شهدت الساحة النقدية العربية في مراحلها المختلفة حضورًا متشعب الاتجاهات، ومتنوع المقاربات، ومتعدد القراءات، وقد رافق النقد هذه الاشتغالات محددًا مدى استجابتها لأسئلة التحديث، متخذًا منها دافعًا؛ لتدشين طرائق نقدية جديدة، وكان من بين من زاول هذا النقد( عبدالله الغذامي) حيث الحرص على الدمج بين مقاربة الأدب القديم والحديث، شعرًا ونثرًا، فضلًا عن الاطلاع على المستجدات في النقد الحديث؛ فالنص الأدبي لديه مازال قادرًا على الحوار، وكشف الخبايا والأسرار العميقة التي لم يبح بها بعد، ومع كل قراءة جديدة يتجدد النص، وتتسع ذاكرته الدلالية. وهذه القراءات تتغذى على منجزات الفكر النقدي الغربي، دون أن تنفصل عن التراث الأدبي والنقدي العربي، كما تتشكل من منظور معرفي ونظري خاص، يسائلها من حيث المنهج والأداة والإجراء، ثم الدلالة.
وفي ظل تحول الاهتمام من المركز إلى الهامش، فقد بدا متحققًا أن قراءة النصوص انفتحت على آفاق جديدة لم تكن الدراسات النقدية ترتادها، إلا على سبيل الإشارات السريعة إلى العنوان، أو المقدمة، أو الخاتمة أحيانًا؛ في حديث مجمل لا يعين خصوصيتها، أو أهميتها في علاقتها بالنص.
ومع الاهتمام في الآونة الأخيرة بالعتبات في النصوص الأدبية، إلا أن الالتفات إليها في النقد كان نادرًا، فضلًا عن مدونة نقدية لناقد كبير مثل عبدالله الغذامي، وهو مشروع بحثي مهم إذا ما رام العناية بالمشروع النقدي للغذامي، الذي عرف عنه اجتهاده النقدي والأكاديمي والإبداعي، وارتبط بالبوادر الأولى لحركة تجديد النقد في المملكة العربية السعودية والعالم العربي؛ إذ بدأ بمحاورة المناهج النقدية مبكرًا، وعبر بكتاباته النقدية حدود النقد العربي الحديث، بوعيه الجديد بالإمكانات الكامنة في النصوص الأدبية القديم منها والحديث، ولما عرف عنه من اهتمام بالهامش والمهمشين في دراساته النقدية، فماذا عن هوامش النص؟ وهل أولاها اهتمامًا خاصًا في مدونته النقدية؛ حيث الكتابة عن الهامش، وتوظيف الهامش في الوقت نفسه؟
لن أتحدث عن العتبات التي ربما تعود مسؤوليتها إلى الناشر كما في تصميم الغلافين الأمامي والخلفي-وإن كان المؤلف قد يتدخل فيهما-أو معلومات النشر، أواسم دار النشر ومكانها وغير ذلك، وإنما سأشير إلى العتبات التي تعود مسؤوليتها عادة للمؤلف، وإن شاركه أحد في اختيار عنوان أو ترجيح آخر، أو اقتراح إضافة عتبة أوحذفها أو تعديلها. وهذه العتبات مع تنوعها، تتحول إلى قرائن إشارية مهمة يمكن استنتاجها من حضورها، ودلالاتها، وعلاقتها بالنص/ المتن النقدي داخل الكتاب، وخارجه أيضًا.
يشير النقاد إلى تسمية القدماء للمؤلف الحجة الذي يصدر عددًا من الكتب ليستحق هذا اللقب، وهو ما يؤكده (فيليب لوجون) حيث لا يستحق المؤلف هذه الصفة بجدارة إلا بعد أن يظهر اسمه على قائمة من المؤلفات، وهو ما يتحقق في اسم(عبدالله الغذامي) إذ يحيل إلى جملة معطيات تحتم النظر إلى هذا الاسم بما يوافقها؛ فهو شخصية أكاديمية، وشخصية نقدية وأدبية، ولديه حضور فاعل في عدد كبير من المؤلفات المتنوعة، يكتب فيها بقلم الناقد المتبصر بما يكتب، وهذا التراكم المعرفي في حركة التأليف؛ أفسح له موقعًا مهمًا في خارطة الثقافة الداخلية والخارجية. واسم المؤلف هنا يمنح الكتاب أهمية تداولية، كما تتحقق فيه (الوظيفة الإشهارية) حيث يكون علامة تسويقية تضمن الحجاج الإشهاري، وتسوغ لتداوليته.
ويحضر الاسم كالمعتاد على أغلفة الكتب تارة باسم ثلاثي (عبدالله محمد الغذامي) أو بثنائي (عبدالله الغذامي) مشفوعًا باللقب الأكاديمي(الدكتور)، وخاليًا منه على الأغلب، مع تسيده للغلاف في الأعلى قبل العنوان؛ إذ يسجل حضورًا متكررًا في أعلى صفحة الغلاف في معظم الكتب، وربما يعود الأمر إلى سياسة الناشر، مع عدم استبعاد دلالة ما يمكن أن نستشفها من تقليد كتابي لدى المؤلف نفسه.
بينما نجد نمطًا مختلفًا لحضور اسم المؤلف على الغلاف في الكتاب المشترك مع عبدالنبي اصطيف (نقد ثقافي أم نقد أدبي) حيث يدرج الاسمان تحت العنوان؛ إذ لم تعد سلطة المؤلف مطلقة على نصه، فلم يتسيد الاسم الغلاف بل أضحى شريكًا مع غيره، وجاءت سلطة العنوان ومن ثم السلسة أقوى وأعلى؛ لتفتح أفق الحوار بين الناقدين/ المؤلفين اللذين كانا يمارسان الحوار النقدي مع انتمائهما إلى تيارين متباينين كما أشارت المقدمة، وكما أكد المتن النقدي بمباحثه المتتالية. ومع وجود مؤلفات نقدية تقوم على اشتراك أكثر من ناقد في تأليفها إلا أن الطريقة التي قام عليها هذا الكتاب، ومعها الطريقة التي كتب فيها الاسمان تعززان لمفهوم الحوارية بمفهومها الأعمق. ومثله بعض الكتب التي تنشر تحت مظلة مؤسسة كما في (كتاب الرياض) ضمن سلسلة؛ إذ يرد الاسم أسفل العنوان أيضًا، ويت قدم عنوان الكتاب ومعه عنوان السلسلة ليظهرا في أعلى الصفحة.
ويطول الحديث عن عناوين المؤلفات النقدية للغذامي، وحقولها الدلالية، وتقاطعاتها الثقافية، وهو ما لا يتسع المقام لتفصيله، غير أن أبرز ما يمكن أن نلحظه فيها سواء أكانت العناوين الرئيسة، أم الفرعية، أم الداخلية، خصوصية بنائها اللغوي؛ مما يشي بلغة شاعرية، تجعل من هذه العناوين علامات لغوية سيميائية؛ بالاستفادة من وسائل التشبيه والاستعارة والرمز والإيحاء. فهذه العناوين صيغت بوعي تام بالمتن وذات صلة بموضوعاته كما جرت العادة في هكذا مؤلفات، إلا أنها مالت إلى الأساليب اللغوية المبتكرة وغير المباشرة؛ وكأن الناقد ينزع إلى أن يكون أديبًا ناقدًا في الوقت نفسه؛ إذ نترقب مثل هذه العناوين عادة في الكتب الأدبية، ونبحث عن عناوين مباشرة عادة في الكتب العلمية والنقدية، وهو لا يراهن في ذلك كله على متلقٍ عادي يبحث عن آفاق مباشرة للعنونة، بل متلقٍ نوعي يزاوج بين مجازية العناوين، ودقة المتون، ووضوح جوانب طرحها.
ومع أن عتبة الإهداء ليست لازمة في الكتب على أنواعها، إلا أنها حين ترافقها؛ توحي بأهمية المهدى إليه، ومدى علاقته بالمؤلف من جهة، أو علاقته بالمتن من جهة ثانية. ولا تحضر العتبة كثيرًا في المدونة النقدية للغذامي، وقد يستعيض عنها المؤلف بكلمة الشكر؛ لما يحملانه من دلالة العرفان والتقدير للآخرين.
ويمكن الإشارة إلى حضور الإهداء في بعض الكتب، كما في إهداء كتاب (الخطيئة والتكفير) لوالديه، وبينما حضر اسمه الثلاثي بلقبه الأكاديمي على الغلاف، وقع الإهداء باسمه الأول(عبدالله) مجردًا من اللقب العائلي والأكاديمي؛ فالخطاب هنا شخصي من ابن لأبويه.
وفي (ثقافة الأسئلة) إهداء إلى المكان والإنسان، جدة وعبدالفتاح أبو مدين مذيلًا باسمه الأول (عبدالله) ومجردًا من اللقب الأكاديمي والامتداد العائلي كذلك، وفي (اليد واللسان) إهداء إلى محمد السليم.
وهذا النوع من الإهداء الخاص يهدف إلى تعزيز حضور المؤلف، وإثبات إنتاجه للنص، ومسؤوليته عنه، ويغدو رافدًا لاسم المؤلف نفسه، كما أن استقراء خطاب العتبات عمومًا يحيل إلى وجود المؤلف؛ فالعتبة تراجع مفهوم المؤلف المفتوح على مستويات عدة؛ إذ ينتج النص وعتباته، بينما يطلق مسمى الكاتب على من يكتب النص، أو يتولى حتى مجرد التدوين.
وتكثر التصديرات في المدونة، التي جاءت متنوعة في مصادرها، وأماكن حضورها في نظام العتبات بين التصديرات القبلية أو الاستهلالية التي تسبق المتون، والتصديرات الداخلية التي ترافق المتن في تحوله من جزء إلى آخر، وتسير مع الفصول والمباحث في تقدمها نحو استكمال الأطروحة النقدية شيئًا فشيئًا، بينما تخلو من التصديرات الختامية التي يختم بها بعض المؤلفين كتبهم معلنين انتهاء النص بما يشبه بدايته.
وتتنوع هذه التصديرات بين مقولات لفلاسفة ومفكرين، ونقاد وأدباء غربيين وعرب، وكأن لهذه التصديرات ميزة عن الاقتباسات والإشارات والإحالات التي ترد في المتون النقدية إلى هؤلاء جميعهم حسب طبيعة الموضوع؛ إذ تتسيد الفصول، وتغدو صوتًا خارجيًا يستعين به المؤلف؛ للتدليل على مرجعيته المعرفية الواسعة من جهة، ولتأكيد ما يريد قوله عبر رؤى الآخرين، وكأنه يستعين بهذه الأصوات لتغدو معبرة عن صوته أيضًا من جهة ثانية، كما أنها ذات سياقات تاريخية ونصية وثقافية، ووظائف تأليفية؛ تختزل منطق الكتابة لديه من جهة ثالثة.
أما عتبة (كلمة الشكر) فلا تكاد كتب المدونة تخلو منها، وتكون في بعض الكتب كما جرت العادة في بداياتها، وقد تذيل المقدمة بكلمة الشكر، أوتكون في هيئة ملحق يضاف بعد اكتمال متن الكتاب، وقبل بدء فهرسه وقائمة مصادره ومراجعه، أو تدرج في عتبة (الهوامش) كما في كتاب (القصيدة والنص المضاد). والمؤلف يدرج اسمه عادة تحت خطاب الشكر مجردًا من اللقب الأكاديمي.
وتوجه هذه العتبة إلى المحيط العائلي (الزوجة والبنات) لانشغاله عنهن فترة تأليف الكتاب، أو تتسع لتشمل الأصدقاء والآخرين الذين مدوا له يد العون بأي طريقة كانت، من إمداد بمخطوطات ووثائق البحث، أو مراجعة مسودة الكتاب، أو تفاعل في تويتر(x)، وتعليق على المقالات المنشورة في مواضعها.
كما يمكن أن توجه إلى متلقي المقالات المنشورة سابقًا التي أصبحت مادة للكتاب لاحقًا، كما في(القبيلة والقبائلية) وهو اتجاه مهم يمكن أن نرصد منه اهتمام الناقد بالمتلقي، ولاسيما النخبوي، الذي يعلق ويناقش، ويقدم ملحوظاته الداعمة، أو يراجع ويصوب ويدقق المدونة النقدية، أو يشجع على كتابتها منذ البداية، وهو لا يغفل في ذلك كله دور المتلقي العادي الذي يعلق على منشور في تويتر(x)، أو حتى ذلك الذي يحاول الإساءة إليه بمنشورات خاصة ترسل إلى بريده الإلكتروني مباشرة، أو على تويتر (x)، أو بكلمات تدس بين السطور في بعض الكتابات ذات الطبيعة الهجومية، إذ يضمنها كتبه النقدية؛ مما يتيح الكشف عن منظور دقيق ومهم لتطبيقات الفكرالنقدي الذي يسير عليه الناقد في كامل مشروعه ضمن نظام العتبات من جهة، كما يؤكد من جهة ثانية إيمانه بهذه العتبات، ودورها في طرح رؤية موازية لرؤية النصوص النقدية، وقد تكون مكملة أو داعمة لها.
ولعل هذا التجانس بين الهامش والمركز ينطلق من اهتمام الناقد في مشروعه النقدي بالهامش والمهمشين، وهو لا يغفل في كل مرة، وفي كل دراسة نقدية قدمها هذا التضاد بين: القوة والضعف، المركز والطرف، السيد والمسود، الأعلى والأدنى، وغيرها من الثنائيات التي ترتكز على هذه الثنائية (المركز والهامش).
ويحظى المكان الذي دونت فيه مادة الكتاب بفصولها ومباحثها وزمانها باهتمام الناقد ضمن عتبة التوثيق (مكان الكتابة وزمانها)؛ إذ لا يكاد يخلو كتاب من إشارة إليهما، وهو بعد مهم إذا ما رمنا النظر إلى طقوس الكتابة وارتباطها بالمكان العام قبل الخاص، وبفترة زمنية معينة تحيط بها متغيرات ومستجدات، وأحداث عامة أو خاصة لدى المؤلف/ الناقد، ثم ما يفرضه الزمان والمكان من طرح موضوعات معينة، ومناقشة قضايا خاصة، أو معاصرة آخرين لهم تأثيرهم في السياقين الزماني والمكاني.
وإن كان يغلب على هذه العتبة ارتباطها بداخل المملكة وخاصة (الرياض وجدة) إلا أننا لا نعدم وجود صيغة أخرى لها ترتبط بالكتابة خارجها كما في (الخطيئة والتكفير) مدعومة بإشارة أخرى وردت في عتبة الشكر للزوجة التي شاركته عناء تأليف الدراسة خارج المملكة،
وإن كانت بعض الكتب تعتمد في مقدماتها على آخرين يتولون هذه المهمة؛ فإن كتب الغذامي تعتمد على مقدمات المؤلف نفسه؛ لتدخل ضمن الخطاب المقدماتي الذاتي، إذ تفرد المقدمات للحديث عن عنوان الكتاب وارتباطه بالمتن، وأسباب تأليف الكتاب كما جرت العادة، وتشير كثير من المقدمات إلى أن أصل الكتاب مقالات منشورة في مجلات أوصحف، لكنها تتجاوز ذلك إلى مقدمات منهجية؛ تحدد الأدوات الملائمة للمراجعة والتحليل والتأويل، وتكون فاعلة في الكشف عن آليات اشتغال المؤلف في كتبه، كما تحقق الوظيفة الاستباقية؛ وفعل الاستباق يؤسس لدور مهم في توجيه القراءة والتنبؤ بإرهاصاتها.
وإن كانت المقدمة من المتعارف عليه في الكتب النقدية خلافًا للكتب الأدبية التي لا يلزم وجودها؛ بسبب اختلاف طبيعة النصين النقدي والأكاديمي، إلا أن هذه المقدمات في مدونة الغذامي النقدية، يمكن أن تكون أبحاثًا مستقلة، وتحظى بدراسات خاصة. ومع رفدها للمتن النقدي الذي تنشر معه في كتاب واحد، فإنها تمثل أنماطًا قرائية متنوعة تقترب من المتن النقدي؛ لتؤسس له، وتعرف به، وتدخل القارئ إليه، كما تبتعد عنه لتتحدث عن ظروف وملابسات (ما قبل الكتابة) في الوقت نفسه، فنكون في هذه المقدمات أمام أشبه ما يكون بالميتانقد القبلي، والميتانقد البعدي-إن جازت التسمية-إذ تكتب المقدمة عادة بعد تأليف الكتاب كما هو معلوم؛ لتتحدث عن مادته بعد اكتمالها وتهيئتها للنشر.
ومن أنواع المقدمة الأخرى، مقدمة السلسلة لا مقدمة الكتاب نفسه كما في كتاب (نقد ثقافي أم نقد أدبي) التي جاءت بعنوان (حوارات لقرن جديد) وينصرف الهدف عادة في مثل هذه المقدمات إلى استحداث عمل نقدي جماعي يستهدف تأليف الكتب، ويستند إلى تقاليد الكتابة التي تقرها مثل هذه المؤسسات المسؤولة، كما قد يفصح عن أسباب إصدار هذه المقالات في كتاب واحد بعد نشرها متفرقة في مرحلة أولى.
وللمقدمة تسميات أخرى في بعض الكتب، كما في (كلمة النص) في كتاب (تشريح النص) و(تنوير وفاتحة) في كتاب (ثقافة الأسئلة) و(هذا الكتاب) في كتاب (الكتابة ضد الكتابة).
ولما كانت(الملاحق) عتبات تلحق بآخر الكتاب؛ لتفسيره، أو تقديم معلومات عنه قبل الخروج منه، فإن الإلحاق إجراء يستلزم وجود أصل سابق وفرع لاحق، ويفترض وجود علاقة بينهما؛ إذ تأتي مثل هذه العتبة بعد اكتمال التجربة الكتابية النقدية، لكنها تغدو ممهدة للتجربة القرائية التالية، وتتضمن عادة ما يعزز رؤية الكاتب ومنهجه، أو ما يحيط بمدونته النقدية ومفاهيمها، أوما يتعلق بمتلقي العمل وخاصة في حال نشره مسبقًا في سلسلة من المقالات.
وقد يكون الملحق موضعًا لكلمة الشكر التي ترجأ حتى هذه اللحظة من الكتابة، أو عرضًا لنماذج من الرسائل السلبية التي قيلت عن المؤلف، وعن مشروعه النقدي وملابساته، مع سيل من الاتهامات والرسائل الكيدية كما في (حكاية الحداثة). وقد يتفهم القارئ إثبات المؤلف لبعض المقولات الداعمة لكتابه أو مشروعه النقدي عمومًا، لكن في حال العكس تمامًا فإن الأمر يفهم في سياق السخرية من هذه الرسائل والتعليقات وأصحابها سواء أعين الاسم أم لم يعين، وهو تصدٍ لكل من لم يفهم حقيقة المشروع وملابساته وأهدافه، وهو نداء لقارئ النص ليشرع في قراءة متلائمة مع طبيعة النص، بعيدة عن أحكام الآخرين وإسقاطاتهم اللاعلمية.
ومن الجوانب التي يحسن الإشارة إليها فيما يتعلق بالعتبات عمومًا في المدونة، أهميتها في الربط بين منجزات الناقد، سواء أتعلق الأمر بسلسلة مقالات نشرت متفرقة ثم جمعت في كتاب كما أشارت كثير من مقدمات كتبه، أو ما اتصل بعلاقة كتابين أو أكثر ودورها في استكمال مشروع نقدي محدد كما في( المرأة واللغة) بجزأيه، وكما في كتاب(تشريح النص) الذي صرح في مقدمته بأنه امتداد لكتاب(الخطيئة والتكفير)؛ فهو يعمل على استكمال مشروعه النقدي في مؤلفات متتابعة؛ إذ إن هذا المشروع ولسعة الأفكار التي يطرحها وتناسلها من بعضها البعض تهيئ لهذا التعالق بين التجارب الكتابية. ولعل في تناسل هذه الأفكار النقدية دليلًا واضحًا على أن ما يكتبه الغذامي يصنف ضمن المشروع النقدي الذي يمر بمراحل، ويؤسس لنتائج، ويطمح إلى استكمال حلقات النقد، ولم يكن يطرح المقاربات والقراءات النقدية في مناطق نقدية متباعدة قد تدفع إلى التشتت بين حقل وآخر، وهذا ما تقوله العتبة وتعززه في علاقتها بالمتون النقدية.
وليس ببعيد عن هذه الممارسة ما يفعله الناقد من إحالة إلى كتبه ومقالاته ضمن كتب أخرى له في حالة من التناص الذاتي، مع أعمال المؤلف الأخرى وعتباتها النصية، وهو مؤشر مهم لفهم السياق الذي يندرج فيه التأليف والكتابة؛ إذ لم تعد العتبة مفسرة لأكوان الكتابة الحافة بها فحسب، وإنما تكون مشبعة بعتبة أخرى أو بنص آخر للمؤلف نفسه. كما تتشكل في هيئة(تنبيه) إلى قراءة نص نقدي سابق للمؤلف على مستوى القراءة الفعلية، أو القراءة الناقدة التي تسعى نحو إيجاد رابط بين النصين؛ بوصفهما تجربة واحدة، أراد المؤلف فصلهما في نموذجين منفردين. وهو في ذلك يركز على دلالات النص السابق؛ لتوظيفها في فهم أعمق لدلالات النص اللاحق، فالعتبة هنا تكون ميدانًا للكشف عن كيفية تكوين المكتوب الجديد في علاقته بالمكتوب السابق؛ مما يلغي إمكانية انغلاقه على ذاته، ويربطه من جهة أخرى بالكتابة النقدية للمؤلف في مجملها.
وبعد، فإن دراسة عتبات المدونة النقدية للناقد(عبدالله الغذامي) يمكن أن تفتح المجال لدراسة مشروعه النقدي من زاوية الهامش الذي تحول إلى مركز، ومن عتبات تحف بالنصوص النقدية لكنها جزء لا يتجزأ منها؛ لبيان القوة الإنجازية الفنية والدلالية والتداولية لهذه النصوص العتباتية في المدونة النقدية، ولاسيما أن العتبات ترتبط بتشكيل الكتب النقدية وليست النصوص فحسب، كما تمثل بوصفها ركامًا سيميائيًا ومجالًا ملائمًا لدراسة العلامات بأنواعها، مع إمكانية استنتاج وظائف جديدة لها قد لا تكون في العتبات التي ترتبط بالكتب الأدبية، التي حظيت بدراسات كثيرة ومتنوعة كما هو معلوم.
*أشير هنا إلى بحث أعددته عن المدونة النقدية للناقد التونسي (حسين الواد) -رحمه الله- بعنوان (عتبات الكتابة: قراءة في مدونة حسين الواد النقدية) قدم في الندوة العلمية الدولية (حسين الواد باحثًا ومبدعًا) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القيروان في تونس، وهو تحت النشر في كتاب الندوة.
** **
د.حصة المفرح - أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة الملك سعود.