من الكتب التي قرأتها باكراً كتاب أستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي «النقد الثقافي» وهو من الكتب التي أسست لطريقة تفكير جديدة لدي، حيث كان اشتغالي حينها لغويا جماليا شعريا نقديا، لا يتجاوز عوالم النص التي شغلت أغلب المبدعين والمفكرين والنقاد.
لكن ماذا فعل الغذامي بعبقريته عبر نظرية النقد الثقافي التي شغلت حينها كثيرا من المتابعين والمتلقين والمهتمين أمثالي؟
لقد نقلنا من مساحة ضيقة لمساحة شاسعة، ومن طريقة تفكير محدودة لطريقة تفكير رحبة، ومن اشتغال نصي معتاد إلى اشتغال نصي عميق!!
وهكذا هو في كل مشاريعه النقدية الثقافية التي تعتمد على منهجية رصينة، وعقلية مكتنزة بالعلم والخبرة، وعلى ذكاء متوقد منتج.
لم يكتف الغذامي بهذا الكتاب في ظل جدل واسع حول نظريته وفي خضم أسئلة كثيرة دارت حول طرحه الجديد الذي فتح أبوابا كثيرة لقراءة المسكوت عنه، والمضمر من الأنساق الثقافية الممتدة عبر العصور والتي لم يلتفت إليها الدارسون، وكأنه بذلك أول من عثر على بئر نفط بعمق الأرض تحت تلال متراكمة من الرمال!!
لم يكتف بذلك الكتاب بل أردفه بكتاب « إشكالات النقد الثقافي أسئلة في النظرية والتطبيق» الصادر حديثا عن المركز الثقافي العربي، وكأنه بذلك يريد أن يكمل نظريته ويزيح أي لبس عنها.
في هذا الكتاب الذي قسمه إلى خمسة فصول تناول عددا من الأسئلة والإشكالات، وحاول أن يفككها ويجيب عنها بأسلوبه العلمي المقنع، مستعينا في ذلك كله بشواهد شعرية وسردية وحياتية مختلفة.
لن أعيد ما طرحه الدكتور في الكتاب لكن سأعبر عن الأثر الذي تركه فيّ هذا الكتاب، وبعض ما استوقفني فيه وغيّر بعض قناعاتي، أو دعم بعض رؤاي وأنا المهوس بأعماق النصوص الأدبية والتاريخية والفنية، وبما اختبأ بها من مضمرات دالة على نسق ثقافي متصل وكاشف عن كثير من الطبائع البشرية المراوغة.
حديثه عن «المؤلف المزدوج» والنسق الثقافي المخبوء في اللاوعي الثقافي جعلني أؤمن بطبيعة الازدواجية التي يعيشها كثير من المبدعين والمثقفين، وأفهم أن هناك جملا ثقافية زئبقية ماهرة وماكرة في التخفي تلك التي تمثل المؤلف الآخر الذي لا نراه في الجملة الأدبية اللغوية، حيث إن الجملة الثقافية تحدث تحولات سلوكية مصيرية من حال إلى حال.
ومما استوقفني في الكتاب حديثه عن «المجد والسلطة» وذلك هاجس طالما راودني وأنا أتأمل وأقرأ المشهد الثقافي، حيث يرى أن المجد معنى ثقافي مخاتل، يعمل من خلاله المبدع على تحقيق المجد الفردي، ولتحقيق ذلك لابد من الدخول في تنافس مع غيره، ومن ثم سيحاول إزاحة الآخر المنافس، مما يخلق الشعور إن الآخر عدوي، لينتهي كل ذلك بتحقيق معنى السلطة الثقافية.
إن الغذامي في هذا الكتاب يفتح أمامك مدى واسعا للتأمل في مضمرات القول والنصوص، ومن ذلك حديثه عن «الوثبة العملاقة» تلك الوثبة التي تبدأ من خطوة صغيرة لتنتهي إلى مخاتلة نسقية تتمثل في كون البشري يجعل من المجد سلطة لكاسبه!!
أخيرا كيف يمكن للمبدع أو الفيلسوف أن يرى ما لا يراه الآخرون من خلال ثنائية المكان الواقعي والمكان الذهني أو الفلسفي، وبذلك يرى المبدع أو الفيلسوف ما لا يراه الآخرون.
باختصار شديد
أن تكون بصحبة الأستاذ الكبيرد. عبدالله الغذامي فذا يعني إنك ستضيف لعقلك وتبدل بعض رؤاك وقناعاتك، وستكون أجرأ في مواجهة السؤال، وفي فهم بعض ما يجري حولك وما يضعك بدائرة الحيرة.
الغذامي يحفزك على التفكير والتفكيك والقراءة والفهم وتجاوز السطحي إلى العميق والسائد إلى المغاير، وذلك ما فعله بي وأنا أقرأ كتبه العديدة بالأمس، وما فتقه بعقلي وأنا أقرأ كتابه الجديد اليوم.
يسعدني كثيرا أن أعترف أن الدكتور الغذامي من أشد المؤثرين في تجربتي الإبداعية، وفي محاولاتي الثقافية الفكرية، وأزعم أنني من خلال قراءته أصبحت أكثر جرأة في قراءة النصوص الأدبية والتاريخية والدينية، وأعمق في قراءة المشهدين الاجتماعي والسياسي.
** **
- علي النحوي