من دار جداول في بيروت، صدرت سيرة ذاتية للدكتورة عائشة محمد المانع. وأهنئ المؤلفة على العنوان المثير لسيرتها: «حدّ الذاكرة»، فمن ذاكرتها الحادة رَوَت مسيرة حياتها، الممتدة من أوائل أربعينيات القرن الماضي إلى اليوم، ووثّقت تفاصيل نشاطاتها في سبيل المرأة السعودية، تعليمياً واستقلالاً اقتصادياً، ومساواة في الحقوق والواجبات. وسردتْ بعضاً من صعوبات تلك المسيرة وكيف تجاوزتها، وصولاً لتحقق معظمها في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
بدأت الكاتبة في عرض سيرتها من الجذور، وعبر خمسة عشر فصلاً. كان عنوان الفصل الأول: «هذا أبي»، وكان عنوان الفصل الرابع عشر: «حُلم أبي». أما الفصل الأخير؛ الخامس عشر، فقد كان مشاهِد من ذاكرتها، عن هدفها وعملها الاجتماعي المحدد بالمرأة، تعليمها واستقلالها المادي وحقوقها كمواطنة، كما شرحت فيه طريقتها ومنهجها في العمل وما اتبعته من أساليب في تحقيق أهدافها. أما بقية الفصول فقد باشرتها بحديثها عن عائلتها، لِما للبيت والعائلة من تأثير حاسم في تربية الأبناء ورعايتهم، ولما للمراحل الزمكانية من دور مهم في رسم مسارات الإنسان لتتوغل في ملاحظات وتصرفات عفوية وبشيء من التفصيل في دراستها المبكرة بالمدرسة الإنكليزية في الإسكندرية، ومن ثمَّ عملها كأول مديرة مدرسة ابتدائية في الدمام، لتواصل تعليمها الجامعي في بيروت ثم في أمريكا.
سلطت المؤلفة الضوء على تجربتها المميزة التي قضتها في الربع الخالي مع نساء البادية في أثناء دراستها لمرحلة الدكتوراه، لتعود مديرة لمكتب الإشراف النسائي في المنطقة الشرقية قبل أن تنتقل إلى الرياض لتؤسس مع عدد من زميلاتها «الشركة الخليجية للإنماء» وهي أول شركة نسائية في السعودية. وفي السيرة تفاصيل مهمة عن منتدى سيدات الأعمال في المنطقة الشرقية، وعن تجربتها الرائدة مع مستشفيات المانع والشركات العائلية، وصولاً إلى الفصل المعنون بـ: «حلم أبي»، وإقامتها كلية محمد المانع للعلوم الطبية، وتثبيت استمراريتها بتحويلها إلى وقف أسمته وقف «الرفيف العلمي».
لا يُغني هذا المدخل عن قراءة السيرة من الجلدة إلى الجلدة، فما أوردته حِدة ذاكرة المؤلفة من أسماء رائدات سعوديات مثَّلن جيلاً سعودياً عانى الأمرين لانتزاع حقوق المرأة السعودية التي اقرها الشرع لها، وعملت العادات والتقاليد والبيئات المختلفة من بادية وريف ومدن على تثبيتها فوق الشرع، وحتى دون وجود قوانين منصوصة.
إنّ ما أوردته حدة ذاكرة الرائدة عائشة من أسماء تلك السيدات يعتبر سجلاً لكل باحثة وباحث في الوضع الاجتماعي بالمملكة، وكم كنتُ أتمنى لو زوَّد الناشر السيرة بفهرس للأعلام التي كانت ترد فيها، أسماء نساء ورجال، سعوديين وعرب وأجانب، لكان حوَّل السيرة إلى مفتاح مرجع، ينطلق منه كل من يُباشر الاهتمام بالحركة النسوية في المملكة.
في صفحة 270 نشرت المؤلفة صورة لها في كينيا أثناء وجودها في نيروبي صيف سنة 1985 لحضور مؤتمر عقدته هيئة الأمم المتحدة. وجدت فيه عائشة مصادفة مع الناشطة النسوية الليبية المطلوبة من القذافي وكان جمعاً عارضاً بحضور الناشطة الأميركية بيتي فريدمان.
في سيرة عائشة المانع سيرة للمجتمع والدولة السعودية، فقد كان والدها من ضمن مستشاري جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، وشهد معركة السبلة آخر المعارك التي خاضها الملك عبدالعزيز قبيل إعلانه قيام المملكة العربية السعودية.
في السيرة تفاصيل كثيرة عن ثبات عائشة على مواقفها وعدم انبهارها، وضياع شخصيتها أمام المفاهيم الغربية. وأثر والدها في هذا التوجه كان واضحاً حينما قال لها: «لن يُعلمك الأمريكان شيئاً إن لم تتعلمي بنفسك».
لقد بذلت الدكتورة المانع جهداً جباراً في متابعة موضوع هذه السيرة، وفي الواقع فإن توجُّه دار جداول لنشر سير ذاتية للسعوديين، ليس تعريفاً للسعوديين بأنفسهم فحسب، بل تعريف قراء العربية بأن ما عانته بلادهم قد عانت منه المملكة أيضاً، وأن المواطن السعودي مارس عبر تاريخه دوره في تطور المملكة ومعرفة العالم حوله.
** **
فاروق عيتاني - كاتب لبناني