لا مناص من استعادة العبارة المتداولة «إذا كنت لا تحب القراءة، فأنت لم تجد الكتاب المناسب» في هذا العرض، وأنت تقرأ كتاب «إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق» لعبدالله الغذامي؛ إذ هو الكتاب المناسب الذي يدفعك إلى القراءة دفعًا، وذلك لأسباب تتضافر في تقديمه، منها: لغته العلمية المبسطة، المنسوجة من السهل الممتنع، إلى جانب موضوعه العميق الذي يضع لبنات إضافية أخرى على بناء الغذامي عن النقد الثقافي.
يأتي تأليف هذا الكتاب استجابة لأسباب منها: كونه يجمع شكر المؤلف وتقديره لعدد من الجهات العلمية في العالم العربي التي دعته خلال مرحلة عزل الكورونا لإلقاء محاضراته فيها، ومن ثم حواره مع أسئلة بثت هنا وهناك، ومنها استمرار لما تولد من شعور سابق بالإيمان بأن النقد الأدبي قد استنفد غايته، ولم يعد لديه ما يقدمه من أجل كشف المضمرات، ومنها رغبة المؤلف في ترسيخ بعض المصطلحات وتثبيت فاعليتها بعد أن وجد خلطًا كبيرًا بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وعثر على بعض اللبس في التفاعل مع المفاهيم الرئيسة الستة: الجملة الشعرية، النسق المضمر، المجاز الكلي، التورية الثقافية، الشعرنة، المؤلف المزدوج، من قبل بعض الباحثين؛ لذا فإن هذا الكتاب يصنف من خلال علاقته القوية جدًا مع كتاب النقد الثقافي الصادر عام 2000م، فهل كان الابن الناضج لسابقه؟ أو هل لنا أن نعد الكتاب وفقًا لاشتغالاته الموازية التوأم الفكري للكتاب السابق؟ كل الاقتراحات السابقة مقبولة وممكنة، أو لعله البديل العملي التطبيقي المعاصر لسابقه، وهو المعالج الأولي لإشكالات وقع فيها بعض الدارسين، لكنه يؤكد قبل هذا وذاك الجهد الدؤوب لباحث رسخ أدواته المنهجية منذ عقود، فازدادت صلابة ومهارة ولاسيما منهجية النقد الثقافي.
إن التفاعل مع المناهج النقدية سيضعنا بلا شك أمام بعض الفجوات، التي قد يقع فيها الدارسون والنقاد، وغالبًا ما تترى تلك الأخطاء، حتى يصبح التفاعل معها بوصفها أخطاء تشبه الصواب، لكن مؤلف النقد الثقافي حرص على أن يضع مؤلفًا مفصلًا، استدراكًا على ملحوظات رآها على آخرين، وليست على ما أورده في كتابه السابق. هنا يتجلى نوع من الرصانة المبتغاة لتجويد هذه المفاهيم التي أصبحت مشاعة بين أيدي الباحثين، وخلقت إشكاليات في المعالجة لدى بعضهم.
إن أبرز ما يميز هذا الكتاب عن سابقه دقة الأمثلة وتميز تحليلها؛ إذ جاءت مفصلة بوضوح، كي تخلق في بعض جوانبها فرص افتراض محددة؛ مثل الجمل الثقافية المشابهة لما في حياتنا المعاصرة، ومنها: (بؤ بشسع نعل كليب)، و(حياة السود مهمة)، ومثال وقوع ابن خلدون في وعي ونسق المؤلف المزدوج، ونسق الشعرنة بوصفها «ذات بعد كلي عابر لكل الخطابات مما يجعله يتحول من المعنى الفردي إلى المفهوم الكلي» ص 34، هنا لا مناص من القول: إن هذا الكتاب كان ذا صيغة استثنائية عن سابقه، مع أنه يتماهى معه في مفاهيمه وعرضه، إلا أنه يستند إلى مزيد من الأمثلة في الفلسفة والسرد، فأضحت تطبيقاته أكثر اتساعًا في حقولها، وأدق وأعمق إقناعًا في تلقيها وقبولها.
** **
أ.د. معجب العدواني - أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود.