يهدف كتاب «عندما يسيطر الغرب على العالَم» تأليف موريس جوديليي المتخصص في الأنثروبولوجيا والحائز على الميدالية الذهبية من المركز الوطني للبحوث العلمية بباريس وجائزة ألكسندر فون هومبولت الدولية في العلوم الاجتماعية، (صدر في 2023 عن دار نشر CNRS الفرنسية في حوالي 504 صفحة) إلى طرح تفسير علميّ لكيفية نجاح الغرب، على مدى القرون الخمسة الماضية، في السيطرة على العالَم وفرض نمط إنتاجه الرأسمالي عليه وإجباره على الانخراط في عملية التحديث والتغريب.
يذكر جوديليي انه إذا كان التحديث يعدّ ظاهرة اجتماعية تتغير بتغير العصور، فمن الواضح أن الغرب، منذ القرن الخامس عشر، فرض نفسه -في كثير من الأحيان بقوة السلاح أو بالدعاية -كأنموذج للحداثة، وبالتالي تغيرت مئات المجتمعات، طوعا أو كرها، تحت تأثير هذا الطابع، حتى دخلت معظمها ولأول مرة ضمن نسيج التاريخ العالمي المشترك.
يشير جوديليي الى أن الغرب ما هو الا خليط من الواقع والخيال ومن الأعراف ومن أساليب العمل وأنماط التفكير التي تدور حول ثلاثة محاور تتمتع بمنطق وتمثيلات وقيم خاصة: الرأسمالية والديمقراطية البرلمانية وعلاقة محددة بالنصرانية.
يقدم جوديليي تعريفه الخاص للتحديث والتغريب ويقول إن التحديث يعني قيام الدولة بإجراء وفرض إصلاحات عميقة تهدف الى ازدهار المجتمع. تتطلب مثل هذه الإصلاحات واسعة النطاق إلغاء المؤسسات الاجتماعية وطرائق التفكير ومناهج العمل التقليدية التي تقف عقبة في طريق التقدم بحيث يتم استبدالها بمؤسسات أخرى حديثة. بينما يعني التغريب استعارة دساتير مختلفة من الغرب وإنشاء البرلمانات والأحزاب والانتخابات واعتماد القانون التجاري الألماني والقانون المدني الفرنسي.
في هذا الكتاب، يستدرج المؤلِّف القارئ إلى الدخول في قلب الصراعات الحالية ويحاول تسليط الضوء على عدد من القضايا الهامة: كيف بدأ الغرب منذ القرن الخامس عشر سيطرته على العالم، وهل سيطر الغرب على جميع القارات؟ ما هي الدول التي خضعت للتحديث والتغريب؟ وما هي الطرائق المختلفة لهذا التغيير الهائل؟ وما هي المجتمعات التي تجنبت التحديث والتغريب؟ لماذا يُعتبر الغرب أنموذجا للحداثة في العديد من المجتمعات؟ كيف تم تعزيز علاقة كل من روسيا والصين وإيران وتركيا مع الغرب؟ هل القيم الغربية في تراجع اليوم؟ ما هي طبيعة الحضور الغربي في العالَم وما أسبابه ودوافعه وأيضا مساهماته ونتائجه وطرائق هيمنته وما هي ذرائعه وما هي الانتهاكات التي مارسها الغرب ولا يمكن أن تغتفر؟ هل يشكل الانقسام بين الغرب وبقية العالم حقيقة جيوسياسية؟
يتضمن كتاب (عندما يسيطر الغرب على العالَم) بانوراما هائلة لخمسة قرون من النفوذ الغربي على العالَم ويشتمل على ثلاثة أجزاء أساسية: أولا سيطرة الغرب على العالم، ثانيا نقطة التحول الكبرى في القرن العشرين مع الحربين العالميتين الحاسمتين وثالثا نحو عالم آخر بمنظور ثلاثي: العالم الإسلامي وتطور نمط الإنتاج الاشتراكي والرأسمالي والعولمة. سيجد القارئ في كل مرحلة دراسات تتعلق بعدد من الدول كإيران وتركيا واليابان والهند والصين وروسيا وغيرها من المجتمعات الأخرى.
ختاما: نستطيع القول إن الهيمنة الغربية التي ارتكزت على الرغبة في الاستيلاء على الثروة قد استندت إلى العِلم الحديث وجودة الإدارة والقوة العسكرية واكتسبت شرعيتها من خلال فرض الطابع الحضاري على الطرف الآخر وفقا لمتطلبات كل عصر، الا أن هذه الظاهرة بكل أبعادها المكانية والزمانية تم تعميمها على وجه الخصوص منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين.
وفي حين استطاعت اليابان مقاومة إضفاء الطابع الغربي على تقاليدها بشكل أفضل من غيرها، كان لبعض الدول الأخرى، كتركيا وإيران والهند والصين، ردود أفعال مناهضة للتغريب، لكن على الرغم من اندماجها في الحركة الشاملة للتحديث الا أنها احتفظت لنفسها بسمات محددة مختلفة ومعارضة لما يروِّج له الغرب عندما اعتمدت على قناعتها بتفوقها الأخلاقي والثقافي.
** **
- د. أيمن منير