وُلد مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية فتيًا، وفي الفتوة: قوة النشاط وتجدُّد وحيوية وأمل وإنجاز، ولكنه يجمع – إلى هذا كله – حكمة وبصيرة ودافعية عالية إلى تحقيق الجودة والإتقان.
وقد حدّد المجمع رسالته بأنها: ((العناية والاعتراز باللغة العربية، وتمكين إسهامها الحضاري والعلمي والثقافي، لتكون المملكة العربية رائدة في مجالات اللغة العربية وتطبيقاتها)).
ويتضح من هذه الرسالة المركّزة التي كتبت بعناية أن الغاية من إنشائه هي: خدمة اللغة العربية في سائر مجالاتها: قديمًا وحديثًا، وتنظيرًا وتطبيقًا، وسعيًا دائبًا متواصلًا -بكل الوسائل المتاحة- إلى إثبات عراقتها، وتثبيت مكانتها، وإبراز كفاءتها ومرونتها، والعمل على تحقيق مهابتها، وتوسيع نطاق استخدامها وبذل الجهود العلمية لتيسيرها ونشرها.
وهي أهداف سامية تتسم بالشمول والعموم، وهي تتضمن ثلاثة جوانب متكاملة:
أولها: يتعلق بدراسة اللغة العربية في مسيرتها التاريخية الطويلة، لبيان عناصر تفوقها على أخواتها الساميات، وإبراز مراحل ازدهارها التي أوصلتها إلى أن تكون لغة العلم الأولى في العالم كله، قرونًا عديدة، تزيد لدى بعض الباحثين المنصفين على خمسة قرون، بما حملته من ثقافة عميقة، ومعارف علمية، أفادت منها الحضارة الإنسانية في العالم كله.
ويلبّي هذا الجانب ما جاء في رسالة المجمع من حديث عن الإسهام الحضاري والعلمي والثقافي لهذه اللغة العريقة، ويتكفل بتنفيذه ما خصصه المجمع من جوائز ومسابقات تتناول هذا الجانب، مع ما يضاف إليه من مجالات أخرى.
ثانيها: يتعلق بدراسة الواقع الذي تعيشه هذه اللغة في العالم العربي وفي أرجاء العالم كله الذي يعنى بدراسة هذه اللغة لأسباب علمية، واقتصادية وسياحية وسياسية، مع عناية خاصة بالعالم الإسلامي، الذي يضع هذه اللغة في أعظم مقام، وأرفع مكانة؛ لأنها هي اللغة التي اختارها الله -تعالى- لكي تكون لغة كتابه الكريم، ولغة نبيه العظيم -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك احتلت هذه المكانة الرفيعة لدى عموم المسلمين.
ثم يتناول هذا الجانب -كذلك- دراسة ما يتعلق بالتحديات التي تواجهها، وتقف حجر عثرة في طريقها من داخل العالم العربي ومن خارجه، ثم دراسة السياسات اللغوية، والعناية بالتخطيط اللغوي الذي يسعى إلى مواجهة هذه التحديات والتغلب عليها.
ويلبّي هذا الهدف ويشير إليه كثيرٌ من المشروعات التي يُعنى المجمع بدراستها دراسة عميقة، ويقدم الجوائز لكل ما هو مبتكر منها.
أما الجانب الثالث -ولعله أهمها وأكثرها حضورًا في جهود المجمع فهو:
العناية بالجانب المتعلق بالتقدم العلمي والتقنية الحديثة واستثمار إمكانات الذكاء الاصطناعي، الحاضر في أكثر المشروعات والبرامج التي ينشغل المجمع بها، وهو يركز على البرامج المبتكرة التي تستخدم فيها المعالجة الآلية التي تسعى إلى التعامل مع اللغة حاسوبيًا، والإفادة منها في حوسبة اللغة، و إغناء محتواها على الشبكة الدولية، وفي تيسير تعلمها، وزيادة عدد المتحدثين بها، وفي إصدار المعاجم الإليكترونية، وبخاصة ما يتعلق بالمعاجم التي لم تبذل المؤسسات العلمية لأخرى من إنجازها جهدًا واضحًا، كمعجم لغة الطفل الجامع للصوت والصورة والنطق والمكتوب بلغةٍ متدرجة تتواءم مع إمكانات الطفل في سنوات نموّه، ثم في وضع البرامج الحاسوبية لدراسة اللغة في بيئتها الثقافية والاجتماعية المعاصرة، دون انحصار في الطرائق التقليدية القديمة التي كانت ملائمة لعصرها، ولكنها أصبحت بحاجةٍ ماسة إلى التجديد والتطوير فيها، ويقوم المجمع بجهد كبير في كل هذه العناصر، ويمكن الإشارة -على سبيل المثال لا الحصر- إلى أن المجمع قد أصدر المعجم المعاصر للغة العربية، بعد سنة واحدة من إنشائه، وأنه يبذل جهدًا كبيرًا لإصدار معجم لغة الطفل، وأنه يعنى بحقوق الصُمّ، وأنه يقيم المسابقات اللغوية، ويمنح الجوائز القيمة للمتميزين من الباحثين، أينما كانوا، وأنه يدرس واقع اللغة في أماكن انتشارها، و يضع البرامج المتطورة لتعليم اللغة للناطقين بغيرها، ثم إنه يضيف إلى ذلك استضافة بعض المتعلمين لها ليعيشوا في المجتمع السعودي، وليعايشوا اللغة معايشة حيّة لتعينهم على معرفة سياقاتها، وطرق التعبير بها، وهذا جانب متميز لا يكاد يوجد إلا في هذا المجمع الفتيّ الرائد في كثير من مشروعاته:
وأشير بإيجاز شديد يتطلبه المقام إلى بعض الأمور المهمة ومنها:
1- أن هذه الجوانب الثلاثة ليست متساوية في قيمتها النسبية، ولكن العناية بالواقع اللغوي، والاعتماد على التقدم التقني يتأثران بالنشاط الأكبر من نشاط المجمع.
2- أن شهادتي ليست مبنية على السماع أو القراءة لبعض ما يصدره المجمع من وثائق، بل إنها شهادة مبنية على مشاهدة واقعة تيسرت لي عندما شاركت في مؤتمر المجمع في العام الماضي 2 3/2024، وقد شهدت بنفسي صورًا من هذه التطبيقات المتطورة التي نالت من جميع المشاهدين لها -وأنا منهم- كل التقدير والإعجاب والثناء، وقد تحدثنا إلى الروبوت وتحدث معنا، وخاطبتنا بأسمائنا، بعد الوقوف أمامها، وردّت على أسئلتنا بما غذّيت به من معلومات.
3- أنني أضيف إلى هذا العرض المقتضب بعض الآراء والمقترحات، على النحو الآتي:
أ- ضرورة التنسيق بين المجامع العربية في مواجهة التحديات التي تواجه اللغة العربية ومن أهمها تحدي التكنولوجيا، وهذا مطلب طبيعي وضروري، وهو طبيعي؛ لأن اللغة العربية لغة العرب جميعًا، وهي تمثل عنصرًا مهمًا من عناصر هويتهم، ومصدرًا من مصادر قوتهم، وهو ضروري؛ لأن العمل الجماعي يحقق الاقتصاد من الجهد، والاقتصاد للزمن، كما يحقق عدم تكرار الجهود، ويؤدي إلى تعظيم النتائج.
ب- أن يمتد هذا التكامل والتعاون إلى مجالات عديدة، كالتعريب وحوسبة اللغة، ومواجهة التحديات الثقافية وتأثيرات العولمة، ومطاردة اللغة العربية في بلادها، ومن بلاد أخرى في آسيا وإفريقيا، وغيرها من قضايا اللغة.
ج- أن يبذلوا جهدًا منسّقًا في تعليم اللغة العربية لأبناء العالم الإسلامي، الذين يمثلون ظهيرًا ونصيرًا للعالم العربي.
وأقول أخيرًا إن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية مرجوٌ لكل خير، وهو جدير بالريادة والصدارة فيما يسعى إليه من خدمة جليلة للغة العربية الشريفة. والله أعلم.
** **
م. د. عبد الحميد مدكور - الأمين العام لمجمع القاهرة ولاتحاد المجامع اللغوية