تحتضن المجموعة القصصية رغبة جامحة قرابة الأربعين قصة، منها ثلاث عشرة قصة قصيرة جدًا، والبقية في القصة القصيرة، ممتدة على أربعٍ وتسعين صفحة. وتعد هذه المجموعة باكورة أعمال القاص الأدبية.
ومن القصة الأولى يتعرف القارئ على قاص فمه معبأ بالحكايات الإنسانية، تتوالد تحت يده الأحداث ليعبث بمصائر الشخوص كيفما أراد، القصة لدى الأستاذ عبدالله الغاوي مملوءه بالجدل الوجودي الذي يتغلغل في حضور الفرد وتفاعله مع المجتمع.
وكون أول ما يطالعنا من الكتاب الغلاف، فإننا سنتناوله كعتبة للعمل الأدبي وبوابة تشف عن المحتوى، ولن نتعرض له كمحاولة إغراء للقارئ لاقتناء المجموعة - خصوصًا أننا نعيش في زخم إصدارات تتصارع دور النشر لإثبات وجودها، فتجد في مغازلة القراء للإيقاع بهم من خلال الأغلفة الجاذبة والتسويق المدروس-.
اختيرت للغلاف لوحة من يدين متعانقتين في تداخل ناعم وهادئ، وبينما نحن في هذا الالتواء الراقص العاطفي، تتخلى إحداهما عن الأخرى وتعلو فوقها في انسياب متناغم، في شكل أقرب ما يكون إلى أيدي راقصة باليه، وبكل ما تحمله اليدين من تأويلات تنام على تدفق مريح باللون الوردي كخلفية للوحة، ويصح القول بشكل عام أن لوحة الغلاف تشي بمزيج من المعاني العاطفية، يمكننا أن ندرج تحتها: النعومة - الرقة - الهدوء - المتعة - الاحتياج - اللذة - الخروج عن الصمت….
وحتى يكتمل عقد الغلاف يأتي العنوان كاشفاً للوحة ومصرحاً بمعناها «رغبة جامحة» وهذا يؤكد أننا أمام رغبات ثائرة وأفكار متمردة.
والعنوان لم يكن خارجياً وإنما هو عنوان إحدى القصص بالمجموعة - وهذا متعارف عليه في أغلب المجموعات القصصية -.
والقصة العنوان في إجمالها تحفر في ذلك الجانب، حيث تدلف بنا متلصصين نحو صندوق الرسائل الخاص في إحدى وسائل التواصل، وتثير سؤال التفتيش عن الحب في الوهم.
ويبقى أثر العنوان والغلاف معنا طويلاً بامتداد أربعٍ وتسعين صفحة يرمي بظلاله على كثير من قصص المجموعة. وهنا وفق المبدع ودار النشر في اختيار هذا التكامل للغلاف عنواناً ولوحةً ولوناً.
وعلى مستوى المواضيع بالإمكان القول إن مواضيع المجموعة التي تطرقت لها المجموعة وحاول المبدع تناولها ومعالجتها أدبيًا أو حتى الإشارة إليها كأماكن وجع مجتمعي، كلها تقترب من الشأن الاجتماعي، فبينما يشتغل جزء من مواضيع القصص على القلق الإنساني بكل اتجاهاته، يتجه الباقي لمحاولة معالجة ارتباك العلاقة بين البشر تركيزاً على اضطرابات الحياة داخل الأسرة، وقطبي الأسرة - الزوج والزوجة -.
كما تبرز المحلية أيضاً في قصص المجموعة فيظهر إنسان المكان جلياً، ففي قصة «تواليش القرى» يبرز (ظافر) تارةً مغردًا بتراتيله القديمة المبحوحة والتي ينفثها في قصبة الناي، وتارةً:
«يضع يده اليسرى على أذنه ويرفع لحن الطرق الجبلي:
الله يرمي من رمى صافي اللون
هلت دموعه قبل يشكي عليه».
وفي قصة «أحاديث قروية» اقتناص إنساني مجتمعي آخر، يظهر الاستعداد السردي لدى القاص في توظيف الأحداث المحلية والتعبير عنها في قالب قصصي، يأخذنا في القصة إلى يد الموت وسطوته، موظفًا الحادثة التي فجع بها أهالي المساحة الجغرافية التي ينتمي لها الكاتب وتألم لها الوطن بعد انتشارها في الإعلام المرئي وتداولها على منصات التواصل الاجتماعي، وكان بطلها حب الفتاة الراحلة (حلا) لأبيها الراحل (أبو حاء) - رحمهما الله - والتي قدمت نفسها بسهولة للموت لتدفن بجانب أبيها وفي نفس التوقيت، مدونةً قصة حب نقية ستبقى خالدة في ذاكرة إنسان المكان.
وبتفحص لاتجاه الكلمة في المجموعة، تطالعنا المفردات والمصطلحات الطبية بشكل واضح: الإسعاف - الطبيب - المستشفى- الدواء - عضلك القلب - العناية المركزة - كبسولة - وصفة طبية - فيتامين - طبيب نفسي - عيادة…
وهذا التزاحم للمفردات الطبية بالمجموعة يفسره طبيعة عمل القاص (فني طب طوارئ) والتي بينها في السيرة المختصرة الملحقة بالمجموعة، وهذا يكشف سر الإنسانية المتجذرة في المجموعة عبر استبقاء ذكرى الأشخاص.
ولعل أكثر ما يلفت انتباه القارئ في المجموعة أمران:
الأول: العناية الفائقة بعناوين القصص رغم أن القصص كانت كثيرة، إلا أن الكاتب أبدى مجهودًا كبيرًا في اختيار عناوين القصص لتكون متممة للحدث داخل القصة، وهنا يبرز دور العنوان وأهميته في تكوين القصة دون كشف وفضح للنهايات والفكرة.
الثاني: النهايات المتقنة والمحبوكة، والتي توضح اشتغال الكاتب عليها لتكون ذات دلالة وتأثير يبقى مع القارئ طويلاً، عبر مفارقات مختلفة تتنوع فيها الدهشة ولحظات التنوير المسبوكة بدراية كافية.
وبإمعان النظر في نهايات القصص يتبين أنه أراد تقديمها للقارئ كمكافأة إتمام قراءة، وهذا تأكيد عملي من الكاتب بأنه من معشر القراء الذين لا يقبلون أن يقرأوا نصاً أدبيًا ويلاحقوا شخوصه ويتفاعلوا معها ليجدوا أنفسهم في أنه أية باردة أو مفتوحة لا تفي بالدهشة المتأملة.
وعلى المستويات الفنية الأخرى:
نجح في رسم كثير من شخصيات قصصه، ببنية لغوية رشيقة وسهلة ومترابطة يمنح التعابير تدفقها السلسل، مع الإبقاء على عنصر التشويق ممتدًا بما يضمن بقاء القارئ بين دفتي الكتاب، فبينما يغوص الكاتب في هموم شخوصه الإنسانية لا يتجاهل رسم الأشياء وتصويرها بما يتوافق مع حجم القصة القصيرة، مع محاولات رشيقة في التنقل بالتقنيات الكتابية حتى لا يتسلل الملل للقارئ فمرةً نرى الراوي يأتي من خارج الحكي (الراوي العليم) مثل قصة: تحرر - الله عليك ياشيخ …
وأيضاً من داخل الحكي (لسان الشخصية):
مرارة السؤال - رغبة جامحة.
وأيضاً لم تغفل المجموعة عن أنسنة الحيوان فتظهر قصة (غريزة) والتي تخبئ الفكرة فيها تحت لساني الصقر والأرنب.
ويحضر التعالق النصي في المجموعة بغلبه من التناص القرآني الأكثر حضورًا في قصة رغبة جامحة: «حتى همت بهِ وهم بها» وهذا تناص مع قولهِ تعالى: «هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها» [يوسف: 24].
«قدت تمنعه من دبر»وهذا تناص مع قوله تعالى: «قُدَّ مِن دُبُرٍ» [يوسف: 27] - «استوى الزرع على سوقه» وهنا تناص مع قوله تعالى: «فَاستَوى عَلى سوقِهِ» [الفتح: 29]
وهذا الاستدعاء والامتصاص للنص القرآني داخل قصة واحدة ينم عن امتلاء القاص بالنص القرآني بما يمكنه من توظيفه وفقًا لاحتياج النص بما يخدم الدلالة ويؤكد التوجه، كما أن اختيار آيتين من سورة يوسف يمنحنا إشارة إلى اعتناء القاص بالقصص القرآني.
وبالانتقال للقصص القصيرة جدًا والتي كانت قليلة مقارنةً بعدد القصص القصيرة، نجد أن القاص وفق في اعتماده على تكثيف اللغة في حزمة ضيقة واختزالها في مفردات تمكن القارئ من التأويل دون الجنوح للتلغيز والترميز المنفر من الـ«ق ق ج».
وكنت أتمنى ألا يدرجها في المجموعة، ويفرد لها مجموعة مستقلة بذاتها، كون ذلك أحدث إرباكا في التسمية على الغلاف عند تحديد الجنس الأدبي للإصدار، فكُتب على الغلاف «قصص قصيرة»، وهذا إقصاء وإمحاء للقصة القصيرة جدًا، وكان من الأفضل أن يكتب «مجموعة قصصية» حفاظًا على أحقية الـ «ق ق ج» كجنس أدبي.
ختامًا أود الإشارة إلى أنه رغم كون هذه التجربة الكتابية الأولى إلا أن المجموعة نجت كثيرًا من فخاخ البدايات، وهذا يعود في تقديري الشخصي إلى تأخير النشر وعدم التعجل فيه.
** **
- فيصل الشهري