عندما يذكر المتنبي تذكر معه عبارة : مالئ الدنيا وشاغل الناس، والمتأمل لتاريخ أبي الطيب يجد أن هذه العبارة صحيحة 100% ، فأشعاره وحكمه لا تزال الذاكرة العربية الجمعية تحتفظ بها حتى يومنا هذا، ولا تزال الدراسات النقدية تتناول حياته وشخصيته ومغامراته وأشعاره ، بعضهم رآه شخصية نرجسية من الدرجة الأولى، يعشق ذاته إلى مرحلة الجنون، لا يرى في هذه الحياة سوى نفسه التواقة إلى السلطة، هذه النظرة قد تقودنا إلى أمر آخر، أن مدائح المتنبي في سيف الدولة وكافور كانت تحمل مضموناً آخر، وأعني أن أبا المحسد كان يرى نفسه في هذين الحاكمين، فكان يمدح نفسه عن طريقهما، لم يكونا سوى مرآة يتأمل فيها هذا الشاعر طموح نفسه التواقة إلى السلطة، ولعل ما يبرر هذا التفسير هو الأنا الذاتية المبعثرة بين ثنايا مدحهما، لم تكن هذه الأنا عابرة حتى نستبعد هذه الرؤية، بل كانت الأنا متضخمة إلى حد بعيد ينشدها الشاعر متفاخراً في مجلس الحكم وبين يدي الأمير دون أي تردد أو مواراة، بل كان يؤكدها وأحياناً يكررها أكثر من مرة في كل قصيدة غير عابئ بهيبة سيف الدولة ولا ببطش كافور، هذه الأنا كانت عميقة جداً في مساحة المستحيل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، الليل والخيل والبيداء تعرفني، أنا الطائر المحكي والآخر الصدى، وهكذا ، بيد أن فارق الحالة بين سيف الدولة وكافور ، أنه لم يصرح بحلمه أمام سيف الدولة في حلب لكون الظروف المحيطة لا تساعده على ذلك، لكنه رأى في الفسطاط ظروفاً ملائمة للتصريح بحلمه الذي يحمله بين جنبيه، ربما لأنه رأى في كافور ملامح شبه مع شخصيته الجامحة، فكلاهما من نسب متواضع ( المتنبي جعفي لم ينشأ في حماية القبيلة وكافور مملوك تم تحريره) ، وكلاهما طموح وتواق للسلطة، شاءت الظروف السياسية والاجتماعية في مصر أن تحمل هذا المملوك الأسود إلى سدة الحكم في الفسطاط، وربما رأى المتنبي أن شخصية كافور قد تتفهم خفايا شخصيته الطموحة فتمنحه ما يتمناه من حلم السلطة!! ، فكان المتنبي بخياله الجامح يرى أن أحلامه قد بدأت تتحقق في بلاد النيل، وعندما اصطدمت نفسه الحالمة بقرار الرفض، تحولت شاعريته المادحة إلى قادحة هجاءة، لم يكن ذمه لكافور مجرد تعداد للمساوئ فحسب، بل تعدى الأمر إلى سوء الأدب والعنصرية، وصف ذميم لا يليق بحاكم الفسطاط الذي كان يلقب بالأستاذ لما وصل إليه من المكانة في العلم والأدب وحسن الحكم والإدارة، ربما كانت شخصية المتنبي حادة جداً في طباعها وهذه من سمات النفس القلقة، ولهذا كان ردة فعله عنيفة مع رفض كافور لطلبه، ولذا جاءت هجائياته عنيفة ومقذعة بهذا القدر!!.
من وجهة أخرى، هناك حديث نفسي عن شخصية المتنبي القلقة، وقد صرح بذلك: على قلق كأن الريح تحتي، فهل جعل الحلم الصعب من المتنبي شخصية قلقة؟ ، ولا سيما أن مهمة تحقيق الحلم هي ضرب من المستحيل أو من شبه المستحيل على الأقل، وهنا تظهر ثنائية القلق / الترحال في شخصية المتنبي بجلاء، والأصح أن نجعلها ثلاثية إن صح القول: الحلم / القلق / الترحال كما جاء في عنوان المقالة، يقول الدكتور عبدالله الطيب حول ترحال المتنبي: لو أنسئ له في أجله لربما يمم نحو بلاد الأندلس مختبراً حظوظه، ويقصد حظوظه في تحقيق حلم السلطة الذي قد يطفئ نار القلق والاضطراب في صدره ويجعله مطمئناً ساكناً في جغرافيته البعيدة بدون ترحال!!.
العلامة محمود شاكر كتب دراسة قيمة عن أبي الطيب، وقد جزم في كتاباته أن الشاعر أثناء إقامته في حلب قد أحب الأميرة خولة شقيقة سيف الدولة، وقد التقط شاكر هذه اللمحة النقدية من كتابات الطبيب والأديب اللبناني أمين معلوف، فقد حاول العلامة شاكر أن يلتقط من بين ثنايا أبيات المتنبي ما يؤكد تلك العاطفة الجياشة والمتدفقة في أردان قلب الشاعر تجاه هذه الأميرة، كقوله :
كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيه إسراري وإعلاني
لكن الناقد العلامة عجز عن إيجاد المصادر المعتمدة لهذا الجزم، وقد رد عليه الكثير من الباحثين حول هذا الأمر، وأن المتنبي بعيد كل البعد عن هذه العاطفة، فقلب المتنبي قلق مضطرب لا مكان فيه للعشق ولا يسكنه سوى حلم السلطة.
هذا يأخذنا للحديث عن المرأة في حياة المتنبي، لم يذكر الشاعر زوجته أم محسد ولا ببيت شعر واحد في ديوانه!! ، ولا تستطيع أن تجد رؤية واضحة في ديوانه حول رؤيته للمرأة ، فالمرأة تعتبر عالماً غامضاً في حياة الشاعر وحتى في شعره ، لكن الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر تكلم حول هذا الأمر وقال إن المتنبي كان شديد التعلق بالنساء الأعرابيات، وأنه يفضلهن على نساء المدينة، ولعل الثعالبي يقصد قوله:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
، ومعنى الرعابيب هي النساء السمينات ، وهنا قد نستلهم رؤية جمال المرأة من وجهة نظر المتنبي.
كتب الدكتور طه حسين كتاباً شهيراً أسماه مع المتنبي، وذكر في مقدمته عبارة صدمتني بأنه لا يحب المتنبي ولا شعره، وأنه قد ضاق ذرعاً من كثرة تدريس ديوانه للطلاب في الجامعة، وإنما كتب هذه المقالات من باب التحدي مع النفس، ولا سيما أنه أملاه أثناء قضائه لإجازته السنوية في باريس، فنجده يقول: وليس المتنبي مع هذا من أحب الشعراء إلي وآثرهم عندي ، ولعله بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب والإيثار!! ، ولكنه لا يخفي إعجابه الشديد بشعر المتنبي بين ثنايا كتابه، وعندما وصل إلى بيته:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها، علق بقوله: ولست أعرف أصدق في مصر، ولا أبرع في تصويرها من هذا البيت كإشارة رمزية إلى الأوضاع السياسية في تاريخ مصر ، أما الشيخ الشعراوي عندما سئل عن أشعر العرب ، أجاب : الأحمدان ، أحمد بن الحسين المتنبي وأحمد شوقي ، وشوقي عندي أفضل، وهذا يأخذنا إلى فكرة تشكلت عند بعض النقاد المصريين والمهتمين بالشعر منهم حول نظرتهم نحو شعر المتنبي، وهل كانت أبيات المتنبي في مصر وكافور لها علاقة بهذه النظرة؟!!.
الدكتور عبدالله الطيب له دراسة قيمة عن المتنبي، لم يتحامل عليه مثل طه حسين ولم يقف مدافعاً عنه مثل محمود شاكر ولكنه اختار أن يقف متوسطاً في نقده لهذه القامة الكبيرة، لكنه لم يستطع إخفاء إعجابه الشديد بهذا المبدع العظيم، وأراه قد دافع عنه بضراوة حول مدحياته للأمراء والملوك ، وأن غرض المدح لم يكن للتسول والشحاذة كما صوره طه حسين وغيره من النقاد، وإنما كان المدح في تلك الزمنية كمهمة من المهام التي يؤديها الشاعر ويتقاضى عنها أجرا، فكان المدح من وجهة نظر الطيب مثل التصوير الفني إبان عصور أوروبا المتأخرة، فشبه حالة الأمراء في زمن المتنبي بحالة ملوك أوروبا عندما كانوا يتنافسون على استقدام المصورين البارعين من أجل تخليد صورهم وذكراهم، فلا ينبغي أن ننظر إلى مدائح المتنبي أنها تسول، فهي وظيفة رسمية وكان عليه أن ينجز مهامها!!.
لا أحد يختلف حول ذكاء المتنبي وقدراته العقلية ومواهبه الفكرية وحتى الجسدية، كان يتمتع بسمة فريدة وهي إجادة المهارة وإتقانها بسرعة زمنية متفوقاً على أقرانه ، فمن ذلك مهاراته اللغوية وقد قيل أن الشيخ أبا علي الفارسي قد قال للمتنبي يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلى – بكسر الفاء – فقال المتنبي على الفور: حجلى وظربى، ويعلق الشيخ أبو علي على ذلك قائلاً : لقد طالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!! ، ولعل أبا الطيب قد اكتسب هذه المهارة من مرافقته ومجالسته لعلماء اللغة وعلى رأسهم ابن جني شارح وجامع ديوانه، والذي كان يقول المتنبي عنه هو أعلم بشعري مني!!.
أما مهاراته الشعرية فقد اكتسبها مع الخبرة الطويلة في قول الشعر، فقد نطق القصيد وهو في مقتبل حياته، وله شعر جيد في بداياته ينبأ عن الموهبة الشعرية الفريدة، وقد ظل على ذات النفس الشعري المتوسط ( حوالي 50 بيتاً ) تقريباً في أغلب قصائده ، وقد أخذ لقبه المتنبي في مرحلة مبكرة من تجربته الشعرية ، كما قال : أنا غريب كصالح في ثمود .
أما مهاراته في الفروسية ، فلم يكن يعرف عنه قبل لقائه سيف الدولة أنه كان يجيد حمل السلاح باحترافية المقاتلين الأشداء أو أنه كان يجيد فنون القتال مثل المحاربين الأبطال ، وقبل اندلاع معركة الحدث الشهيرة تدرب أبو الطيب مع المقاتلين على رفع السيف والقتال به تحت إشراف ملهمه الأمير سيف الدولة ، فأجاد الفروسية بسرعة مدهشة وقد أظهر في تلك المعركة الشهيرة قدرات فذة في العراك أذهلت الجنود وحتى سيف الدولة نفسه !!.
أما ثقافته الفكرية والفلسفية ، فقد كان مجلس سيف الدولة يعج بعشرات الشعراء والأدباء والمفكرين والفلاسفة وعلماء الفقه واللغة ، وفي التاريخ العربي لم تشتهر مجالس الثقافة بمثل ما اشتهر به مجلسا المأمون وسيف الدولة ، فهل استفاد المتنبي من هذا الزخم المعرفي ؟ ، الحقيقة أن شعره مليء بالثقافة التي استوعبها من مجالس سيف الدولة ولا نجد شبيهاً لها بين شعراء عصره ، وحتى معرفته الدقيقة بعلم النفس وخفايا أسرار النفس الإنسانية والتي صاغها بشاعرية ذكية في قصائده على هيئة الحكمة والمثل ، صحيح أن الشاعر لديه تجارب في الحياة مكنته من فهم هذه النفس ولكن الدقة التي امتاز بها المتنبي في معرفة خبايا النفس وأسرارها والتي بعضها لم ندرك ماهيتها بالصورة العلمية الجلية إلى على يد سيجموند فرويد وغيره في بدايات القرن العشرين ، وهذا يؤكد أن لمجالس سيف الدولة الثقافية بعد فكري على ثقافة المتنبي ووعيه وشاعريته ، ولأن لديه موهبة الفهم السريع وهضم المعلومة فقد تمكن بذكاء نادر أن يحول هذه الأفكار إلى أمثال وحكم لا تزال تتردد على الألسن العربية حتى يومنا هذا.
وفي الختام مات المتنبي مقتولاً بالقرب من بغداد بعد أن عاد محملاً بهدايا عضد الدولة، قتلته قصيدة هجائية هجا بها ضبة بن يزيد بألفاظ سوقية نابية لا تتوافق مع سمو معجم المتنبي الأدبي، فتعرض له أحد أقارب ضبة وهو فاتك الأسدي في ثلاثين فارساً، ودارت بين الطرفين معركة غير متكافئة انتهت بمقتل المتنبي، لكن السؤال الآخر: هل هناك داعم آخر في هذه القتلة؟ ، أعداء المتنبي كثر وقد أغاظهم بشدة وأوجعهم بعنف ، بعضهم رأى أن لكافور يداً في قتله، وبعضهم وجه السهام نحو معزالدولة البويهي الذي استخف به أثناء إقامته في بلاد فارس، أما عبدالله الطيب فقد ذهب بعيداً ووجه سهام التهمة إلى سيف الدولة الذي كان يشتد غضبه إذا طال سكوته عن مدحه ، فكيف إذا تركه ورحل عنه.
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم ، فالراحلون هم..
** **
- عبدالله العولقي