لماذا لا أنتحر و أنا قادر على ذلك ؟ ما سبب حصول تلك الأحداث لي ؟ ما معنى حياتي ؟
كانت هذه الأسئلة الوجودية المريعة مفتاحاً لبابٍ معرفة فُتِح على مصراعيه حين عمل الدكتور» فرانكلين فيكتور» على ذلك ، باستحداث طريقة علاج نفسية رائدة بعد تجربته المريرة التي عانى منها شخصياً، فقد شاءت الأقدار أن يكون هو أحد سجناء المعسكرات النازية وقت الحرب العالمية الثانية؛ حيث أدرك من خلال آلامه وذلّه هناك معانيَ عديدة كالإحباط الوجودي والفراغ العدمي ومعنى أن تكون مجرداً من كل شيء حتى نفسك وأنت تتعرض لأقسى التجارب الإنسانية على الاطلاق، ومن المفارقات العجيبة في تلك النظرية أن الطبيب هو ذات المريض الذي عانى خلال وبعد التعذيب وهذا على ما يبدو هو ما جعلها حقيقية أقرب للواقعية أبعد عن التنظير .
أحدث هذا الكتاب أثراً عظيماً جداً في مجال علم النفس؛ إذ إن تقديم فرانكل لنظرية اللوجو ثيرابي واعتبارها ثالث مدرسة في علم العلاج النفسي بعد فرويد وإدلر يعكس أهميتها وتأثيرها البالغ كمفتاح للشفاء النفسي والنمو الذاتي و محفز للصحة النفسية والسعادة لأنها ترتكز على إيجاد المعنى والتسامي بالذات، بينما كانت مدارس فرويد وإدلر تركز على جوانب معينة من النفس البشرية مثل دور العقل اللاواعي في التصرف، وهذا يمثل تحولًا فارقاً في مجال العلاج النفسي .
يمكن اعتبار هذا الكتاب ثلاثية رائعة من الأدب والفلسفة وعلم النفس، في تناغم متزن بين لغة الأديب الأخاّذة ومنطق الفيلسوف المتجرد من كل شيء عدا عقله، والطبيب الأكاديمي صاحب النظريات والأبحاث العلمية الرصينة ؛ وذلك ما يجعل القارئ يدرك أن كل جزء فيه كتب بطريقة ولغة مختلفة ومنطق متباين، مما يصيبه بالدهشة حيناً والوقوف للتأمل حيناً آخر، لكنه في نهاية المطاف أعطانا نموذجاً فريداً ومدهشاً للغوص داخل عمق النفس البشرية الغاية في التعقيد .
في القسم الأول الذي حمل عنوان (خبرات في معسكر الاعتقال ): تسحرك لغة الأديب الذي يروي سيرته الذاتية وتجربته المؤلمة في ذلك المكان خلال فترة من أسوأ ما مر على البشرية (الحرب العالمية الثانية) تهز مشاعرك وتغرورق عيناك بالدموع وكأنك تقرأ رواية مؤثرة من أدب السجون، يحكي بطلها قهره و الصعاب التي واجهها مع رفاقه، وكيف وقفوا في وجه الموت مرات عدة، وحافظوا على إرادتهم و آمالهم على قيد الحياة رغم كل ما نالهم من التعذيب والتنكيل .
أما القسم الثاني الذي كان بعنوان (المبادئ الأساسية في العلاج بالمعنى ) فقد تبدلت انسيابية سرد الأديب إلى نبرة الفيلسوف المتجردة من العواطف والمنحاز نحو المنطق، وهو في هذه المرحلة التي تلت خروجه من المعتقل قرر أن يصوغ نظريته المبنية على واقع حقيقي حيث اعتبره (اعتقاله و تعذيبه) أهم تجربة في حياته.
و تتمحور فلسفته حول جوانب عديدة منها ما ذكره عن إرادة المعنى إذ يرى الدكتور أن معنى الحياة الأساسي هو المعاناة وأنها مرتبطة بوجودنا بشكل أو بآخر، وهي ما تَعطينا ذلك العمق، أي أن الصراع القائم بيننا و بين أنفسنا للتغلب على شعور الإحباط و العجز هو ما سيجعلنا نكتشف قدراتنا الكامنة، وأن سعي الانسان إلى البحث عن معنى هو قوة أولية في حياته، فليس كل صراع بالضرورة عصابيًا فمقدار من الصراع يعتبر سوياً و صحياً، كذلك لا يمكن الحكم على (المعاناة) بمجملها على أنها حالة مرضية فقد تكون إنجازًا إنسانيًا غير مسبوق، وأن حالة (اللا توتر) ليست هي الحالة المرجوة من وجودنا بل إن السعي والخوض في معترك الحياة في سبيل هدف يستحق أن يعاش من أجله هو العمق الحقيقي لوجودنا، وهذا ما من شأنه أن يبعدنا عما أسماه (بالفراغ الوجودي) الذي يتمثل في حالة الملل وعمل ( اللا شيء) و منه يبدأ الانسان تعويض إرادة المعنى المحبطة بما أسماه ب (إرادة القوة) والمقصود منها البحث عن اللذة .
من أهم ما ذكره كذلك الدكتور فرانكل في هذا الجزء طرق الكشف عن المعنى في الحياة أوجزها في ثلاث نقاط رئيسية وهي :
1- الإنجاز والسعي لتحقيق هدف ما 2- اختبار قيمة من القيم وذكر الحب مثالاً على ذلك 3- إيجاد معنى للمعاناة، فإذا استطاع الإنسان أن يجد معنى لمعاناته وآلامه فمؤكد أنه سيجد معنى لحياته !
أما القسم الثالث الذي كان يتحدث فيه عن مفهوم (التسامي بالذات ) فقد تحولت فيه كذلك اللغة نحو الأسلوب العلمي والأكاديمي بشكل واضح؛ حيث أشار إلى أهمية تحقيق الإنسان لنفسه ولقدراته الكامنة وكيف يمكن للعثور على المعنى في الحياة ، أن يسهم في تحقيق التسامي والنضج الروحي للإنسان ، فهو يميز بين تحقيق الذات بما فيه إفادة للعالم الخارجي و تحقيق الذات الأناني الذي يكون أساسه اشباع اللذة ، وهنا أخذ يتوسع في نقد مدرسة فرويد التي تؤيد «مبدأ اللذة «التي جعلت السعادة هي الهدف والرسالة الغائية من الحياة و أن السعادة ليست غاية نسعى إلى تحقيقها، بل هي نتاج طبيعي لحياة مليئة بالمعاني لأنها ستكون ملازمة لنا ونحن في الطريق لتحقيق ما نؤمن به ، هي تشبه تقريبًا حالة الضحك التي لا نسعى للوصول اليها بل هي حالة طبيعية تحدث نتيجة لموقف ما، وفي ذلك يقول:
«ان الآخرين الذين يسعون للتحقيق الذات المباشر والمحدود كانوا في الأصل حالات تمكنت لفترة طويلة من الزمن تسعى وراء اللذة الهائمة. و كل من يتبنى الفلسفة البدائية للذة والاندفاعات المطلقة غير المقيدة لأي نزوة يسمى ذلك تحقيق الذات»
وفي الختام يمكن اعتبار هذا الكتاب أحد نقاط الارتكاز الأساسية لإيجاد ملاذ ذهني آمن للتشافي إن لم يكن أحد أهم الأدوات التي يمكن التحصن بها أمام هلامية الحياة مما يعني أن قدرة المرء على خلق معنى لحياته في أن يمرن نفسه باستمرار على تجاوز ذاته؛ و أن ينظر لحياته من خلال جودة علاقاته بمن حوله و قدرته على خلق الجمال ومنح المعرفة، وفي ذلك يقول: «كان علينا أن نعلم أنفسنا أنه لا يهم حقًا ما كنا نتوقعه من الحياة، بل ما تتوقعه الحياة منا».
«المعنى ليس انبثاقًا من الوجود ذاته فحسب، و لكنه شيء يواجه الوجود !!».
«الألم يمكن أن يكون له معنى، ولكنه ليس له قيمة.»
«في آخر المطاف، يبقى الإنسان قادرًا على اختيار موقفه تجاه أي ظرف معين، وتحديد معنى لحياته.»
«الإنسان الذي لديه لما يعيش لأجله يمكن أن يتحمل أي شيء مهما كان.»
«ليس للإنسان حرية اختيار ظروفه، لكنه يحمل دائمًا حرية اختيار موقفه تجاه تلك الظروف.»
«الحياة ليست عن انتظار العواصف أن تمر، بل عن تعلم كيفية الرقص تحت المطر.»
« يرى جان بول سارتر أن الإنسان هو من يخترع نفسه ويصمم جوهره مع ذلك فإني أعتقد أن معنى وجودنا ليس أمرًا نبتدعه نحن أنفسنا ، بل هو ما نكتشفه ونستبينه «
“المعاناة حالة نسبية إذ إن محاولة تنمية روح المرح ورؤية الأشياء من منظور ساخر يعتبر نوعًا من الحيل اللازمة لتعلم فن الحياة”.
“لا داعي للشعور بالخجل من الدموع ، لأن الدموع تحمل دليلًا على أن الإنسان يحظى بأعظم شجاعة، وهي شجاعة المعاناة”.
«لقد دعوت الله من سجني الضيق، فأجابني في رحابة الكون.»
“الحب هو الطريقة الوحيدة التي يدرك بها الإنسان كائنًا إنسانيًا آخر في أعمق أغوار شخصيته. فلا يستطيع إنسان أن يصبح واعيًا كل الوعي بالجوهر العميق لشخص آخر إلا إذا أحبّه»
** **
- صباح عبدالله