د.عبدالله بن موسى الطاير
اعتبرت إنجلترا الدولة السعودية تهديدًا لتوسع نفوذها في شبه الجزيرة العربية، وتحديًا للوضع الراهن إذ ذاك، خاصة مع دعوتها لإصلاحات دينية واجتماعية جذرية، غير أن أكثر ما أقلق العرش البريطاني كان تحركات السعوديين ضد الإمبراطورية العثمانية، حليف بريطانيا المرحلي ضد الفرنسيين، ولذلك تعاون البريطانيون والعثمانيون في التشنيع على الدولة السعودية، ورجموها بالوهابية، كما رموا القواسم في رأس الخيمة بالقراصنة ليسهل تكوين تحالفات محلية ضدهما، ونزع شرعية الحكم عنهما. وليس بمستغرب أنه بعد فض التحالف التركي البريطاني، دوّن العثمانيون القصص في علاقة بريطانيا بالدولة السعودية والحركة الإصلاحية وشاع التزوير في رسم ملامح العلاقة، بغرض ضرب سمعة السعودية عند العرب والمسلمين.
صُوّرت الدولة السعودية على أنها أتت بدين جديد، وعبّأت العاطفة الدينية ضدها، داخل العالم الإسلامي. انسحبت السمعة التي تم الترويج لها على النظام السياسي ذاته، وأصبحت الدولة تعرف في الدوائر العثمانية والإنجليزية على أنها دولة «وهابية» لا سعودية، وذلك لضمان التأييد الشعبي لمساعيهما في اجتثاث الخطر المزعوم المحدق بالإسلام، ولتبرير الهجوم المسلح على معقل الدولة السعودية في الدرعية عام 1818م.
السياسة البريطانية الملونة بالمصالح لم تسر في اتجاه واحد في تعاملها مع الدولة السعودية الأولى، وإنما رغبت إنجلترا في استغلال الدرعية كقوة موازنة ضد النفوذ العثماني في المنطقة بعد أن تغير تحالف القوتين الاستعماريتين، وسعت إنجلترا إلى تأمين مصالحها التجارية في شبه الجزيرة العربية، ورأت أن الدولة السعودية الأولى يمكن أن تكون حليفًا مفيدًا في هذا الصدد.
إنها منافع متبادلة، وهي تأكيد على أن الدولة السعودية الأولى كانت تتصرف ككيان سياسي واقعي في تحالفاته الحذرة مع القوى المؤثرة في ذلك الوقت، على الرغم من تشددها في إقامة العلاقات مع الكفار. كان حكام الدولة السعودية يدركون أهمية الاعتراف الدولي بهم كقوة صاعدة، ولذلك اعتبروا اتصالات وكلاء الحكومة البريطانية بهم دعمًا لشرعية دولتهم وهيبتها على مستوى المنطقة، مما عزز موقفها ووفر فرصًا للتوسع. لقد رغب البريطانيون بعدم الاعتداء، وعدم مهاجمة بعضهما البعض أو حلفائهما، والتوافق على تسهيل التجارة كالمرور الآمن للسفن والبريد من كلا الطرفين، وتبادل المعلومات بشأن المسائل السياسية والأمنية ذات الصلة.
على أية حال، فقد أُجبرت بريطانيا على ضرورة اتخاذ موقف لين، تجاه الدولة السعودية الأولى «حينما شعرت أن مصالحها الإستراتيجية، في الكويت وجنوب العراق، أصبحت معرضة للتأثير السعودي وضغطه، وبخاصة بعد وصول الحملات السعودية إلى تلك المناطق، وبعد نقل المراكز التجارية البريطانية، التابعة لشركة الهند الشرقية، من البصرة إلى الكويت». وتشير المصادر إلى إرسال مساعد الوكيل البريطاني مانيستي في عام 1799 إلى الدرعية لإجراء محادثات مع المسؤولين السعوديين، حول إيجاد نوع من العلاقات الودية وحسن التعامل بين الدولتَين». في ذلك الوقت كانت بريطانيا تساند موقف مسقط والبحرين، ولها موقف معادٍ للقواسم، حلفاء الدولة السعودية، في منطقة ساحل عُمان. زيارة المبعوث البريطاني لم يرشح عنها رغبة سعودية جامحة في التعاون، وبدهاء البدوي الفطري استفادت من التقرب البريطاني أيما فائدة. وكما كان منتظرًا، فإن بريطانيا لم تنتظر طويلًا لتعلن موقفها الشامت بعد سقوط الدرعية؛ فأوفدت الحاكم البريطاني العام في الهند، سادلر لتهنئة إبراهيم باشا بنجاحه في القضاء على الدولة السعودية الأولى.
إن أقوى الأسلحة التي أشهرها البريطانيون والعثمانيون والفرنسيون في وجه الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة هي ما يسمى بالوهابية، حيث تم تهوين شأن الإمارة لصالح الدعوة على اعتبار أن الدعوة يمكن الهمز واللمز فيها بموافقة نافذين مسلمين في مراكز قوى وجدت في قيام دولة سعودية تبنت لاحقًا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق صافي الإسلام وصحيحه خطرًا محدقًا يستهدف مصالحها، ولذلك كان تصديقهم للدعاية البريطانية العثمانية الفرنسية الصفوية مبررًا باختراع الدولة السعودية دينًا جديدًا.
لم يكن أعداء الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة سيجدون آذانًا صاغية فيما لو استهدفوا الدولة السعودية باسمها، حينها سيكون للعرب والمسلمين دور مهم في التصدي للمساس بدولة عربية مسلمة هي الأولى التي تعود بالحكم إلى العرب في شبه الجزيرة العربية منذ الخلافة الراشدة، كما أن الهجوم من القوى النافذة في المنطقة على الإسلام باعتباره دستورًا ومنهج الدولة السعودية كان سيواجه بمعارضة شديدة من المسلمين في جميع أنحاء العالم. ولذلك كان مكر المناوئين للدولة السعودية كبيرًا أن وجهوا الأنظار إلى فرية «الوهابية» التي وجدت آذانًا مصغية عند العرب والمسلمين.
الدولة السعودية قامت وانتهت، وتبعتها الثانية، ونحن حاليًّا في الدولة السعودية الثالثة، وقد أخفقت المكائد، وأثبت التاريخ والمنجز أن الدولة السعودية التي قامت عام 1727م سعودية وباقية وتزداد مع مرور الوقت تقدمًا، وتفرض نفسها قوة إقليمية ودولية لا يمكن تجاوزها.