كان أول ما لاح في خاطري بعدما انتهيت من قراءة رباعية «صديقتي المذهلة» للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي، قبل عدة سنوات خلت حينئذ، بأنه لا بدَّ من نسخة سعودية لتلك الحكاية، ولتلك الشخصيات، ولجميع من قرأ تلك الرواية العظيمة بأجزائها الأربعة يعرف أنها كُتبت عن الصداقة بين شخصيتين «لينو» و»ليلا»، اللّتين عاشتا في أحد أحياء نابولي الفقيرة في فترة زمنية أنتشر فيها الفقر والعنف الأسري، والتسرب التعليمي، والصراع الطبقي، في روايتنا البديعة «وحيدة في زمن الطيبين»، حكاية تشبها، ولكنها ليست نسخة منها، مختلفة في ترتيب الشخصيات فقد أحسنت الكاتبة بأن اكتفت بشخصية رئيسة واحدة هي (ليلى)، وليس لها شخصية مقابلة لها، أو مساعدة في حكايتها، لأن الكاتبة منيرة آل سليمان ارتأت أن تحتفي فقط ب(ليلى) مع شخصيات ثانوية بما فيها شقيقتها (سوير)، الذي تمنيت أن تعود للحكاية في نهايتها، ولكنه لم يحصل، في مقابل ذلك اختارت الكاتبة عنصر الزمان كأهم عنصر في تركيبة الرواية، حيث سارت ليلى عبر قطار العمر بمراحله التكوينية منذ كانت تعيش طفولتها، ترعى أغنامها في مزرعتهم البسيطة داخل قريتها الصغيرة، حتى وصلت إلى مرحلة التقاعد، وبداية مرحلة خريف العمر واستقرارها في مدينة الرياض؛»الطبيبة التي أصرت على مزيد من التحاليل الطبية والفحوصات،ووجدتني أعاني نقصًا حادًا في الكثير مما لا أستغربه، فيتامين دال، الحديد، وأشياء كثيرة…». لتكشف لنا عن علاقتها مع نفسها وعاطفتها وطموحاتها وعائلتها، وشقيقتها سوير (سارة)، عن الظلم والتعنيف، وتعاستها مع أزواجها، وإدارتها للمدرسة، عن التنمر المجتمعي في حق النساء المطلقات والأرامل، ومع الحداثة وتقنياتها، وأخير مع وحدتها «ما يوجعني حين أقابل في كل مرة مشكلة، ولو صغيرة يأتيني الماضي بقضه و قضيضه ويشعل فيَّ وجع الضحية وضعفها ويصبح الوجع وجعين، وأحيل المشكلة لذلك الظلم الذي لاقيته، وكأنني وحيدة زماني التي ظلمت».
تأخذك الكاتبة بسلاسة بارعة لتطور الشخصية الفكري والنفسي من البنت الريفية اللامرئية في أسرتها (أصغر العائلة)، إلى أهم عنصر فيها من حيث المكانة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، الذي بدأت تباشيره عندما أصرت على الالتحاق بمعهد المعلمات الثانوي في المدينة القريبة من القرية، وتسلّمت مكافاة شهرية، كافية لإقناع أخيها بالأمر لحاجته للمال، وتلك الصدمة الحضارية التي عاشتها؛ «كان المعهد عالمًا مختلفًا عالمًا حقيقيًا، كرة أرضية مختلفة، موج هادر من الأعداد الضخمة التي أراها لأول مرة في حياتي ولأول مرة أقابل مثل تلك الجموع، أشعر أنني سأضيع سأتلاشى، بنات من كل شكل ولون، أناقة و شياكة، وشرائط وإكسسوارات وأشياء لامعة، وذهب وأشياء من فوق إلى تحت مختلفة تمامًا عنا، أحذية عالية، وتسمع أصواتًا ولحنًا وطقطقة، حتى أصوات البنات فيها نعومة طاغية ومخارج الحروف لديهن مختلفة ونهاية الكلمات لا تشبه نهاية كلماتنا!، لهجات مختلفة، وكأنها لغات غير عربية!! وروائح تفوح منهن عطرةً، ومميزة، وشعور منسدلة ومرتبة وبعضها مقصوص ومتماوج كالتي في التلفاز!!»،
ثم تخرجها من المعهد، لتصبح (أبلى ليلى)، كأول معلمة وموظفة في العائلة، فتنتقل إلى مرحلة جديدة، وظيفة، ومرتبًا شهريًا ، يطمع فيه القريب والبعيد، تخرج بعد ذلك من تجربة زواج قصيرة وفاشلة، ليلتصق بها لقب (مطلقة)، لكنها تستمر في مسيرتها؛ نمو، وتطوير ذاتي، وتأخذها الظروف إلى صنع أمور لم تكن تعرف عنها شيئا أو تفكر بها مسبقًا، ففي تقدمها التعليمي أثره الكبير على تكوين شخصيتها وتحسن نفسيتها، وفهمها للحياة وقدرتها على التصالح الذاتي معها، والقبول بقدرها والتعايش معه بدلًا من مقاومته، مع متابعة مسيرتها الشخصية، ويظهر ذلك جليًا في علاقتها مع زوجها العقيم أبو فهد، الذي أخفق في أنجاب خِلْفَة له مع زوجاته السابقات، لكنها ترضى بصحبته الأبوية، وانشغاله عنها ببسطة الخضار، وأعطال سيارته القديمة إلى حين وفاته. كأن لسان حالها كما يصفه إرنست همنغواي؛ «منذ طفولتي، وأنا أصل إلى ما أريد، لكنني أصل وأنا منهك.. بالقدر الذي لا يجعلني أفرح، وكأني أريد أن أصل لأستريح.. أستريح فقط».
عندها تقرر ليلى بأن تستريح، وتستريح فقط، فأخذت قرارها بيدها، وهددت كل من سيتدخل في حياتها بعد ذلك؛»إذا ما كفيتوا بلاكم عني: شكيتكم للقاضي وطلعت الأولي والتالي..»، وتقرر البقاء بلقب جديد (أرملة)، في بيتها بمدينة الرياض، مع زيارات محدودة ومتفرقة لقريتها ولمن بقى من عائلتها من أخوات وابنائهم وأحفادهم، وتركت الباقي لساحر العصر (الجوال)، ليكفيها العناء، مع ما يجلبه من هموم جديدة؛»عندما أصحو في أية ساعة من الليل أو النهار وألتقط هاتفي، يقلقني ما سيحمله لي من أخبار، وهل ستكون مفرحة أم موجعة أو تثير غضبي أم اهتمامي؟ أصبح الهاتف الجوال على صغره ككف يقود العالم ويوجه الناس ويجمعهم في مجموعات وربما يفرقهم أفرادًا، هو الأنيس والجليس والمؤنس والأخ والصديق والكتاب الذي فقدناه، تلفزيونك في يدك ونشرة أخبارك تأتيك في الحال، ويمكنك أن تجمع حولك كل من تعرفهم وتضعهم في كفك، ماذا لديكم أيها المخترعون لتربكونا به وتعلقونا فيه؟».
لقد رسمت الكاتبة خطها الدرامي بمهارة فائقة فتركت لشخصيتها ليلى أن تركز في معظم أقسام الرواية على شد انتباه القارئ للصعوبات والأزمات والتحديات التي واجهتها في حياتها منذ كانت طفلة مُهْمَلةَ إلى أن وصلت محطتها الأخيرة وتقاعدها، ثم ختمتها في الجزء الأخير بانسجامها مع وضعها. وإدخال الحالة المطرية وتباشير السيل للقرية، لاستعادة بعض لحظاتها الجميلة، في ومضات من ذاكرة مرهقة مع أسرتها وغنيماتها، وقريتها القديمة.
لقد قدمت الكاتبة منيرة آل سليمان روايتها بأسلوب إبداعي يجبرك على تتبع آثار وأخبار ليلى وعائلتها في كل فترة زمنية مرت بها من تقدم، وتحول، وأزمات، وتدخلك إلى قلب ليلى وأفكارها، وروحها، ستعيش معها بيئة ومناخ الواقعية السحرية المثيرة، في خلطة ثقافية عجيبة، أنجبت لنا حكاءة مدهشة، عزفت على ألحان السردية الروائية؛ حكاية ليلى السعودية؛ «وحيدة من زمن الطيبين»، ولتنقش لها اسمٍ في قائمة روائيي الزمن الجميل، والحقبة الزمنية الماضية التي تسمى مجازًا زمن الطيبين.
** **
- أحمد السماري