف العربي، وليس الخليجي فقط، باستخدام تقنيات صحفية متطورة، مثل الصفحات الملونة، والورق المصقول، والاستطلاعات الصحفية، التي جعلت المدن العربية في متناول القارئ الخليجي والعربي -ربما لأول مرة-. إنها مجلة تعدّ جزءًا من وجدان جيل عربي كامل، أثّرت فيه، فأثراه.
وفي عام 1969، صدر العدد الأول من سلسلة المسرح العالمي، وهي سلسلة من المسرحيات العالمية المترجمة لكبار الكتاب المسرحيين العالميين. ساهمت هذه المسرحيات في تنمية الوعي الفني المسرحي وإثرائه فكريًا وأدبيًا من خلال الترجمة المحكمة والتحليل الفني، الذي أشرف عليه كبار الأدباء والفنانين، وعلى رأسهم زكي طليمات، الذي كان له دور بارز في نهضة الحركة الفنية في الكويت.
كما ساهمت مجلة الثقافة العالمية، التي صدرت عام 1981م، في مد جسور ثقافية مع الأدب العالمي والثقافات المختلفة. ساهمت الترجمة في سد الفراغ الذي كانت تعاني منه المكتبة العربية في هذا المجال، مما أسهم في تشكيل ثقافة الناشئة في بلدان الخليج والعالم العربي. وقد برزت نتيجة ذلك أسماء أدبية وثقافية استفادت من هذا التنوع الثقافي في الإنتاج العلمي، على مدى سنوات عديدة.
* *
- منيف بن خضير الضوي
** ** **
إطلالة على عالم د. محمد الرميحي
تعرَّفت على الدكتور محمد الرميحي حوالي العام 1977م من خلال ترجمته لكتاب فريد هاليدي «المجتمع والسياسة في الجزيرة العربية». ثم في سنوات تالية قرأت العديد من كتبه ومقالاته. وبدا لي أنه أكثر علماء السياسة المعاصرين إحاطة بقضايا الخليج العربي. أني لا أعرف شخصاً آخر تمحض لهذا العمل طوال نصف قرن، وعالجه من زوايا مختلفة، بإخلاص وتمعّن قل نظيره.
ينتمي د. الرميحي إلى شريحة من الأكاديميين الذين حافظوا على التوازن الصعب بين الالتزام العلمي/الأكاديمي ومتطلبات الحديث في المنابر العامة، لا سيما الصحافة اليومية. هذا ليس بالأمر اليسير في الظروف السياسية والاجتماعية التي نعرفها. فالذين أرادوا الالتزام بالمعايير العلمية للكتابة، لم يحصلوا على مستمع أو قارئ، فنحن نعيش في زمن سريع جداً، لا يرغب أهله في المطولات ولا يحتملون التركيز على نصوص عسيرة.
لكن الكتابة «الأخف وزناً» تضعك أمام مشكلتين أخريين: رقابة الرقباء والتفريط في معايير العلم. والرقباء ليسوا واحداً، فثمة رقابة رسمية وثمة رقابة شعبية، وثمة فيما بينهما رقابة المنافسين والناشطين في المجتمع أو في السياسة. هذه الرقابة قد تدفع الكاتب رغماً عن أنفه، نحو كتابة لا تشير إلى أحد فلا تزعج أحداً، كتابة رمادية لا تقول شيئاً وإن ملأت الصفحات.
من السهل أن تعلق الثياب الممزقة على مشاجب الآخرين وتمشي خفيفاً. هكذا فعل العديد من الكتاب: رموا مشكلات بلدانهم على مشجب التدخل الأجنبي أو الظروف الدولية، أو حتى المؤامرات المتعددة الأطراف، وارتاحوا. أما المفكرون الذين على شاكلة الرميحي، فقد وضعوا أصبعهم على الجرح من دون مداورة. في تقديمه لكتاب «أولويات العرب.. قراءة في المعكوس» ، يقول إن: «الركود السياسي في بلادنا يؤدي إلى عدم الاستقرار الداخلي، وتظهر آثاره في أعمال الإرهاب من جانب ، أو الهجرة المتدفقة إلى الغرب من جانب آخر». ومن علامات هذا الركود، أن العرب اعتادوا تجنب النقاش في مشكلاتهم الواقعية، مع أنهم يناقشون مشكلات العالم كله. يقول الرميحي أن البيئة السياسية العربية متأزمة. لكن بؤرة التأزم ليست قضايا يمكن للمجتمع أن يشارك في حلها، أو أنها في الأساس ليست جوهرية. العرب مشغولون بالجدل حول من يتولى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من اهتمامهم بسيادة القانون في بلادهم، على سبيل المثال، وهم مشغولون بتحولات القضية الفلسطينية، أكثر من انشغالهم بالمساواة والتنمية في مجتمعاتهم. ولهذا فهم متشبعون بالسياسة، لكنهم بعيدون جداً عنها.
من الأسئلة التي شغلت جانباً كبيراً من اهتمام د. محمد الرميحي، سؤال النهضة والتخلف، ولا سيما حصة المجتمع العربي من المسؤولية، أي: ما الذي يجعل المواطن العربي هامشياً، لا دور له ولا فاعلية ولا تأثير في حركة السياسة، على المستوى المحلي والخارجي؟
يعتقد الرميحي أن النظام السياسي يتحمّل جانباً من اللوم. لكن الثقافة الموروثة تتحمّل الجانب الأعظم منه. عقولنا مثقلة بالأوهام حتى لا نكاد نرى الواقع الذي أمامنا. كان الاجتياح العراقي للكويت من الصدمات البليغة. ويحز في النفس أن الذين قاموا بالاجتياح والذين أيدوه كانوا من دعاة الوحدة العربية. فإذا كنا عاجزين عن إقامة هدنة فيما بيننا، أي وقف إطلاق النار، فكيف نتحدث عن الوحدة؟ لماذا لا نناقش الأسباب التي تجعلنا عاجزين عن التسالم، ثم عن التعاون، حتى نصل إلى مرحلة النقاش في الوحدة. لكن الرميحي يعتقد، كما في كتابه المثير «سقوط الأوهام.. العروبة بعد غز العراق للكويت» أن ثقافتنا هي مصدر العجز، أو هي أحد المصادر المؤثّرة، على أقل التقادير «لدينا ذاكرة عربية مثقلة بكل مرارات الماضي وثارات التاريخ، محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزعات العرقية والدينية، وكلما وقفنا على أبواب المستقبل، ردتنا هذه الذاكرة إلى الخلف - سقوط الأوهام 254».
- لو سألت الرميحي: ما الذي علينا أن نفعل؟
لأجابك بأن المهمات كثيرة، لأن جوانب التقصير عديدة متنوعة. لكن دعنا نبدأ من مسارين: مسار يؤسس واقعاً كريماً، ومسار يؤسس مستقبلاً منيراً. أما الأول فيتجلى في ضمان الحريات العامة وتوسيع مشاركة الجمهور في الشأن العام (مجلس التعاون العربي ص 46) وأما الثاني فمحوره تصحيح الثقافة، من خلال التعليم وبقية المنابر المؤثرة. ثقافتنا الراهنة مصابة بخلط مضر بين ثلاثة مفاهيم، هي الهوية والمعرفة والثقافة. وثمة من يتوهم أن الانفتاح على معارف الإنسان خارج حدودنا، سوف يجرح الهوية أو يزاحمها. كما أن هناك من يعتقد أنه قادر على تحجيم التحولات الثقافية التي يعرفها عالم اليوم، وحشرها في قوالب يتوهم أنها حدود الهوية. لكن الواقع أن ما يفعله مجرد انفصال عن عالم اليوم، انفصال يتعاظم حتى يصبح جزءاً من التاريخ. نحن بحاجة إلى تصحيح ثقافتنا، كي نستطيع فهم العالم بصورة صحيحة.
* *
- توفيق السيف
** ** **
مجلة العربي مرآة الثقافة العربية
«يكتبها العرب، ليقرأها كل العرب».
أنا من جيل تربى وعيه الثقافي على الكتب الورقية والمجلات الثقافية التي لم تكن تقل أهمية عن الكتب، بما تتميز به من تنوع وجهات النظر الثقافية والاتجاهات الفكرية المختلفة.
وكان والدي -رحمه الله- محباً لاقتناء الكتب بدءاً من طه حسين مروراً بالعقاد وشوقي ضيف وإحسان عباس وغادة السمان وأمهات الكتب العربية، وكانت المجلات الثقافية لها نصيب من مكتبته مثل مجلة العربي الكويتية ومجلة فصول ومجلة الهلال.
ولم يكن منحازاً لاتجاه فكري معين، وهذا الانفتاح الفكري يعلّم المرء حرية الفكر واحترام ثقافة الاختلاف.
وهذا الفرق بين الكتب والمجلات الثقافية؛ فالكتب تقدّم لك وجهة نظر أحادية وحيناً متطرفة، خلاف المجلات الثقافية التي تُقدّم لك وجهات نظر مختلفة وحيناً متعارضة وهذا مفهوم تعليم حرية الرأي وأدبيات ثقافة الاختلاف.
لا أحد يُنكر أن «الكويت» كانت بالنسبة للخليج منارة ثقافية وفنية وإعلامية، وهذه القيمة الثقافية تجلّت في مجموع المجلات الثقافية التي شكّلت الوعي الثقافي الخليجي، وكانت انعكاساً للتنوع والانفتاح الثقافي الذي كانت تحظى به البيئة الثقافية الكويتية.
وتمثّل هذا التنوع في نخبة المثقفين الذين استقطبتهم المجلات الثقافية الكويتية مثل «مجلة العربي» والتي حتى الآن تحظى بالنسبة لي «بقيمة ثقافية» وخاصة في أرشيفها الذي يعتبر تاريخاً للتطور الثقافي العربي وبوصلة لحركة الاتجاهات الثقافية العربية في عصر الازدهار الفكري والثقافي العربي من خلال مقالات لأعظم كتاب العربية الجدليين أصحاب الاتجاهات الأدبية والثقافية الجديدة عبر التاريخ الأدبي العربي الحديث من طه حسين ونزار قباني ونجيب محفوظ وغيرهم من مثقفي العربي الجدليين.
وهنا سوف أتحدث عن «مجلة العربي» باعتبارها من المصادر الثقافية والممتعة والجذابة لي حتى الآن، سواء على مستوى اختيار أغلفتها أو العبارات الترويجية على أغلفتها التي تتميز ببلاغة الجذب والإبهار.
إن أرشيف هذه المجلة -مجلة العربي- هو مرجع حيويّ ومصدر من مصادر البحث لمرحلة التطور الأدبي والثقافي في تاريخ الأدب العربي، وهذه المجلة الرائدة تجاوزت صفة الإصدار الثقافي إلى صفة الفاعل الثقافي الذي كان له أثر في تشكيل الوعي الثقافي لمثقفي العرب، وأفسحت المساحات الحرّة لتلاقي الأفكار الأدبية والثقافية والفكرية لا أقول في نسق توافقي، بل في نسق تكافؤ فرص الحضور وضمان مساواة التنوع، وهذا المنهج هو ما نراه اليوم ونقرأه في المجلة الثقافية.
ولم يقتصر اهتمام «مجلة العربي» وهي المجلة التي أتابعها دوماً سواء على مستوى أرشيفها أو حاضرها، باستقطاب الكتّاب الجدليين أصحاب الرؤى التنويرية، بل توسع أفقها الفكري إلى القضايا الفكرية والثقافية العربية الراهنة والتي تنمو على شواطئ الصراع؛ لِما لتلك القضايا من تأثير في التحول الثقافي العربي.
إن القيمة والتأثير الثقافيين لمجلة عريقة مثل مجلة العربي التي تم تأسيسها عام 1958م ، لا تنحصر في الاهتمامين السابقين، بل تحولت إلى مركز ثقافي تنموي من خلال «مجلة العربي للصغار»، وبذلك وسعت جمهورها، وهذا مؤشر آخر لاستدامة تأثيرها في الوعي الثقافي؛ التجديد سواء على مستوى تنوع القضايا الفكرية العربية أو استقطاب أجيال جديدة لتشكيل وعيهم الثقافي الصافي.
إن كلمة السرّ في دوام تألق أي منجز ثقافي هي «قيمة المبدأ» الذي يمثّله ويستديم عليه، وفي حين التهم الظل مجلات ثقافية عربية كانت على مرأى ومسمع الميدان الثقافي، بقيت مجلة العربي؛ لأنها تحمل مبدأ أصيلاً ورؤية عابرة للأجيال، وإيماناً بقيمة التنوع، والسعي إلى التجديد، والشمولية التي شكّلت منهجها «يكتبها العرب ليقرأها كل العرب».
** **
المجلات الثقافية الكويتية: منارات فكرية وإشعاع ثقافي مستمر
لا ريب أن المجلات الثقافية الكويتية ومنذ أكثر من ستة عقود، أدت دوراً كبيراً في نشر الثقافة وإنارة العقول ورفع مستوى ثقافة القارئ العربي، من خلال ما تنشره من بحوث رصينة ومقالات جيدة واستطلاعات مصورة، فهي صحافة رزينة لا تهدف إلى الربح المادي، ولا تتدخل في شؤون السياسة، ولا تثير النعرات القبلية. وما زالت مجلة العربي مستمرة في الصدور، وهي إحدى المنارات الفكرية المهمة التي حملت اسم الكويت إلى الآفاق البعيدة وخير سفير لدولة الكويت، وكان صدورها قبل الاستقلال بنحو 3 أعوام، ووصل توزيعها إلى أكثر من 300 ألف نسخة! وهي ذات طباعة راقية وجميلة تنافس أشهر المجلات الأوروبية، وتباع في كل الأقطار العربية بثمن زهيد؛ لكي يتمكن الجميع من قراءتها واقتنائها، فلا يكاد يخلو بيت من وجود أعداد من هذه المجلة التي حققت شهرة كبيرة وانتشاراً واسعاً، وإن اضطرب توزيعها في السنوات الأخيرة، وصرنا لا نجدها تباع في المكتبات والأسواق! وكانت مجلة العربي في البداية تصدر عن دائرة المطبوعات والنشر، وتطبع في مطابع الحكومة التي أنشئت في منتصف الخمسينيات الميلادية، والتي كانت ترسل بعثات من الشباب الكويتي إلى مطابع ألمانيا وإنجلترا؛ لتعلم فنون الطباعة والتجليد والإخراج والتدبيس وغير ذلك. وتعد الكويت أكثر دولة عربية دعماً للثقافة، والحكومة الكويتية - ممثلةً في وزارة الإعلام- تنفق بسخاء على طباعة المجلات الثقافية وعلى تلك السلاسل الجميلة، وتتحمل تكاليف شحنها إلى كل أرجاء العالم، وتشارك في كل معارض الكتب المحلية والخارجية؛ لكي تصل مطبوعاتها إلى القارئ في كل مكان، وتحقق الأهداف النبيلة التي أنشئت من أجلها، فلا أحد كان يصدق أن هذه الدولة الخليجية الصغيرة تصدر كل هذا الحشد من المجلات: الفصلية والشهرية والأسبوعية بجميع أنواعها وتوجهاتها. وفي كتاب «موسوعة الصحافة الكويتية» الصادر قبل 3 أعوام توثيق مفصل لمعظم ما صدر من مجلات وصحف قديمة، سواء ما صدر قبل الاستقلال، أو ما صدر بعد أن نالت الكويت استقلالها عام 1961م. وقد كان قرارا موفقا عندما أنشئ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1973م، وكلف الشاعر الأستاذ أحمد بن مشاري العدواني بمنصب الأمين العام للمجلس الوطني، والمشرف على إنشائه وتأسيسه، وصاحب فكرة مطبوعاته وسلاسله المتنوعة. ثم انضمت مجلة العربي قبل سنوات إلى مطبوعات المجلس الوطني، وأصبحت تحت مظلته وإشرافه، وبقيتجلة الكويت تابعة لوزارة الإعلام، التي ما زالت تصدرها ولكنها تعاني من بعض المشكلات، مثل: مشكلة سوء التوزيع, وقلة الاشتراكات الحكومية والأفراد. وهي ما زالت منتظمة في الصدور منذ عام 1980م، وكانت ترفق مع بعض الأعداد كتيبات لطيفة هدية لقرائها عن بعض الشخصيات الكويتية التي ساهمت في بناء النهضة التعليمية والثقافية، بعنوان «كتاب الكويت»، ومن أبرز تلك الأسماء: يوسف بن عيسى القناعي، وعبدالله زكريا الأنصاري، وفاضل خلف. ولا يقتصر دور المجلس الوطني على إصدار الكتب وطباعة المجلات، بل يمتد إلى إقامة المهرجانات الثقافية، والإشراف على القصور التاريخية، وترميم المباني التراثية والمتاحف. وعن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تصدر مجموعة من المجلات والسلاسل الجميلة، التي ما زالت تجد إقبالاً جيداً من القراء في معارض الكتب، لا سيما سلسلة عالم المعرفة. ومن أبرز مطبوعات المجلس الوطني: عالم الفكر، وعالم المعرفة، والثقافة العالمية, وعالم المسرح، وإبداعات عالمية، وجريدة الفنون التي تعنى بالفنون، من سينما ومسرح وموسيقى وفنون تشكيلية، وقد صدرت عام 2001م؛ بمناسبة اختيار الكويت عاصمة للثقافة العربية، وكان رئيس تحريرها د. محمد الرميحي. ومن أهم الأعداد الخاصة التي أصدرتها العدد الخاص عن الأستاذ نجيب محفوظ بمناسبة وفاته. ومن أسف أن تتوقف هذه المجلة القيمة فجأة بصدور العدد 183، ووزع مع العدد الأخير كتيب صغير عنوانه «رواد الحركة التشكيلية في الكويت»، وقبل سنوات أصدرت كتيبا جميلا عن المطرب الشهير عبداللطيف الكويتي. وسأتوقف قليلا عند مجلة عالم الفكر، وهي مجلة فصلية محكمة، تعنى بنشر البحوث المطولة والدراسات النقدية، وكانت في سنواتها الأولى تصدر بحجم مجلة «فصول» المصرية. هذه المجلة القيمة التي كانت دسمة في بحوثها ودراساتها الجادة، أصدرت أعدادا خاصة ستكون مرجعا للباحثين، أشير هنا إلى بعضها: حضارة الأندلس، ودراسات في التراث، وأدب الرحلات، والفكاهة والضحك، والجنون في الأدب، وفلسفة التاريخ، وأدب المراسلات. أتمنى في الختام من دولة الكويت الشقيقة أن تظل مصدر إشعاع ثقافي، وأن تستمر مجلاتها في الصدور دون انقطاع، وأن تحاول أن تتغلب على مشكلة سوء التوزيع!
* *
- سعد بن عايض العتيبي
** ** **
ملامح وممالح
ثقافة الرميحي تصيب كبد السياسة
اسمٌ تعرفه الأوساط السياسية في مشهدنا الإعلامي الخليجي والعربي، اسم حفر بمشاركاته وكتبه وندواته ومحاضراته ومشاركاته المتعددة على كافة الأصعدة وبكل المستويات، هو حرف صعب في أبجديتنا الفكرية، قارئ نهم في الأبعاد الداخلية والخارجية: نفط، حروب، نزاعات نار تأجج القطيعة من صراعات واشتباكات في منطقتنا العربية والعالم، تقلّد مناصب قيادية عديدة في الإعلام وفي المؤسسات الثقافية، كتبه تحاكي الواقع بل نستطيع أن نقول : هو فضح بحنكته وإرثه وقراءاته الصائبة ما يدار خلف كل قرار سياسي.
مقالاته تُقرأ لتعلّم وينتظر الجميع صدق ما سطره بعدها، إن كتب أبان، وإن غضب ثار ، وإن عاتب لان، هو مؤسسة وحدها تمشي على أرض صلبة، إن رفع رأس قلمه نبّه وسار في المسار حتى تستقيم طرق السياسة هو يشبه كثيرا الشاعر العملاق المتنبي حين قال بعد كل قصيدة يقولها:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها
ويَسهرُ الخَلْقُ جَرّاها و يَختَصِمُ
وهاهو هذا الاسم المهم في خارطتنا السياسية والثقافية والإعلامية يكتب، يؤلف ، يبدع ، ينام تحت شجرة أفكاره قرير العين مرتاح القلب ، ويسهر متلقوه بين من يتفق ويختلف !
هو باحث ومفكر كويتي، تخصص في علم الدراسات الاجتماعية، لن أطيل في الحديث عنه فهو علامة فارقة سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً وإعلامياً إنه أيها السيدات والسادة:
الدكتور محمد الرميحي، هو أكاديمي، يُعد من الشخصيات المؤثرة في مجال الدراسات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، ولديه إسهامات واسعة في مجالات الإعلام والبحث الأكاديمي ، الدراسة الأكاديمية والتخصص، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم الاجتماعية من جامعة الكويت، والدراسات العليا: حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة درم في المملكة المتحدة.. كان له دور في تأسيس مجلة “العربي” الكويتية، حيث عمل رئيسًا لتحريرها لسنوات عديدة، وهي واحدة من أشهر المجلات الثقافية في العالم العربي، شغل مناصب استشارية وإدارية في عدة مؤسسات ثقافية وأكاديمية داخل الكويت وخارجها، كما كتب مقالات كثيرة تناول فيها قضايا سياسية واجتماعية تخص دول الخليج والعالم العربي، وله إسهامات عديدة في الصحافة العربية، حيث نشر مقالات في مجلات وصحف عربية كبرى مثل “الشرق الأوسط” و”الحياة”.
اهتمامه الحالي….
نحن أمام شخصية مختلفة، عاملة كاتبة، له آراؤه وأطروحاته العميقة، والسؤال الآن بعد هذا البسط المتواضع في مقالي لهذا الرجل النبيل العظيم بما يكتبه ويؤلفه من كتب ربما دول إن قرأتها وطبقت ما فيها أصبح لها شأن كبير يشار لها بالبنان .. السؤال :
ألا يستحق الدكتور محمد الرميحي أن يشغل منصبا أمين عام المجلس الخليجي؟
سطر وفاصلة
يقول الدكتور محمد الرميحي عن كتابه من العنوان :
الخليج ليس نفطا … كان الغواصون يعتمدون على الصيد .. حتى جاء النفط وصار الاعتماد عليه كلية فعمل نوعا من الخلل في القيم القديمة ولم نستحدث قيما جديدة، ولم يكن لدينا شيء مواز… كوّنَّا نظاما حديثا، ولم نُكوِّن القيم التي تتعامل مع هذا الحديث …
أرأيتم هذا المفكر العربي النادر؟
تحياتي لك دكتورنا، وأطال الله عمرك.. صحة.. وعافية.. وفكرا.. وسياسة.. وثقافة وفكرا.
** **
الكويت ومطبوعاتها: نافذة ذهبية على الثقافة والفكر العربي
في السنوات الأخيرة من الجامعة، كنا نتسابق على شراء مجلة العربي، وأحياناً كنت أتعرّف على بعض مناطق السعودية من خلال تحقيقات المجلة، وقد شاركت الكويت في الفترة الذهبية للكتابة بالسبعينيات وساهمت بشكل قوي في مسيرة الثقافة العربية من خلال مطبوعاتها، بالإضافة إلى مجلة العربي كانت مجلة «عالم الفكر» رائدة في الخطاب الفلسفي، وكانت نافذة مهمة للطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج، وخلال فترة الثمانينيات فتحت الإصدارات الكويتية لنا الأبواب للتفاعل مع الخطابات الفلسفية، حتى جاءت السوشيال ميديا وأضعفت الحالة الثقافية وأحدثت إرباكاً، فلم يعد عند الناس شيء اسمه الفكر أو العلم
* *
علي حسين - أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود، ومدير عام لمعهد العالم العربي في باريس الأسبق
** ** **
د. محمد الرميحي.. مفكر عربي من رواد الواقعية الخليجية
الأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الكويت مفكر عربي بارز ومرموق وله رصيد كبير من الإنتاج الفكري وصاحب حضور خليجي وعربي كبير وهو بالفعل كما يفضل البعض وصفه بأنه المتحدث باسم مجلس التعاون الخليجي في مجالات الفكر والإبداع والثقافة وطرح ومناقشة القضايا الخليجية، وهو من رواد المدرسة الواقعية في تبني قضايا منطقة الخليج وتحليلها والكتابة عن الواقع الخليجي واستشراف مستقبله، والأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي منحاز دائماً لقضايا منطقة الخليج والمدافع الصلب عنها والمهموم بمشاكلها والجريء في الطرح والمناقشة والساعي لإيجاد الحلول لمختلف القضايا والأزمات التي تعصف بالمنطقة وإقليم الشرق الأوسط.
الأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي علاقته العملية والأكاديمية بالفكر والإعلام قديمة، فبالإضافة إلى كونه أستاذًا مرموقاً في جامعة الكويت، فقد ترأس في ثمانينيات القرن العشرين رئاسة تحرير مجلة العربي الكويتية، أكثر المجلات العربية رصانة وانتشارًا ويعرفها القارئ العربي من المحيط إلى الخليج وظلت متربعة على عرش المجلات العربية فترة زمنية طويلة ومازالت تصدر حتى الآن رغم تحيات الإعلام المرئي والاليكتروني وتستمد شهرتها واستمرارها من فترة النضج والانتشار التي تحقق لها منذ انطلاقتها في عهد رئيس تحريرها المؤسس المرحوم أحمد زكي، ثم الكاتب والصحفي أحمد بهاء الدين ، وكان رئيس التحرير الثالث لهذه المجلة، والكويتي الأول هو الأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي الذي استمرت في عهده المجلة بنفس قوة وانتشار وتأثير من سبقوه في رئاسة التحرير ، بل أضاف إليها الكثير من عنصر القوة والجذب وجعلها تستمر في ريادتها وتفوقها، وكانت أحد مصادر القوة الناعمة الكويتية.
الدكتور محمد الرميحي مفكر من طراز فريد فهو أستاذ علم اجتماع سياسي وعلى إطلاع واسع جدًا بالشأن الخليجي ومتواجد في مناقشة حاضره ومستقبله ومتتبع لقضاياه وتطلعات شعبه، لذلك فهو يكتب في الشأن الخليجي سواء في الصحف العربية المرموقة أو المجلات والدورية الرصينة وهو يتكئ على مخزون كبير جدا من المعرفة والوعي والدراية بأوضاع المنطقة، ويمتزج هذا المخزون برؤية استشرافية ثاقبة يجترها من العلم بتاريخ المنطقة، كما أنه متتبع وراصد لمسيرتها مع التنمية والبناء ونهضتها الشاملة التي بدأت مع ما يسمى بعصر النفط، وبالقدر نفسه فهو يقف على حقيقة التحديات والمخاطر المحيطة بمنطقة الخليج العربي وقدرة دولها على مواجهة هذه التحديات، لذلك نجد له نظرة شاملة وموضوعية عند مناقشة التحديات والمخاطر المحدقة بدول مجلس التعاون الخليجي، وبالدرجة نفسها من الموضوعية والحياد يبحث عن الحلول التي تخدم دول مجلس التعاون ككل دون الانحياز إلى تقسيمات جغرافية، أو سياسية، أو إدارية، بل رؤية تصب في صالح المنطقة وتمكنها من تجاوز التحديات التي تستهدفها في ظل الصراعات الإقليمية والتجاذبات الدولية ومع إرهاصات تشكل النظام العالمي الجديد، لذلك فهو يرى وحدة التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي، ويقف مع الحلول الجماعية التي تجعل دول المجلس قادرة على مواجهة هذه التحديات وتجاوزها بما يحقق تأمين دول مجلس التعاون الخليجي، وتحقيق الرفاهية والاستقرار لشعوبها، وهو في ذلك يدرك تمامًا مصادر التهديدات الإقليمية وأسبابها ودوافعها ومن ثم كيفية مواجهتها، ومن ثم تجد له مواقف واضحة تجاه التوتر الذي يعتري العلاقات الخليجية / الإيرانية ويرصد بدقة مصادر هذا التوتر ومنطلقاته وكيفية العمل على التهدئة والاستقرار على ضفتي الخليج العربي.
كما أن الدكتور محمد الرميحي على دراية دقيقة بالتركيبة العمرية لسكان دول مجلس التعاون الخليجي ومن ثم متطلبات هذه الشرائح خاصة شريحة الشباب ومن ثم مستقبل شعوب دول المنطقة، كما يناقش أهمية تنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي، وأيضا مخرجات التعليم وطبيعة وتوجهات التعليم نفسه ليكون رافدًا من روافد التنمية وحلقة من حلقات توسيع القاعدة الاقتصادية الخليجية وكذلك تعديل التركيبة السكانية في عدد من دول المجلس التي تتضح فيها هذه المعضلة، أي أن الدكتور الرميحي قريب جدًا من جميع القضايا الخليجية ومهموم بها ومتفاعل معها.
ومن خلال متابعتي الدقيقة والقديمة للدكتور محمد الرميحي وأفكاره وكتاباته إضافة إلى متابعة ما يكتب بصفة دائمة في مجلة (آراء حول الخليج) فيمكن القول وبكل موضوعية إن الأستاذ الدكتور محمد الرميحي مثقف شامل ومفكر متنوع المعارف ومعايش وراصد لقضايا منطقة الخليج العربي والقضايا العربية المختلفة، وهو يقترح الحلول الواقعية برؤى متزنة دون شطط أو انفعال عندما يتعرض لمناقشة القضايا والتحديات وكيفية التعامل معها.
ولقد نال الأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي الكثير من التكريم خلال مسيرته الممتدة - أطال الله عمره - وقد نال ذلك عن جدارة وهو تكريم صادف أهله، بل يستحق المزيد من التكريم من الجهات المعنية سواء في بلده الكويت، أو من دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية قاطبة خاصة أنه يكتب كثيرًا ويناقش الشأن الخليجي والعربي، بل أن مقالاته في مجلة (آراء حول الخليج) الشهرية التي تصدر عن مركز الخليج للأبحاث التي تنشر له مقالات بصفة دورية، ذات قيمة كبرى وسبق أن صدر له كتابين عن مقالاته المنشورة في هذه المجلة.. وما زال نهر العطاء متدفق لدى المفكر الكبير الأستاذ الدكتور محمد غانم الرميحي.
* *
جمال أمين همام - مدير تحرير مجلة آراء حول الخليج
** ** **
الرميحي عالم الاجتماع الذي يدهشك ببساطته الفطرية
ليس بالضرورة أن تكسب احترام الآخرين لأنك تعلّمت أكثر منهم ونلت أعلى المؤهلات والمناصب والمراتب التي لم تسعفهم قدراتهم أو ظروفهم لنيلها.
وربما يغفل البعض عن كون الاحترام والتقدير صدىً ارتدادياً، ناجماً عن بثّ روح الكائن المُحتَرَم طاقة تصلّ إليك فتجذبك للتعرف عليه والتواصل معه.
منذ أسعفني شغفي القرائي بالتعرف على عالم الاجتماع الدكتور محمد بن غانم الرميحي، وهناك همزة وصل من عاطفة وأفكار وإعجاب وصداقة محضني إياها، فتوطّدت علاقتنا وتعززت بثقة متبادلة.
ومن دواعي سروري بهذه الصداقة بين شيخ ومريد، وعالِم وطالب، أن أكتشف في شخصية الدكتور الرميحي الجديد، فعلم الاجتماع السياسي يفرض نفسه بحكم المستجدات والتحولات، وأجد عنده لكل سؤال أكثر من إجابة، وهو العفوي في طرحه والعميق في استنتاجاته وربما لعفويته أثر كبير في محبيه.
بصمة الدكتور محمد الرميحي في الحياة حضارية، فهو صادق ولذا تحلم به صديقاً، فصداقته لا حدود لها بحكم إنسانيته النقيّة، وهو بحكم عنصر الريف في شخصيته صاحب حدس لا يخيب، ولذا سهل على المُحبّ الوصول لقلبه، صعب الخروج من دائرة تقديره واحترامه وتبجيله.
هذا العالم الأشمّ يتقاطع مع علماء اجتماع عرب وعالميين في كونهم مهجوسين بنشر المعرفة نخبويّاً وشعبيّاً، ولذا فيه من التبسط والمودّة ما يغري بحفظ ما يقول من مصطلحات وأطروحات عسرة أحياناً، لكنه يقدمها بمنطق يشبه منطق علماء أصول الفقه، ولغة تقارب لغة الشعراء، وروح مليئة بحُبّ الخير للغير.
محمد الرميحي مدرسة أخلاق ووعي وفتح آفاق معرفية، جعل من الشقيقة الكويت محجّاً للنخب الفكرية والإبداعية بفضل مكانته عند المسؤولين وعند المثقفين، ونجح في عقد أبرز المؤتمرات والندوات التي ربما لم يحالف الحظّ عشرات ممن أتيحت لهم الفرص فألهتهم نرجسيتهم عمّا يجب عليهم وطنيّاً وإنسانياً.
هذه المبادرة التكريمية من الجزيرة الثقافية تستحق الاحترام مرتين؛ مرة لأنها تعرف قدر ومكانة الكبار، ومرة لأنها أحسنت بي الظن لأردّ للدكتور الرميحي ولها بعض الجميل، علماً بأنني (كلما جئتها أردّ ديوني، أكرمتني فحاصرتني الديون).
* *
- د. علي بن محمد الرباعي
** ** **
د. محمد الرميحي ومسيرة تطور مجلة العربي الكويتية
علاقتي بمجلة العربي الكويتية علاقة وثيقة منذ المرحلة المتوسطة في أواسط الستينات الميلادية، عندما زرت مدينة الرياض وعثرت على المجلة بعد صلاة الجمعة في مسجد الإمام تركي بن عبدالله (الجامع الكبير)، حيث كان البائع الشاب يعرض كتبًا متعددة وروايات مترجمة. كانت أعداد مجلة العربي تلمع تحت أشعة الشمس، ففرحت بها واشتريت بعض أعدادها الأولى، ثم اكتملت متابعتي الشهرية عندما صارت تتوفر في المكتبات.
كانت مجلة العربي مصدرًا للتنوير الثقافي والفكري والمعلوماتي، من خلال مقالات رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي، رحمه الله، الذي كان يكتب افتتاحية فكرية ومقالاً علميًا بأسلوب أدبي، وكذلك كتّاب العربي الآخرون مثل عزت إبراهيم، ومحمود السمرة، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وغيرهم. وساهمت المجلة في التوعية بالقضية الفلسطينية بعد هزيمة 67، وكذلك انتصار العرب في 1973 وما ترتب على ذلك من تطورات في العالم العربي.
مجلة العربي بوصلة ثقافية لتغيرات الوطن العربي. كما تميزت المجلة باستطلاعات (سليم زبال وأوسكار متري) عن المدن العربية في كل بلد عربي (من الخليج إلى المحيط)، مما أضاء لنا جوانب مجهولة في «بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد»، وهي القصيدة التي قرأناها في المرحلة الابتدائية. كذلك، القصص التي تنشرها العربي، سواء كانت مترجمة أو لكتّاب القصة العرب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم.
كانت العربي في بداية قراءاتي مصدرًا فكريًا وأدبيًا وعلميًا ومعلوماتيًا هامًا. وفي عهد رئيس تحريرها الثاني الأستاذ أحمد بهاء الدين، رحمه الله (1976-1982)، تطورت المجلة مع تحولات العالم العربي في السبعينات، وركز في افتتاحياتها على الفكر السياسي الحديث بلغته الصحفية الرائعة، كما تطورت بعض أبواب المجلة وتعدد كتابها وحواراتها مع مفكري وأدباء وعلماء العرب، واستمرت المجلة مصدرًا ثقافيًا وفكريًا وأدبيًا تعرفت من خلالها على أدباء وكتّاب وشعراء عرب، وأساليب أدبية وشعرية ونقدية، مما سهل عليّ قراءتهم بشكل أعمق.
وعندما جاء الدكتور محمد الرميحي كرئيس تحرير (1982-1999)، تطورت المجلة أكثر، وتناولت افتتاحياتها الهامة مقالات في علم اجتماع السياسة والتغير، وعرضت مقالات وموضوعات عربية وعالمية وتحليلاً لكتب أجنبية في الفكر الثقافي والسياسي العالمي والعربي. وتنوع كتاب المجلة من كل البلاد العربية، وحافظت المجلة على مادتها العلمية والأدبية والاجتماعية واستطلاعات العالم العربي، كما تعددت النقاشات والحوارات بين المفكرين والأدباء العرب. برز فيها نخبة من الكتاب والمفكرين والأدباء العرب، وساهمت المجلة في تعرّفنا على تنوع الفكر والأدب العربي في عدة دول عربية.
كما ساهم الدكتور سليمان العسكر، رئيس تحرير مجلة العربي خلال فترة رئاسته، في تطورها في المجالات الثقافية والفكرية والعلمية والتقنية، رغم تزامن صدور المجلة مع ظهور الإنترنت والنشر الإلكتروني. وما زالت مجلة العربي مصدرًا ثقافيًا وفكريًا وعلميًا مستمرًا لا غنى عنه، وقد سهلت نشر وتوافر بعض مقالاتها المتنوعة والثرية في موقعها الإلكتروني تحت رئاسة الأستاذ إبراهيم المليفي.
في تقديري، أن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت مؤسسة ثقافية رائدة تلعب دورًا محوريًا في التنوير العربي، وساهم في تطوير الحركة الثقافية الأدبية والعلمية في الخليج والعالم العربي. ومن خلال إصداراته المتنوعة، مثل سلسلة «عالم المعرفة» التي تتنوع في ترجماتها الهامة في المجالات الثقافية في الآداب والعلوم الطبيعية والتقنية والعلوم الاجتماعية (علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ)، كذلك إسهاماته في نشر مجلات علمية هامة مثل مجلة «عالم الفكر» ومجلة «الثقافة العالمية» وكتاب «المسرح العالمي»، والتي قدمت ثقافة حديثة وثرية للنخب والمثقفين العرب. وما زال المجلس مستمرًا في إصداراته الرائعة وفي خدماته الثقافية والعلمية المتميزة.
** **
«العربي» ذكريات مرحلة عمرية وفكرية
مجلّة «العربي» هي مجلّة كويتيّة شهريّة ثقافيّة، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. تأسّست عام 1958، وما زالت تصدر دوريًا منذ ذلك الحين.
بدأت في قراءة مجلة «العربي» في بداية سبعينيات القرن الماضي عندما كنت في المرحلة الإعدادية (المتوسطة)، ثم الثانوية. كان رئيس التحرير آنذاك د. أحمد زكي ثم الأستاذ أحمد بهاء الدين. كنت أذهب لمكتبة/قرطاسية في حي الشهداء في الطائف وأحجز العدد مسبقاً وأدفع ريالين ثمن العدد. كانت الريالان ثروة في ذلك الوقت، لكن «العربي» وما تحويه من مواضيع ثقافية وفكرية واجتماعية تفوق ثمنها أضعاف أضعاف، لأن الثقافة والمعرفة لا تقدَّر بثمن في أي زمن.
كانت لها أبواب ثابتة مثل عزيزي القارئ، وإسلاميات، لغة وآداب، شعر وشعراء، كتب. لم تكن مجلة ثقافية فقط، بل شاملة لأغلب العلوم، وأثْرت الساحة الثقافية والعلمية، وموجهة لكل العرب لذا «العربي» هو الاسم الذي تميّزت به، ولكل أفراد الأسرة فالأب والأم والأبناء يجدون فيها ما يناسب توجهاتهم وما يثري معرفتهم كل على حسب ومقدار فهمه وتفكيره. كانت «العربي» تتميز بجرأة في طرح المواضيع، وحرية في التعبير إلى حد ما، وغنيّة بالصور الجميلة أو ما تسمى العناصر البصرية التي تعكس فترات زمنية. كانت تتزيَّن بعض أعدادها بصور نساء على أغلفتها في بداياتها، وأحيانًا كانت مرتبطة بمقالات داخل العدد لإبراز دور النساء في المشاركة الفعّالة في تنمية المجتمع في ومن مختلف الدول العربية.
«العربي» مجلة متميزة في الاسم والمحتوى، مجلة وخير جليس.
* *
- علي عويض الأزوري
** ** **
محمد الرميحي.. المثقف الخليجي الشامل
ما يعجبني في شخصية الدكتور محمد الرميحي مجموعة من سمات التميز الثقافي التي يتميز بها عن سواه من المثقفين، وسأحاول في هذا المقال أن أتناول هذه السمات حسب تفاعلي الطويل مع لقاءاته ومقالاته وأطروحاته التي يقدمها للمتلقي طيلة العقود الماضية، وقبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الدكتور الرميحي قد تخرج في عام 1973م من جامعة درهام Durham شمال شرق بريطانيا من خلال أطروحة دكتوراها وسمها بعنوان: التغير السياسي والاجتماعي في البحرين بين عامي (1902م - 1970م)، وقد نشرت حينها باللغة الإنجليزية ثم ترجمت لاحقاً للغة العربية، وهي رسالة قيمة جداً وقد طبعت أكثر من طبعة، وقد أشرت إليها هنا في المقدمة لأنها ذات قيمة تاريخية كونها قد تحولت مع مرور الوقت إلى مادة كلاسيكية في التعليم السياسي والتاريخي لدى الجامعات الخليجية والعربية.
أذكر أول مرة تعرفت بها إلى الدكتور الرميحي كانت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت ألاحظ اهتمام والدي رحمه الله تعالى بافتتاحية مجلة العربي الكويتية الشهيرة والتي كان يكتبها الرميحي بكل براعة واقتدار، فقد رأس مجلة العربي لمدة 17 عاماً وربما كان هو الأشهر بين رؤساء تحريرها الكويتيين، وقد شغل بعدها منصب الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت خلال الفترة (1998م – 20003م)، وهنا لا بد للإشارة إلى مهارات الرميحي الإدارية وبراعته الذاتية في إحداث النقلة النوعية للمنشآت الثقافية التي يعمل بها، فأثناء رئاسته لمجلة العربي استقطب للكتابة في المجلة أشهر الأعلام العرب والرواد في الثقافة والعلوم حتى أصبحت أيقونة ثقافية لا تخلو من أي بيت عربي من الخليج إلى المحيط.
أعود إلى ما تحدثت عنه في بداية المقال حول السمات التي يتميز بها الدكتور الرميحي عن سواه من المثقفين الخليجيين والتي جعلته يتبوأ هذه المنزلة السامية في فضاء الثقافة العربية، فمن وجهة نظري أن الرميحي قد نجح في الانفلات من قيود الأديولوجيا والأطر الثقافية الخانقة للمثقف والتي كانت سائدة في مصر والشام والعراق ووقع في أسرها بعض المثقفين الخليجيين، فربما وعى الرميحي مبكراً أبعاد ومآلات تلك الأديولوجيات المختلفة وظل مثالاً لإخلاص المثقف الوطني الخليجي لبلده وأمته ببعديها العربي والإسلامي بعيداً عن الترهات والقيود الثقافية.
السمة الثانية أصالته في الكتابة، هذه الأصالة جعلت الأستاذ الرميحي في مقدمة الكتاب والمثقفين العرب، فهو قارئ ذكي للأحداث العربية والمتغيرات العالمية ويرصد التحولات الواقعة ببراعة شديدة، ولهذا نجد أن كتبه التي كتبها حول الخليج والمنطقة العربية لا تزال مراجع مهمة في المكتبات العربية وربما العالمية، بل إنك قد تعود إلى مقالاته المبكرة في مجلة العربي وتجد فيها من الفائدة التي تفهم من خلالها المتغيرات الواقعة اليوم في المنطقة، بمعنى أن مقالاته غير مقيدة بالظرف الزمني لها نتيجة أنها تتسم بالأصالة والموضوعية وبعيدة كما قلنا عن ملوثات الأطر الأديولوجية التي تجعلها صالحة للقراءة تحت رهن ظرفها الزمني فقط.
السمة الثالثة الشمول والموسوعية، فالدكتور الرميحي قارئ نهم للكتب التاريخية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية مما جعله مثقفاً شاملاً وكاتباً موسوعياً رائعاً، فهو يكتب في كل هذه المجالات المتنوعة وعن وعي وإدراك لها، وأحياناً تأتي بعض مقالاته مزيجاً رائعاً بين السياسة والاقتصاد أو بين السياسة والثقافة وأحياناً بينها كله، وهذه السمة لا تتوفر إلا عند الكتاب الموسوعيين الكبار.
السمة الرابعة لغته السهلة، فهو يكتب بلغة يقرأها المتخصص في الجامعة أو التعليم الأكاديمي كما يقرأها الشخص العادي على حد سواء، فهو يبتعد عن التعقيدات اللغوية والتقعر في جلب المصطلحات العلمية أمام المتلقي، فتجد كتاباته تتسم بمنهجية السهل الممتنع، وربما أن الدكتور الرميحي قد اكتسب كل هذه المهارات من معاناته الطويلة مع الكتابة وتجربته العميقة مع أصناف القراء والمتلقين.
السمة الخامسة شجاعته في تقديم وجهة نظره، لكن هذه الشجاعة تتسم بالعقلانية والحصافة دون الوقوع في وحل الصدامات الثقافية، بمعنى أنه لا يحرص على مواجهة مخالفيه والمناوئين لأفكاره وأطروحاته والصدام المباشر معهم بقدر ما يحرص على تقديم طرحه للمتلقي، وهذه السمة حقيقة أكسبته احترام الجميع، فهو يجتهد في تقديم التحليل السياسي والاقتصادي للإشكالية من وجهة نظره دون أن يهاجم سواه من المخالفين، وقد لفت نظري في حسابه التويتري شعاره الذي نص بتقديم نصيحته للآخرين بقوله: كن شجاعاً واستخدم عقلك، وربما أنه قدم هذه النصيحة بعد تجربته الطويلة في الفضاء الثقافي العربي ووجد أن كثيراً من طاقات الشباب المهدرة تذهب سدى بعد أن تقع في فخ الأديولوجيا والأطر الثقافية المقيدة لحرية التفكير والتي تهيمن على العقل و تسيطر على سلوكه دون أن يعلم صاحبه.
السمة السادسة هي حمله لهم القضايا الخليجية، وأعتقد أن هذه السمة هي مشروعه الذي تبناه منذ بداياته الأكاديمية والثقافية، ولعل هذه السمة تلوح للقارئ مباشرة من عناوين الكتب التي ألفها عن فهم عميق لواقع المجتمعات الخليجية، فمن أهم مؤلفاته التي أثرت المكتبة العربية: قضايا خليجية، الخليج ليس نفطاً، الكويت العمران والتنمية، البحرين ومشكلة التغيير السياسي والاجتماعي، النفط والعلاقات الدولية، البترول والتغيير الاجتماعي، معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي، فتجد القاسم المشترك بين كل هذه العناوين هو موضوع الخليج العربي الذي حمل همه الدكتور الرميحي مبكراً وجعله مشروعه الثقافي لمدة نصف قرن تقريباً.
وفي الختام،، يرى الدكتور محمد الرميحي أن الثقافة المعرفية عموماً ترتكز على ثلاثة أسس مهمة، المعرفة العلمية ومهارة القدرة على التواصل مع المجتمع، وأخيراً الموقف الإيجابي مع الحياة أي قدرة المثقف على فهم قصوره مهما بلغت قيمته العلمية والثقافية، ولذا نجده دائماً يدعو المثقفين إلى التواضع والتعلم مدى الحياة، فبدون هذه الأسس لا يمكن أن تتشكل الثقافة المعرفية في أي مجتمع بل تظل ثقافة هامشية غير مؤثرة أو فاعلة بالطريقة الإيجابية،، وهكذا كان الدكتور محمد الرميحي مثقفاً فاعلاً في مجتمعه الخليجي والعربي، وعلامة مهمة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
** ** **
محمد الرميحي.. مسارات ثلاثة متعانقة لمثقف بارز
وقعت عيناي على اسم الدكتور محمد الرميحي لأول مرة في الأيام الأولى لحياتي الجامعية، وكان ذلك تحديدًا في شهر أكتوبر من عام 1985، حين اشتريت عددًا من مجلة «العربي» الكويتية التي رأس تحريرها بعده اثنان من أعلام العرب وهما د. أحمد زكي والأستاذ أحمد بهاء الدين.
قرأت مقالة الرميحي الافتتاحية، ثم حرصت على هذا كلما صدر عدد جديد من هذه المجلة المهمة جدًا وقتها، واتسع حرصي بالسعي إلى اقتناء أعداد قديمة للمجلة من «سور الأزبكية» بالقاهرة، حيث تباع الكتب والدوريات والمجلات القديمة.
لم أكن يومها أدري أنني سألجأ إلى ما كتب الرميحي ذات عدد من هذه المجلة الغراء كي أنجو من الرفت. كنت في السنة الرابعة في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ودفعني حماسي المعتاد، أو تسرع الشباب، وغيرتي على مكانة الجامعات المصرية إلى أن أتحدث عن ظاهرة «البترودكتوراه» و»البتروماجستير» في مؤتمر علمي نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية بالتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية في مطلع فبراير 1989 حول «تطوير مناهج البحث السياسي». كنا أيامها نتهامس عن بعض الطلبة الخليجيين الذي يأتون إلى جامعات مصر، فيجدون من يذلل لهم السبل، ويفتح أمامهم باب الحصول على الشهادات العلمية العليا على مصراعيه، دون الاعتناء بأن ترتفع قاماتهم المعرفية إلى قدر درجاتهم الجامعية. وحرصت يومها على ألا أعمم هذا على كل هؤلاء الطلاب، فمن بينهم المجتهدون والمجيدون والمبدعون الراغبون في تحصيل المعرفة، والمحبون للعلم فعلًا، والمعتمدون على عقولهم وسواعدهم.
وما أن انتهيت من مداخلتي التي اتسمت بعفوية صبي غرير، لا تعنيه العواقب ولا تخيفه ردود الأفعال، حتى ملأ الغضب وجوه معيدين ومدرسين وأساتذة. وبعد ساعتين فقط كانت رئيسة القسم قد أعدت مذكرة بشأن الواقعة، تطالب فيها عميد الكلية بتحويلي إلى التحقيق، وتوقيع عقوبة شديدة، تعلمني حدود الأدب، بعد أن اتهمتني بالسب والقذف.
وأحال العميد المذكرة إلى المحقق فاستدعاني، ومثلت أمامه مجردًا من المستندات التي تثبت ما قلت، رغم دقته التي كانت لا تخفى على أحد. لكن كانت معي صورة من مقال نشره الرميحي في مجلة «العربي» واسعة الانتشار، عن هذه الظاهرة. أبرزته أثناء التحقيق وقلت:
- وشهد شاهد من أهلها.
وفي التحقيق أشرت إلى المقال، وأخذت اقتباسات منه، وقلت بكل ثقة:
- أهل مكة أدرى بشعابها، وإذا كان من أهل الخليج من يرفض هذه الظاهرة، فالأولى أن نرفضها نحن قبلهم.
صرخة الرميحي عن بيع الرسائل الجامعية، لا تزال تدور في البرية، فالبيع على أشده، وزاد الطين بلة، أن من يعدون الأطروحات المنتحلة أو المسروقة ساعدهم الإنترنت ثم الذكاء الاصطناعي على السرقة بلا حساب ولا تحسب.
لكن بعض صرخات الرجل في مجالات أخرى تلقى بعض الصدى، ولاسيما اعتباره الحرية قيمة مركزية لا تفريط فيها، إذ تبدو لديه أشبه بالشمس التي إن حضرت أمدت كل ما حولها بأسباب للعيش والنمو والتقدم إلى الأمام، وكذلك في تمسكه بالعقلانية، حيث التفكير العلمي ونبذ الخرافة والعشوائية والاتكالية، وفي انطلاقه من «الاجتماع السياسي»، حيث تخصصه، ليطل على مسارات معرفية أخرى خصوصاً الإعلام والثقافة والتنمية وعلاقات الأمم، وهو ما تعكسه كتبه ودراساته ومقالاته.
يجيل الرميحي بصره في البقعة الجغرافية الواسعة الممتدة من العراق إلى اليمن، ومن بحر العرب إلى خليج العقبة ويقول: «الخليج ليس نفطاً»، إذ في نظره كانت هناك أشياء مادية ومعرفية ورمزية قبل استخراج أول برميل نفط في شبه الجزيرة العربية، وهناك أشياء استمرت مع النفط، وأخرى ستبقى بعد نضوبه ونفاده، أو يجب أن يكون هذا.
لا يمكن أن ينكر المرء هنا تأثر الرميحي بنشأته، ثم مساره الأكاديمي والمهني فيما بعد. فالرجل الذي قضى أيام طفولته وشبابه الأول في البحرين، وكتب أطروحته للدكتوراه عن التغير الذي طرأ على مجتمعها، فتح عينيه على حركات اجتماعية وسياسية ذات أيديولوجيات متعددة، وعلى نشاط ثقافي، بعضه موصول بجذور بعيدة عن المورث الشعبي عن حياة البادية والبحر، والثاني صنعه أفراد نهمون في القراءة، اطلعوا على ما يُكتب في القاهرة وغيرها ويُطبع في بيروت، ويصل إليهم.
وعقب حصوله على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة درهام انتقل الرميحي للعمل في بيئة ثقافية مزدهرة، حين عُين بجامعة الكويت عام 1973، حيث البلد التي كانت وقتها تنفق بسخاء مفرط على الثقافة، بعد أن استقطبت أعلامها من عدة دول عربية، وفتحت لهم المجال للإجادة والإضافة والإبداع والإفادة، فنهل الرميحي من هذا العطاء مزيدًا، ثم انخرط في صفوف أهله، بعقل مفتوح، وصدر منشرح.
كنت أعرف هذه التجربة جيدًا وقت أن توجهت إلى الكويت في شهر ديسمبر من عام 2010 للقاء عدد من مثقفيها ضمن برنامج كنت أقدمه على قناة «دريم» المصرية الخاصة، كان عنوانه «مشاوير» تقوم فكرته على لقاء مفكرين وأدباء وأكاديميين عرب بارزين لمحاورتهم حول حاصل جمع ما ورد في مؤلفاتهم وما قطعوه من خطوات في مسارهم المهني والحركي، بعد الاطلاع على هذا جيدًا.
بهذه المناسبة قرأت كتب الرميحي، وكنت أتابع الكثير من مقالاته في بعض الصحف، بعد أن ترك رئاسة تحرير مجلة «العربي»، فذهبت إليه في بيته عارفًا عنه الكثير، فلما شرعت في الحوار راقت له الأسئلة، وامتدت الإجابات، فسجلنا حلقتين، لكن قيام ثورة يناير، وانشغال الإعلام كله بأحداثها، أوقف هذه البرنامج قبل أن ينطلق.
لم يبق في رأسي سوى بعض حيرة الرميحي وهو يمعن حزينًا في توصيف حال السياسة والمجتمع في العالم العربي، وفيما بقيت في مكتبي إلى اليوم نسخة زائدة في مكتبة الرميحي لأحد كتب وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر أعطاها لي، ولم يكن بحاجة إلى إهدائي كتبه، فقد كانت معي، حسبما يقتضي البرنامج.
ودارت الأيام، كما تشدو أم كلثوم، وكان لي مع د. الرميحي موقف وموضع حين مر كتاب لي في سلسلة «عالم المعرفة» الشهيرة، والتي كان الرميحي مستشارها، بعنوان «الخيال السياسي» عام 2017، وأتى الدور على كتاب «المجاز السياسي» فتعاقدت مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب على إصداره، بعد تقرير أجازه ومدحه كثيرًا، وشرعنا في تحريره، وإذا بخطاب يأتيني بالاعتذار عن نشره بدعوى أن المراجع وجد عدة مقالات نشرتها في صحف مختلفة قد أخذتها من مادة الكتاب وقت تأليفه، فلجأت إلى الرميحي، وكان وقتها في زيارة لباريس، فقال لي: حين أعود، سأنظر في الأمر، ثم أخبرني أنه سيحيل الأمر إلى محكم آخر، ونخضع لرأيه، فأتى الحكم منصفًا لي، وصدر الكتاب عام 2021.
وبغض النظر عن هذا التماس المباشر مع الرجل، فإنني أراه عن قرب أو بعد صاحب مسارات ثلاثة متعانقة في سبيكة لامعة، أولها التدريس الذي أخلص له إلى درجة تأليفه بحثًا عن كيفية إعداد الدراسات العلمية، وإلقائه محاضرات في الاجتماع السياسي والإعلام في جامعات بالكويت ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر والبحرين.
وثانيها الجهد الحركي الذي رأيناه في رئاسة تحرير عدة مجلات مهمة مثل «العربي»، ومنها أطلق «العربي الصغير» و»كتاب العربي» و»نيو أريبيا» ودوريات»الثقافة العالمية» و»عالم الفكر» و»دراسات الخليج والجزيرة العربية» و»حوار العرب»، ورئاسة تحرير سلسلة «عالم المعرفة» و»إبداعات عالمية» ورئاسة تحرير ثلاث جرائد هي «أوان» و»الفنون» و»صوت الكويت»، وتولى منصب الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، إلى جانب عضويته في العديد من مجالس مراكز الأبحاث والجمعيات العلمية والصحفية، ومشاركته في ندوات ومؤتمرات لم تتوقف إلى الآن.
لم يؤدِ انشغاله بالتدريس ورئاسة التحرير إلى توقفه عن التأليف فتوالت كتبه ومنها: «البحرين .. مشكلات التغير السياسي والاجتماعي» و»البترول والتغير الاجتماعي» و»معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي» و»المعوقات الاجتماعية للديمقراطية في الخليج» و»الجذور الاجتماعية الديمقراطية في مجتمعات الخليج العربية المعاصرة» و»النفط والعلاقات الدولية» و»الخليج ليس نفطًا» و»الكويت.. العمران والتنمية» و»أصداء حرب الكويت» و»الأعدقاء: قضايا الحرب والسلام في الخليج العربي» و»قضايا خليجية» و»أولويات العرب .. قراءة في المعكوس» و»اضطراب قرب آبار النفط»، كما ترجم كتاب «الكويت قبل النفط» وهو مذكرات س. ستانلي. ج. ماليري.
في التدريس وقيادة جانب من الحركة الثقافية والتأليف بدا الرميحي أحد من يمثلون رمانة الميزان في «الليبرالية العربية المعاصرة»، فإيمانه بالحرية لم ينسه العدل الاجتماعي، ومناداته بتثبيت أركان الدول القطرية لم تنزع عنه ميله العروبي الظاهر، ودعوته إلى الاستفادة من العطاء المعرفي للغرب لم يجعله يتخلى عن ضرورة الاستفادة من كل نافع في تراثنا العربي، وتقدم العمر به لم يعزله عن التفاعل مع جيل جديد من الباحثين والكتاب العرب، واعتقاده في نعمة النفط لدوره في التنمية والرفاه لم تمنعه من إبداء المخاوف من نقمته، ودعوته الجادة إلى عدم نسيان ما قبله، والاستعداد لما بعده.
** **
- عمار علي حسن